صحيفة المثقف

إعلام "كورونا".. لا مكان للخاسرين

عبد السلام فاروقمن بين أهم التناقضات التى ظهرت على الساحة مؤخرا أن الفضائيات ووسائل الإعلام المرئية باتت تمثل أحياناً مصدراً كبيراً للشائعات والأكاذيب وإثارة الهلع..فى حين بات الإعلام الجماهيري كالصحف والسوشيال ميديا مصدراً للحقائق البديلة وبث الطمأنينة والتفاؤل!

السخرية .. سلاح المصريين ضد الخوف

تعليقات صحفية وإعلامية كثيرة، عربية ودولية، صَبَّت اهتمامها حول طريقة المصريين فى التعامل مع أزمة كورونا . قالوا : "أن تلك طريقة المصريين المعتادة لمواجهة الأزمات، لكن ماذا عن مواجهة الموت؟ هل سخريتهم من نوع الكوميديا السوداء؟ أم مؤشر للتسليم واللامبالاة؟

تلك الملاحظة ليست جديدة، بل جاءت على لسان كثير من المؤرخين ومن بينهم مؤرخى علوم الوبائيات .. فقد جاء فى مقدمة كتاب الأوبئة والتاريخ لشيلدون واتس اقتباس من كتاب قديم آخر يسرد مشاهدات "إلكسندر كينجلاك " عام 1835م لتصرف المصريين تجاه وباء اجتاح المدينة، فيقول: (القاهرة والطاعون.. كان الطاعون سيد المدينة طوال فترة إقامتى، وظهر الخوف فى كل شارع وكل حارة .. يمتلك الشرقيون حظاً وافراً أكثر من أوروبا تحت بلوى هذا النوع .. نُصبت الخيام، وعُلِّقَت المراجيح لتسلية الأطفال-عيد كئيب- لكن المسلمين تباهوا باتباعهم لعاداتهم القديمة غير عابئين بظلّ الموت). ويعلق شيلدون على كلام كينجلاك قائلاً : ( أثناء الحياة والكتابة فى مدينة إسلامية كبيرة بعد 160 سنة من ملاحظة كينجلاك صدمتنى استمرارية وحدة الثقافة الإسلامية عندما تُواجَه بأزمات تهدد الحياة..)، وفى نهاية تلك المقدمة الطويلة يعود ليقول: (.. يبقَى أن الناس العاديين من النوع الذى لاحظه ألكسندر كينجلاك فى المقابر القاهرية عام 1835م، ورأيته أنا فى شوارع القاهرة مراراً وتكراراً، أظهروا رغبتهم فى قَبول تساوى القيمة والكرامة لكل شركائهم من البشر.. فى مثل هؤلاءء الناس توجد بذور مستقبل أكثر إنسانية ).

السر إذن ليس فى السخرية ذاتها، بل ما تحمله السخرية من دِلالة..

سخرية المصريين فى زمن الأزمة بهذا الفهم، لا تعنى الاستسلام واللامبالاة السلبية، بل هى ذات دلالة إيجابية فلسفية عميقة، حيث ينبع الشعور بالأمان من جَوف مشاعر الخوف بالتهوين منه. فالخوف شعور، والتهكم رد فعل مضاد يهدف لقهر مشاعر الرعب والفزع . ومثل هذا النوع من التهكم لا ينتمى للكوميديا السوداء والسخرية العدمية المريرة ، بقدر ما ينتمى لعمق الفهم ورباطة الجأش.

إن نهايات أغلب الكتابات الخاصة بالأدباء الجادِّين أصحاب الرؤى والأفكار العميقة المؤثرة، كانت من نوع السخرية والملهاة .. هذا ما حدث مع المازنى ويحيى حقى وأنيس منصور وحتى أحمد شوقى الذى تأثر فى هذا المَنحَى بوليم شكسبير. مثل هذا الأمر قد تلاحظه حتى لدى النقاد، فقد اهتم بعض كبار النقاد والفلاسفة كهنرى برجسون وهوبز وكانط وكيركجورد، بل وحتى سقراط وأفلاطون بالفكاهة والسخرية وتحدثوا عنها بإسهاب.. وللدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق كتاب نقدى هو (الفكاهة والضحك) يتحدث فيه عما يُدعَى "الجروتسكية " وهى أسلوب من أساليب الفن والتصوير تمتزج فيه السخرية بالرعب.

وهو أسلوب فنى ساد فى فترات القرون الوسطى التى انتشرت فيها الأوبئة والجوائح . وتنسحب الجروتسكية فى نظر د. شاكر على بعض الأفلام الهوليودية الحديثة، كسلسلة أفلام  "Scary Movie"  والتى يختلط فيها الرعب والمشاهد الدموية بالضحك والتهكم والمحاكاة . والمقصود هنا هو التهوين من أثر الخوف لإحداث الطمأنة.

بيزنس السوشيال ميديا

فى حين أدت أزمة وباء كورونا إلى أزمة موازية اقتصادية عالمية فقَدَ على إثرها الكثير وظائفهم، وعانَى كثيرون من تدهور أحوالهم المادية، حتى من رجال الأعمال الأثرياء، لدرجة أن يهدد بعضهم بالانتحار !

إلا أن الوجه الآخر للعملة شهد طائفة أخرى من رواد السوشيال ميديا ممن أحسنوا استغلال الأزمة لصالحهم، أو لصالح جيوبهم!

شركات كثيرة أمريكية وأوروبية شجعت موظفيها على العمل عن بعد، أى استغلال فترات بقائهم فى المنزل لإنهاء الأعمال المتعطلة، ونجحت الفكرة مع كثيرين لدرجة أنهم فكروا فى الإبقاء على تلك الطريقة حتى بعد جلاء الأزمة..

وتمثَّل النموذج الأمثل لاستغلال فرصة أزمة كورونا لصناعة المال فى (جيف بيزوس) الذى زادت ثروته منذ بداية الوباء بمقدار 5.5 مليار دولار!

أسهُم البورصة التى شهدت انخفاضاً جماعياً فى ظل الجائحة، صبَّت فى صالح أسهم شركة أمازون التى يملكها بيزوس التى ارتفعت ارتفاعاً متواصلاً لمدة شهرين متواصلين لتقفز ثروة بيزوس قفزة جديدة . ويقدِّر المراقبون حجم الثروة التى جمعها بيزوس أثناء الوباء أنها تكفى لشراء 188 ألف سبيكة ذهب !

أسرار الإعلام البديل

السوشيال ميديا كانت له مزايا وفضائل أخرى ظهرت أثناء الأزمة.. فبجانب مزاياه الاقتصادية، ظهرت مزاياه الاجتماعية المتمثلة فى تحوله إلى مقهى كبير أو منتدى واسع النطاق يستوعب أفكار الناس ومشاعرهم وآراءهم بعد أن تم غلق أكثر النوادى والمسارح والمقاهى فى أغلب بلدان العالم.

اتسع نطاق استخدام وسائل التواصل الاجتماعى بشكل هائل خلال الشهور الثلاثة التى صاحبت الأزمة؛ بعد أن بات الإنترنت يمثل للبعض عملاً مربحاً، أو استمراراً للعمل عن بعد، أو بديلاً للتواصل مع الأصدقاء والمعارف، أو إعلاماً بديلاً يستقبل من خلاله معلومات لن يجدها فى أى وسيلة إعلام رسمية أخرى.

وكنتيجة للضغط المتزايد على استخدام الإنترنت، بعد ارتفاع عدد المستخدمين بفضل بقاء الناس فى المنازل. ثارت مخاوف لدى شركات الاتصالات من انهيار البنية التحتية للإنترنت بما قد يوقف عمل الشبكات.

وبرغم تحامل الكثيرين على الدور السلبي للسوشيال ميديا، فإن هؤلاء المتحاملين أنفسهم هم أكثر المستخدمين للسوشيال ميديا، وربما أكثر المستفيدين منه!

يري كثير من الخبراء أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى خطر كبير يهدد الاستقرار الاجتماعى، حتى أن "دانييل روجرز"، وهو أستاذ جامعى فى جامعة نيويورك والمؤسس المشارك لمؤشر التضليل العالمى الذى يستهدف رصد ومواجهة مصادر المعلومات الكاذبة على الإنترنت، يقول " أن مشكلة السوشيال ميديا أنه يشجع الجميع للخروج من الجحور، كل محتال، كل متآمر، كل متصيد إنترنت" ويحث روجرز على أهمية وجود رقابة تترصد المحتوى الزائف والكاذب والمضلل فى وسائل التواصل.

إن تلك النظرة المتشككة ضد وسائل التواصل تواجهها محاولات أخرى من البعض لمواجهة أكاذيب الإعلام الرسمى أحياناً ؛ ففى إيطاليا عبَّر عشرات الشباب عن غضبهم من الاتحاد الأوروبى الذى تخلى عن إيطاليا فى أزمتها الكبري فأحرق المستخدمون أعلام الاتحاد الأوروبي على الهواء تعبيراً عن غضبهم الشديد، ورغبتهم فى الانفصال عن اتحاد لا يقف فى صفهم عند الحاجة له. وفى أمريكا عبَّر الآلاف من مستخدمى الإنترنت عن انتقاداتهم لخطابات ترامب فى أزمة كورونا التى لم يجيد إدارتها.

يكفى وسائل التواصل الاجتماعى أنها باتت مصدراً لمعلومات وأسرار وتفاصيل لم تستطِع وسائل الإعلام التقليدية بثها.

حروب إعلامية دولية

قيل أن روسيا تتَّبع نهجاً مضللاً يتعمد بث الأكاذيب .. هذا اتهام أمريكى بالطبع!

وفى أول تصريحات ترامب حول الأزمة ضغط كثيراً على مصطلح "الفيروس الصينى" فى إشارة واضحة ترمى إلى اتهام الصين بنشر الوباء، وهو ما دفع الصين لاتهام أمريكا رسمياً ببدء حرب بيولوجية، وأنها صاغت كوفيد19 فى معاملها العسكرية، وهنا ثارت ثائرة الأمريكيين وتم استدعاء السفير الصينى لتوبيخه على اتهامات بلاده التى لا أصل لها!

حرب إعلامية دولية بدأت ولن تنتهى..

بريطانيا أدلت بدلوها فى حرب التصريحات الإعلامية، عندما حذر جونسون رئيس وزرائها الصين، من أن نهجها الفردى والأنانى قد يتسبب فى عزلتها عالمياً!

على الناحية الأخرى توجد حرب إعلامية أخرى يخوضها ترامب ضد الإعلام الأمريكي نفسه ؛ حيث اتهم رئيس أركان البيت الأبيض بالإنابة (ميك مولفانى) الإعلام الأمريكي بإثارة ذعر الأمريكيين بهدف الإطاحة بالرئيس دونالد ترامب!

وهو بهذا التصريح يحاول استباق الأحداث بالتأثير المضاد على الرأى العام لإعادة انتخاب ترامب فى الانتخابات القادمة . وهى محاولة تبدو بائسة وبلا قيمة.

للكبار فقط..!

الإعلام بنوعيه الإقليمى والدولى بات لأصحاب الأموال والنفوذ والجاهزية فقط..

الدليل هو ما فعلته شبكة التواصل الاجتماعى "فيسبوك" مع وسائل الإعلام الأخرى، حيث أعلنت الشركة عن تبرعها بمبلغ 100 مليون دولار لمساعدة الوسائل الإعلامية التى تعانى وضعاً صعباً تفاقم خلال الوباء.

قال كامبل براون مسئول التعاون الخارجى بالشركة مبرراً هذا التصرف:"يعمل قطاع الإعلام فى ظروف استثنائية لإبقاء الناس على اطلاع على كل المستجدات المتعلقة بوباء كوفيد19، وأنه فى الوقت الذى أصبحت فيه الصحافة أكثر أهمية من أى وقت مضى، انخفضت عائدات الإعلانات بسبب الاقتصاديات المنهارة بفعل الوباء. وقد صرَّحت الشركة أن هذه المساعدات تشمل 75مليون دولار على شكل مساعدات ترويجية، و25 مليون دولار من التبرّعات العاجلة للصحافة المحلية، دون تحديد معايير واضحة لتوزيع تلك الأموال.

هل هى مساعدة إنسانية واجتماعية عاجلة وضرورة إعلامية ومهنية مُلحّة، أم أن لها أغراضاً ربحية أخرى ؟ ربما تتضح الحقائق لاحقاً..

ظلال أزمة الإعلام

هناك أزمة إعلامية عالمية قديمة تزداد تفاقماً كل يوم، وهى مستمرة منذ عقود ..

تلك الأزمة أجبرت مؤسسات إعلامية وصحفية كبري على الانسحاب من المشهد محلياً وعالمياً بسبب انعدام الأرباح ونزيف الخسائر.

وخلال وباء كورونا تضاعفَت الأزمة واتضحت معالمها بصورة أكبر.

تجلَّت خلال الأزمة عيوب إعلام يكذب أو يفبرك أو يلقى الأخبار على عواهنها دون تحرٍّ للدقة أو المصداقية أو يتبنى أجندات سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية أو يبحث عن ملء الفراغات بأى مادة ولو تافهة ما دامت تثير فضول المتابع ولو بالباطل والزيف!

كوفيد19 وضع وسائل الإعلام فى اختبار موحَّد، والمتساقطون فيه سيسقطون للأبد؛ إذ لا مكان فى اقتصاد ما بعد كورونا للخاسرين.

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم