صحيفة المثقف

الحرية والتجديف وجدلية الثابت والمتحول

عصمت نصارما زلنا نتساءل هل حرية الاعتقاد والفصل بين الثابت والمتغير من الآليات التي تمكننا من معالجة التطرف؟

إنّ هناك العديد من المصطلحات التي نرددها دون أن نحدد معناها، ثم نطالب بها على أنها واضحة بذاتها، وحق لا يمكن إنكاره، شأن كلمة حريّة، فما المقصود بها؟ فعندما نقول: حرية الاعتقاد مثلاً لا يقصد بها نقض الراسخ من ثوابت الآخرين، أو الاجتراء على المقطوع بصحته، أو التهكم على العبادات، أما دون ذلك من نقد آراء الفقهاء أو تحليل كتب التراث أو رفض فتاوى أو اجتهادات، فكل ذلك مقبول إذا كان نتاج علم وفحص ودراسة، ودون ذلك يعد تطاولاً واعتداءً على حريّة الآخرين فيما يعتقدون، وعندي أن المجتمعات التي تعاني من الاضطهاد الفكري هي التي تتسم بالتعصب وغيبة العلماء وتعملق المدعين والحمقى، فللتعبير عن الرأي مائة باب يعصم صاحبه من الإطاحة بالآخر أو ازدراء معتقداته.

وقديمًا كانت الفرق الإسلامية تتساجل وتتناقش، ومعيار صدق المتساجلين هو صحة آرائهم هو البرهان والحجة، وفي العصر الحديث ظهرت العديد من النزعات النقدية التي وصلت إلى حد الاجتراء؛ مثل: إعلان إسماعيل أدهم لإلحاده في رسالته «لماذا أنا ملحد؟»، وما جاء في كتاب طه حسين في «الشعر الجاهلي»، وفي كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، ولما كان العقل الجمعي القائد تتوفر فيه الحكمة والمعرفة والقدرة على التناظر والتساجل لم يتعرض أولئك الذين اجترؤوا أو باحوا بأفكارهم إلى قمع أو إرهاب، فقد ردّ على إسماعيلَ أدهم أحمدُ زكي أبو شادي في رسالته «لماذا أنا مؤمن؟»، ومحمد فريد وجدي في «لماذا هو ملحد؟» وغيرهما، وتفاصيل ذلك تجدها في كتابي «ثقافتنا العربية بين الإيمان والإلحاد»، أما كتابا «طه حسين» و«علي عبد الرازق» قد قُوبلا بعشرات المقالات والكتب النقدية، وجميعها لم يحرض على قتل صاحبيهما أو التنكيل بهما، بل احتكم الخصوم إلى القانون ولائحة الأزهر.

والمقصود مما أوردناه هو: أن المجتمع آنذاك كان شاغلاً بالعلماء القادرين على التساجل والتناظر، أما في أيّامنا هذه فما أسهل على المتخاصميْن إلا تبادل الطعون والشتائم والبذاءات، فهذا يكفّر، وذاك يتّهم الآخر بالجهل والتخلف.

 

وخلاصة القول: أن حريّة الاعتقاد وحريّة الفكر، بل وسائر الحريّات تحتاج إلى وعي في الممارسة، وإلا أصبحت فوضى، والوعي يتمثل في ضبط النقود، فليس من حق الجاهل التصدي لأمور تخرج عن نطاق درايته ودراسته.

أما الحديث عن علاقة الثابت والمتغير فله ضوابط وقواعد، فالثابت عند الأصوليين هو المقطوع بصحته وثبوته ومعناه ودلالته من النصوص، وهو الواجب والضروري من العبادات، وهو المتصل بأصول الإيمان والإسلام في العقيدة، ودون ذلك فهو متغير ومتحول، ومن ثم يُعمل فيه العقل بالاجتهاد والتأويل، ويؤخذ على المتطرفين قلة بضاعتهم في هذا المضمار؛ فهم يخلطون بين إجماع الفقهاء والثابت والشرعي، وإذا نظرنا للإجماع في حد ذاته فإننا لن نجده في تاريخ الفكر الإسلامي قد تحقق إلا على ثابت في العقيدة أو العبادة، ودون ذلك من أحكام فقهية قد اختلفوا حولها، ولم يكفر بعضهم البعض؛ وذلك لتيقنهم أنهم مجتهدون ومجددون، أما المقلد فقد يقع في معظم الأحايين في شرك التعصب وفي حلبة المصارعة التي تنتصر بغير ضابط؛ لما تعتقد في صحته، وعندي: لو ميزنا في ثقافتنا الدينيّة وأحاديثنا ومناقشاتنا بين الثابت والمتغير لقضينا على ظاهرتين خطيرتين؛ هما التطرف والإلحاد؛ فصاحبا الظاهرتين يتوهم القضية ويدافع بغير فهم عن موضوع لا أصل له في الشرع ولا في الدين، ولكنه موروث، أو قال به مشهور فظنه الناس أنه جزء من الدين.

ولعل الخلاف بين الفقهاء حول الناسخ والمنسوخ يساهم بحجم كبير في هذه القضية؛ أي نسخ السنة للقرآن؛ فالمقصود بذلك –عند الجمهور- أن السنّة هي الشارحة والمكملة والموضحة للأحكام التي وردت في القرآن، أما النسخ بمعنى الإلغاء التام فهو مختلف عليه عند الشافعية، فلا يجوز نسخ حكم بخبر الواحد، ولا يجوز أيضًا نسخ حكم المتواتر أو مؤكد عليه في القرآن، ويعني ذلك أن الفقهاء قد جوّزوا، والتجويز لا يعني الوجوب، والحكم فيه احتماليّ، ويرجع الجواز إلى عدم الدراية بتاريخ رواية الحديث، هل هو أسبق من الآية المنسوخة، أم هي الأسبق؟ فالنسخ لا يجوز إلا بعد حكم شرعي قد استقر، والمتطرفون يجعلون الجائز واجبًا، والمؤول حقيقيًّا، وهكذا يحدث اللغط دون دراية وعلم.

أقول: إن هناك قضايا شرعيّة تحتاج لفحصها الإلمام بعلوم القرآن وعلوم السنة والفقه المقارن، ومن يجهل تلك العلوم لا ينبغي عليه أن يتصدى لا للدعوة، ولا للفتوى، ولا رئاسة الجماعات؛ لأنه بذلك يكون ضالاًّ ومضلاً. فاللتساجُل قواعد وللتحاور آداب يجب الالتزام بها مع الفصل بين أحاديث العوام ومناقشات العلماء.

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم