صحيفة المثقف

حي بن يقظان بالروسية

ضياء نافعالتقيت احد الروس المهتمين بالحضارة العربية صدفة في احدى المناسبات، وعندما عرف اني من بغداد، سألني بشكل غير متوقع لي بتاتا، هل يوجد في بغداد نصب لحي بن يقظان؟ تعجبت أنا جدا من سؤاله هذا، ومن أجل (كسب الوقت للتفكير بالاجابة عن هذا السؤال الغريب) طرحت عليه سؤالا (مضادا!) عن سبب سؤاله هذا، فابتسم وقال موضّحا، لان مدينة بغداد بالنسبة له ترتبط بالحضارة العربية العريقة، وانّ حي بن يقظان - كما يراه - هو التجسيد الفلسفي والادبي الرائع لهذه الحضارة، وليس عبثا ان اسم هذا البطل الاسطوري دخل – وبكل جدارة - في الموسوعة الفلسفية الروسية والموسوعة الادبية ايضا واصبح فقرة مهمة وبارزة في تلك الموسوعتين، ولهذا سألني عن موقع هذا الرمز الكبير والمتميّز في تلك المدينة العريقة، ولا ضرورة للحديث هنا عن (تهرّبي!) من الاجابة آنذاك عن هذا السؤال (المحرج!) بطريقة (اللف والدوران!) الدبلوماسية الشائعة، اذ اني لم استطع ان أقول له المثل العراقي الشهير – (اليدري يدري والما يدري كضبة عدس)، المثل الذي يعرف العراقيون كافة ماذا يعني .

أثار ذلك الحديث (الحزين!) شجوني طبعا، وهكذا بدأت بالبحث عن هذا (الحيّ) و(اليقظان) بالروسية ومتابعة مسيرته في روسيا، كي أجد – في الاقل - جوابا شافيا لي عن سؤالي (الذي طرحته انا نفسي امام  نفسي) حول جذور واصول تلك الانطباعات لهذا الروسي المعجب حد الانبهار بهذه الشخصية الاسطورية في التراث العربي، هذه الشخصية التي تمّ رسم ملامحها قبل اكثر من تسعة قرون في حضارتنا، والتي يعرفها ويثمّنها الان العالم كله .

 ظهر حي بن يقظان في روسيا بالقرن العشرين ليس الا، اي بعد قرون من الترجمات الاوربية (اذ ظهرت الترجمة اللاتينية لهذا الكتاب المدهش في القرن السابع عشر، وبالذات عام 1671)، وقام المترجم كوزمين بترجمتها ونشرها عام 1920 ضمن سلسلة الادب العالمي، وقد اعيد طبع هذه الترجمة عدة مرات في الاتحاد السوفيتي، اذ ظهرت عام 1961 ضمن كتاب بعنوان مختارات من نتاجات مفكّري بلدان الشرق الاوسط والادنى، وظهرت كذلك عام 1976 ضمن كتاب بعنوان  النثر الكلاسيكي للشرق، ثم في عام 1985ضمن كتاب بعنوان النثر الاندلسي للقرون الوسطى، وكتب ساغادايف عن حي بن يقظان في كتاب بعنوان فلسفة الشرق الاجنبي، الذي صدر عام 1986، وتوقفت الموسوعة الفلسفية الروسية والموسوعة الادبية عند هذا الكتاب في فقرتين تفصيليتين، واستمر هذا الاهتمام بحي بن يقظان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ففي عام 2005 ظهر كتاب بعنوان الفكر السياسي للقرون الوسطى الاسلامية، وفيه دراسة عن هذا النتاج الخالد، وتتناول المصادر الروسية بالتفصيل تاريخ هذا الكتاب ابتداء من ابن سينا، وتتوقف عند ابن طفيل طويلا ومكانته العلمية الموسوعية، وكيف استطاع صياغة افكاره الفلسفية عبر هذا الكتاب الممتع، وتتحدث المصادر الروسية حول موضوعة تأثيره في مجال الادب المقارن و تربطه بروبنسون كروزو طبعا .

  لم أجد في تلك المصادر عن حي بن يقظان اية اشارة الى الادب الروسي، وهل انعكست افكار هذا الكتاب وموضوعته على بعض نتاجات الادباء الروس، وقد تذكرت، اني دردشت مرة مع أحد اساتذتي الروس في جامعة موسكو حول المواضيع المرتبطة بالمقارنة بين الادب الروسي والعربي من وجهة نظره، فقال، ان ذلك يقتضي التعاون العلمي المتبادل بيننا، اذ ان هناك مواضيع كثيرة يمكن لنا طرحها، وتحدث عن الف ليلة وليلة  وعلاقة بوشكين وتولستوي وغوركي مثلا بهذه الحكايات الجميلة، وتطرق ايضا الى حي بن يقظان، وقال، ان هذا النتاج يوحّد وبشكل رائع الادب والفلسفة والتناسق بينهما، واستطاع ان يعكس آراء الكاتب بقضايا فلسفية عميقة، وان دستويفسكي في الادب الروسي هو النموذج المثالي لظاهرة التلاحم الرائع بين الادب والفلسفة، ومن الممكن جدا الكلام عن امكانية المقارنة بينهما، اذ ان كلاهما استخدما الادب للوصول الى اثبات افكارهما الفلسفية تلك، ويمكن ان يكون هناك تعاون بين اثنين او حتى اكثر من الباحثين لتحقيق هذا البحث العلمي المبتكر .

حي بن يقظان اسم عظيم منسي في تراثنا العظيم، وما اكثر تلك الظواهر والاسماء العظيمة المنسية في تاريخنا...   

 

 ا. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم