صحيفة المثقف

أقدام العابرين

بكر السباتين(1) أقدام العابرين

بدا الجو قائظاً، وكان الطفل غانم ابن الثامنة من عمره، يعاون أخاه في جر عربة الخردوات القذرة وسط البلد وفي زحام المدينة وضجيجها وقد تلوثت ملابسه المرقعة بالقذارة والسّخام، فانبعثت منه روائح النتانة وأكسدة المعادن.. وكانت عيونهما تنقبان عن علب المشروبات الغازية الفارغة.. فيلتقط غانم واحدة منها كانت مركونة جانباً، ثم يدوس عليها بنعل حذائه المثقوب، بعد ذلك يدسها خلف حقيبته البالية المركونة في زاوية العربة من الداخل.. أثناء ذلك، يتذكر غانم وهو يتفحصها باهتمام كيف أنه حل واجباته المدرسية، ويؤكد على نفسه متمتماً والدموع تترقرق في عينيه اليقظتين رغم ذبولهما:

"يجب أن أحصل على أعلى الدرجات كي تستريح أمي في قبرها"

ثم يتذكر وعده لها ذات يوم:

"سوف أصبح مهندساً أو طبيباً كما تريدين يا أماه"

ورغم أن الرياح حذفت غانم إلى طريق الشقاء، إلا أنه ظل مصمّماً على استرداد حلم والدته؛ لذلك استمر في تفوقه .. صحيح أنه الآن يستهلك من وقته الكثير ليساعد شقيقة الأكبر في بيع الخردوات من أجل مساعدة الأسرة بالمصاريف؛ لكنه أيضاً احتفظ بوعده الذي قطعه على نفسه، وراح يتصرف بمسؤولية كالكبار.

وفجأة.. بينما كان غانم ينقب عن رزقه في الطرقات الممتدة كالشريان وسط البلد، لاحظ قطعة شوكولاتة تسقط من يد طفل غرير كان محمولاً على صدر أمه، فترك ما بيده من نفايات، ثم هرول ناحيتهما.. والتقطها على الفور، وراح ينده السيدة الأنيقة وهي تنقر الأرض بكعب حذائها المفصص بحبيبات الخرز.

 زكمت رائحةُ غانمِ القذرةِ أنفَ السيدة، فاستدارت وقد اشمأزت من هيئته الرثة والدهشة تأكل رأسها! فصرخت حابسةً أنفاسها وهي تضغط على أرنبة أنفها بالسبابة والإبهام.. ثم أخذت توبخ غانم الذي بدا أمامها كمن خرج لتوه من مكب النفايات:

ما هذه القذارة! هيا أغرب عن وجهي! أين أمهاتكم يا حثالة الأطفال! ألا يوجد من يحاسبهن على إهمالهن لكم وأنت تجوبون الطرقات دون حسيب و رقيب! إذهب حتى لا أبلغ عنك رجال البلدية!

خرجت السيدة عن طورها، ثم انشغلت في البحث عن علبة المعقم داخل حقيبة يدها، واستدارت بعد ذلك كأنها تراقص ظلها في حفلة راقصة، وخصرها يتمايل بطفلها المحمول الذي استقرت مؤخرته على ردفِها الأيمنِ البارز.. ثم سارعت الخطا مبتعدة عن الطفل غانم وقد بدا لها كأنه جيفة لا تطاق.

حاصرت الأسئلة البريئة رأس غانم.. وقد ترك قطعة الشوكولاته تتدلى من يده رويداً رويداً.. فالتقطتها عينا الطفل الغرير المحمول على صدر أمه.. ثم تبادلا النظرات.. وابتسما.. فسقطت حبة الشوكولاتة من يد غانم على الأرض فأحدثت في قلبه البريء زلزالاً هز كيانه، حتى فاضت دموع الكبرياء من عينيه! وقد شعر بأنه فعل حسناً.. فلم يكترث وقد غمره إحساس مباغت برضا والدته، فأخذ يخاطبها في سره:

" لم أخطئ يا أماه.. "

.. ثم استجاب لنداء شقيقه فانضم إليه.. وراح يتفحص بعض المخلفات البلاستيكية في ركن مجاور لإحدى البقالات، متناسياً قطعة الشوكولاته التي داستها أقدام العابرين.

***

(2) الفاجرة والأوغاد

جلست رباب على الكرسي الواطئ إلى جوار بعض قواوير الزهور الفخارية المركونة على سور الشرفة الرخامي، المطلة على حديقة البيت.. حيث كان زوجها الطاعن بالسن يمرن قدميه على المشي، فبدا وهو يمشي متكئاً بيديه على الجدار كأنه طفل غرير يتدرج في المشي.. تتذكر رباب كيف أن الظروف أجبرت أهلها على تزويجها من هذا الزوج العاجز المستهلك الذي لا يشبع شبقها.. فيبدو لها كسلحفاة بليدة، ورغم ذلك كانت تبرر لنفسها هذا الخيار وخاصة أنه كتب لها نصف ثروته.. فما دام الأمر كذلك فلتحترق في فراش الشهوة غيظاً ما دام المستقبل سيشرق عليها ذات يوم فتظفر بالثروة التي وهبت لها بموجب وصية زوجها كما أسر لها عشيقها نادر، محامي العائلة.. وكان يوصيها بالصبر فزوجها متهالك وأيامه معدودة.

ولكن ماذا لو ماتت قبله! وقد قضت حياتها في خدمته، كأنها ممرضة كتب عليها الشقاء! فتردد في أعماقها: "أليست لي رغبات كباقي نساء الأرض! تباً لها من حياة غير عادلة"

من هنا كان الخيال الجامح يأخذها في ليالي الوحدة إلى مواخير الخطيئة فتتقلب في أحضان الرجال دون حساب، تستمني غير آبهة بكرامة زوجها المتهالك كالجثة إلى جوارها في الفراش وقد تعالا شخيره الذي خالطه أنين التعب المزمن، حتى تلجم رغباتها المكبوتة، ثم ترمقة بنظرات متشفية كأنها تنتقم من جسده العليل، فتسحب الغطاء لتستر عريها وتلف به جسدها البض الذي أطفأ ناره الخيال، ثم تذهب إلى الحمام؛ كي تغتسل، فلا تبّرد المياهُ المنثالةُ على رأسِها أفكارَها الشيطانية المتأججة..

إذا ماذا تنتظر! لتقتله إذاً وتستريح!

وها هي في الشرفة تتربص بزوجها المغبون.. تنتظر الصدفة كي تنفذ خطتها.

أخذ الشيطان يعربد في رأسها.. يحرضها على تحرير مستقبلها من هذا العبء الثقيل الذي يُحتسب عليها زوجاً.. وها هي تراقبه بنظرات الحقد الأعمى.. شهوة الانتقام تخرج من رأسها كالبركان، لا تطيق مشاهدته وهو يتحرك ببطئ في الممر تحت الشرفة الحجرية المظللة بالمعلقات النباتية.. ارتشفت رحاب قهوتها وأركنت الفنجان جانباً.. ثم لامست أناملها زهرة القرنفل في القوار الواسع المجاور.. فلا تدري ماذا يحدث له وهو يقترب من الحافة كأنها لم تنتبه لكوعها الذي جعل يباغت صمتها ويدفع به رويداً رويداً.. وفي اللحظة التي دخل فيها المحامي الفناء حتى صار قبالة زوجها.. كان القدر قد أكمل دورته واستقر الحدث في نقطة الصفر، فيسقط القوار الفخاري مباشرة على رأس زوجها المغبون الذي قضى نحبه على الفور.. وتصاعدت أنّاته إلى السماء كفراشات بيض استلبتها زهرة النور.. وكان المحامي آخر من استمع إلى خوار أنفاسه التي لفظها جسده الواهن المرتعش.. حتى فغر فاهه وهو مسجى بين يديه.

أما رحاب فقد شدت انتباه المحامي الذي همس في سره:

" قتلته الفاجرة!"

في غضون أيام كان ملف التحقيق في الحادثة قد بوشر العمل به، وكان المحققون يراعون ظروف رحاب التي حامت حولها الشكوك، ورغم ذلك كانت تلك الزوجة اللعوب تراهن على ثقتها بعشيقها المحامي، الذي طالما سقته من خمر أنفاسها وهما يتقلبان على جمر اللقاء الحميم في فراش الزوجية أثناء مبيت زوجها في المستشفى، كلما اشتعلت الشهوة في جسدها البض باحثة عمّن يطفئها من فرسان المواخير، حتى أمسى كالخاتم في أصبعها.. وكانت تلك اللعوب تعده بالمستقبل الوضاء حينما يباغت الموت زوجها، هامسة في أذنه:

"السلحفاة أجلها قريب، والمستقبل لنا يا حبيبي"

كانت دوامة الشكوك بعد الحادثة تحاصر رحاب، لذلك أخذت تتصنع الحزن العميق، فكلما كانت تباغتها الغيبوبة؛ تجتاحها الكوابيس الهستيرية، حتى وهي في قفص الاتهام حتى ضاق القضاة بها ذرعاً فلم تلجمها إلا مطرقة القاضي وهو يدينها بناءً على شهادة المحامي العشيق نادر الذي خانها وشهد بالحقيقة بعدما أوهمها بغير ذلك، حينها قال مهزوماً كمن خرج من حلبة المصارعة مضعضعاً، بينما المتهمة تشد بيديها القضبان كنمرة مهيضة الجناح:

" يا سيدي.. هي الفاعلة وأشهد الله على ما أقول!"

وأثناء ذلك كان يتذكر تفاصيل الموقف، وكيف أن عينيها الشبقتين التهمتا كل شيء حتى انتابه شعور بالخوف من المجهول وقال في سره:

" لا شك سأكون ضحيتها المقبلة"..

وأردف أمام القاضي قائلاً:

"السيدة رحاب التي تقف أمامي في قفص الاتهام هي من دفعت بكوعها قوار القرنفل الفخاري عن قصد، حتى سقط على رأس زوجها فتسبب بموته فوراً.. لقد هبط الرجل على الأرض مدرجاً بدمائه فتداعى الناس إلى موقع الحادث على صراخ الزوجة رحاب.. نعم يا سيادة القاضي كل ذلك حصل أمامي وقد حلفت يمين الله على ذلك ".

وأخيراً أدينت الظنينة رحاب بجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، وأحيلت أوراقها إلى المفتي بموجب المادة 328 /1 من قانون العقوبات.

في هذه الأثناء اقتربت صغرى بنات الزوج المغدور من المحامي وتأبطت ذراعه وهي تنظر شزراً إلى زوجة أبيها التي انهارت وهي تبكي مودعة عالم "الذئاب" وكأنها ظلمت وصوتها المتعب يردد بوهن شديد:

"بريئة يا سيادة القاضي.. أما أنت أيها العاشق الخائن فقد أحسنت الصيد هذه المرة لكنك ستقتفي أثري ذات يوم قريب.. هذا مصير الأوغاد".

***

قصتان قصيرتان

بقلم بكر السباتين

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم