صحيفة المثقف

نحو وعي بالخلل.. قراءة في المجموعة القصصية: كالعزف على القيثارة

المصطفى سلامتقديم: يعتبر الكاتب المغربي حسن البقالي من الكتاب الذين مارسوا الكتابة السردية وأسس تقاليد في الكتابة تميزه عن المجايلين له من الكتاب، والذي يؤكد هذا التصور، الوقوف عند منجزه الإبداعي عامة والسردي خاصة. وطبعا، هناك أعمال أخرى، ويستحق هذا المنجز السردي، الذي اختبر فيه الكاتب تقنيات الكتابة السردية على مستوى الرواية والقصة الطويلة ثم المتوسطة وأخيرا القصة القصيرة جدا، الدراسة والتحليل من أجل استجلاء رؤية الكاتب للواقع المغربي خاصة والعربي عامة ثم رصد رؤيته أيضا لقضايا الإبداع المغربي مثل وظيفة الأدب وتطور الاجناس الأدبية والخصوصية المغربية في هذا الإبداع ودرجات التأثر والتأثير التي مارسها هذا الإنتاج الفني سواء في المتلقي العربي أم المغربي. ومثل هذه الدراسات والأعمال تشكل في حد ذاتها اعترافا معنويا بالأديب المغربي بغض النظر عن المجال الإبداعي الذي ينتج فيه وعبره الدلائل ويتناول القضايا ويرصد التحولات.

في هذا السياق، سأقف عند مجموعته القصصية: كالعزف على القيثارة .

تتألف هذه المجموعة القصصية من سبع وسبعين قصة، جاءت معنونة ومختلفة الحجم من حيث المساحة السردية، إذ هناك نصوص شغلت صفحة وأخرى لم تتعد السطرين . كما أن هناك قصة لم تكتب وفق النظام النثري بل اعتمد فيها طريقة مغايرة حيث لدينا جدول يتألف من أربعة أعمدة وعناوين وفي هذا نوع من التجريب لكتابة القصة القصيرة.

-  من الخارج إلى الداخل:

تأسس القراءة الأدبية حداثيا على النظر في الموازيات  للنص أولا ثم النص ثانيا،وذلك لأهميتها في عملية التلقي ككل، حيث لم يعد المعنى يقتصر على النص فقط، بل هناك أثر لهذه العناصر الموازية في تشكيل عالم النص دلاليا وتأسيس افق توقع عند المتلقي:

العنوان المركزي: كالعزف على القيثارة

يمارس العنوان في هذه المجموعة اثره من خلال بنيته النحوية أولا ثم البلاغية ثانيا:

-  من حيث التركيب النحوي، يضمر العنوان جزء من التركيب الإسمي (جملة إسمية)، ولاكتمال المعنى وجب تأويل ما أضمر أو تقديره كأن نقول: العزف على القيثارة رائع أو ممتع أو ممل ....

-  من حيث البناء البلاغي، يخفي العنوان أيضا مكونا أساسيا من مكونات البنية التشبيهية حيث لدينا المشبه به فقط .

بهذه الطريقة في صياغة العنوان يؤسس الكاتب ميثاقا مع القارئ أساسه:

-  الكتابة إضمار وحذف، والمعنى لا يأتي تاما مكتملا .

-  القراءة تأويل واستحضار لما تم حذفه أو إضماره .

العنوان الفرعي: أقراص قصصية

يتألف هذا الجزء من عنصرين:

أقراص وهي جمع قرص . والقرص عبارة عن قطعة مبسوطة مستديرة من المادة اللغوية "قرص" التي تفيد معاني مثل القطع واللدغ والإيلام والإيذاء والتنبيه  ...كما ان للقرص دلالات أخرى حسب السياق الذي ترد فيه مثل الهندسة والرياضة والصيدلة .

قصصية نسبة إلى قصة وهي نوع سردي محدد المقومات والخصائص الفنية والجمالية. فما العلاقة بين الأقراص والقصص؟

يكشف القارئ من خلال اندماجه في لعبة التأويل أي استحضار ما أضمر في الملفوظات قصدا من طرف الكاتب أن هناك تقاطعا بين القرص والقصة:

من حيث المكونات: في مجال الصيدلة، الأقراص خليط من المواد الفعالة في شكل مسحوق وهي مستحضرات قوية مقسمة إلى جرعات متفردة في كتل صغيرة متماسكة ومعدة للتعاطي والتناول .

وفي مجال الأدب، القصة بناء لغوي وأسلوبي ودلالي يتخذ شكلا معينا ويصاغ بغاية القراءة إفادة وإمتاعا.

من حيث الحجم: للأقراص أحجام مختلفة، لكنها في الغالب صغيرة والصغر او القصر سمة من سمات القصة وهو خلاف الطول والاسترسال. كما أن للقصر حدود أدناها جملة أو جملتان، وأقصاها فقرة فما فوق. إن القصة القصيرة جدا اختزال وتكثيف لمكونات جمالية كبرى مثل الوصف والسرد والحوار.

من حيث الصيغة: يخضع القرص في تركيبه إلى تكثيف وضغط، كما تخضع القصة القصيرة إلى نفس الإجراء. وهذا لن يتحقق لجميع الكتاب، فكم  من كاتب طويل هزمته قصة قصيرة .

من حيث التناول: يفيد حجم الأقراص السهولة في التناول، حيث هي مهيأة للتعاطي بالفم عن طريق البلع أو المضغ أو الاستحلاب، كذلك نفس الأمر بالنسبة للقصة القصيرة فهي معدة للتلقي في وقت وجيز.

من حيث المفعول: طبعا ينصح بالأقراص حسب نوعية المرض ويتغير مفعولها وفقا لذلك، فهناك أقراص طويلة المفعول وأخرى متوسطة التأثير، ونفس الأمر فيما يخص تأثير هذا النوع من السرد. فهناك قصص قوية الأثر على القارئ وأخرى ضعيفة أو خفيفة الأثر.

هذا التقاطع بين القصة القصيرة والأقراص يدفعنا إلى إثارة سؤال العلاج بالأدب .فهل ذلك ممكن ؟ وإن كان كذلك فكيف يتم؟

الاستهلال:

استهل الكاتب مجموعته القصصية بما يلي: " مثل جبل صغير لم يتعلم الطيران بعد "

يتأسس هذا القول المستهل به على بنية تشبيهية، شأنه في ذلك شأن العنوان . وقد تم إضمار ركن من بنية التشبيه (المشبه) والتأمل في هذا التعبير المجازي، يجعل القارئ يسال: هل الجبل صغيرا كان أم كبيرا يتعلم ؟ ويطير؟ فهل ما لا يتحلحل يطير؟

يسعى هذا النوع من الاستهلال إلى خلق تشويق عند القارئ، مما يجعل تلقي  هذه النصوص ينبني على الانتباه إلى أهم خاصية فنية وتقنية في بناء القصة القصيرة، إنها المفارقة .حيث يسعى الكاتب  من خلالها إلى مباغتة القارئ وجعله يغير عادة تلقيه وكأن القصة القصيرة تتطلب انتباها ويقظة في التلقي والتناول حتى يدرك بعض أسرارها .

نحو الوعي بالاختلال:

تمتح القصة القصيرة قدرتها على تمثيل الظواهر وتشخيص المواقف الإنسانية المؤثرة من مرجعيات مختلفة مثل الرمز والمثل والخبر والكناية وذلك عبر تقنيات وآليات فنية مثل التكثيف والترميز والسخرية والمفارقة والتلغيز ...

وإذا كانت للرواية قدرتها على تشخص الظواهر الإنسانية في مختلف تجلياتها التاريخية والاجتماعية والسياسية  بشيء من التحليل والتمثيل السردي عبر مقتضيات النظام  السردي أو العمليات السردية ، فإن القصة القصيرة جدا لا تحفل بالتحليل عبر خلق وضعيات سردية مركبة بل تكتفي بفن الالتقاط والتلميح في صيغ فنية محدودة جدا . في هذا السياق سنقف عند بعض نصوص " كالعزف على القيثارة " لرصد المدار الدلالي الذي انتظم المجموعة ككل.

خلال قراءتنا المتأنية لنصوص هذه الأضمومة القصصية، نستنتج انها تنتظم حول ظاهرة الاختلال التي أصبحت تتمظهر في كثير من الأنساق والأنظمة التي تؤطر الحياة الاجتماعية / الإنسانية في شموليتها مثل القيم والأخلاق والعلاقات الإنسانية أو الاجتماعية والهوية والمرجعيات الفكرية والثقافية ... فما نوعية الاختلالات التي رصدتها نصوص المجموعة ككل؟

سنتخذ من بعض نصوص الأضمومة عينات نصية للتمثيل:

في قصة " براءة " ، وعبر آلية السخرية، رصد الكاتب مظهرا من مظاهر الاختلال في المنظومة السياسية العربية، يتعلق الامر بمسالة انتقال السلطة أو توريثها أو احتكارها من خلال آليات تقليدية مع الادعاء بان ذلك من علامات الديمقراطية !!!!

تنبني القصة حدثيا على الجلوس على الكرسي كموقع لممارسة السلطة وإنتاج الخطاب . هذا التموقع يحمل معاني مثل الحكم في مجال السياسة، والاعتراف في مجال القانون، التربية والتهذيب والتعليم في مجال الثقافة والمعرفة، والسلطة المطلقة الميتافيزيقية في مجال الدين (وسع كرسيه السماوات والأرض).. وهنا في القصة يأتي بمعنى الاعتراف أما القاضي: " صدقني يا سيد ترامب ...ليس في الأمر أي استئثار بالحكم ضدا على الأعراف الديمقراطية ..."

وتثير القصة بأسلوبها الخاص سؤال البراءة: هل من يتربع على الكرسي يتصف بالبراءة أم الاتهام ؟ وسؤال البراءة يحمل ضمنيا سؤال الاتهام. ولإثبات عدم براءة الجالس على الكرسي في عالم القصة هو استجابة الحاكم لطلب الكرسي، لا استجابته لمبادئ تدبير السلطة وإجراءات تداولها، حيث تألم الكرسي وأصابته رجفة كبيرة عندما أحس أو شعر بأن غير مؤخرة الحاكم هي من تلامسه، فما كان على الحاكم إلا أن يستجيب لطلب الكرسي  وان يعتبر استجابته فعلا إنسانيا جسورا يؤكد براءته . أمام قاض يسائل المتهم في تهمة البقاء في الحكم عقودا من الزمن: " لا ارضى عن مؤخرتك بديلا. هذا ما قاله الكرسي يا سيد ترامب ...".

في قصة " الصوت "  يرصد الكاتب أيضا خلال ضمن المنظومة السياسية، وخاصة على مستوى العلاقة بين الحكومة والمواطن. وتنبني القصة على لعبة التوازي بين صوتين:

-  صوت المواطن الذي هو خطاب أو كلام أي رأي وموقف ووجهة نظر . ثم هو فعل وإجراء أي ممارسة في الواقع. وبواسطة هذا الصوت تنشأ الحكومة.

-  صوت الحكومة: هو كذلك خطاب أو كلام، كما أنه إجراء وممارسة صادرة عن الحكومة باعتبارها فاعلا معنويا. وإذا كان صوت الحكومة ناتجا عن صوت المواطن، فماذا يتوقع المواطن من صوت الحكومة بعد صوته؟ هناك احتمالان:

- الاعتراف بفضل صوت المواطن وبالتالي شكره على ذلك، من خلال  تأهيل المرافق العمومية وتسهيل الاستجابة لطلبات المواطن وتجويد خدماته .

- إرهاب المواطن من خلال قمعه وتعنيفه بالخطاب أو الفعل. وهذا ما استوعبه المواطن وأدركه في آخر القصة: صوت هو دعوة ملحاح إلى الموت. أو ما هو أفظع . هو هدية الحكومة إلى الشعب بمناسبة عيد عالمي للموسيقى " .

هناك إشارة ذكية في قصة " العمارة "  باعتبارها فضاء حديثا للسكن وشكلا جديدا للاجتماع البشري فرضته التحولات السوسيو اقتصادية، إلى خلل آخر بدأت تظهر آثاره على مستوى العلاقات الاجتماعية في مثل هذه الفضاءات العمرانية . فكيف ذلك ؟

تتأسس القصة حدثيا على تناظر زمني:

-  قبل العمارة، حيث كان الناس في السابق هويات متنوعة ومختلفة .

-  في العمارة، حيث أصبح للناس هوية واحدة . أو شكل وقالب واحد.

لقد انتقل قاطنوا العمارة من بيئات ثقافية مختلفة: لغة وتقاليد وزيا وعادات ...أي من هوياتهم المختلفة إلى هذا الشكل الجديد الموحد أصلا في المساحة والتصميم والمرافق والرؤية . لقد تخلوا تدريجيا عما كان يصنع اختلافهم وتنوعهم واصبحوا متشابهين على نمط واحد . فكأن العمارة إطار صناعي يتضمن منتوجا معلبا.

انبنت قصة "جنون" على منطقين:

-  الواقعي أو السببي: أي أن الوقائع تدرك وفق نظام سببي، أي (سبب – نتيجة)

- اللاواقعي أو اللاسببي: أي حدوث وقائع خارج النظام السببي .

وفق هاتين الآليتين، تأطر الحدث الرئيسي في القصة: فرار أحد عشر مجنونا من المشفى .

ولما كان الحدث في واقعيته ومنطقيته أو معقوليته يخضع للترتيب التالي:

-  الاتفاق والحوار(التفكير في خطة) يقتضي التخطيط أولا ثم التنفيذ تانيا  ثم الهروب أو الفرار ثالثا كنتيجة . وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الفواعل يفكرون بطريقة أساسها العقل . أما في حالة غياب العقل وحضور بديله أي الجنون، فسيتغير منطق الحدث:

-  لا اتفاق ولا حوار (ليست هناك خطة) أي ليس هناك تخطيط ولا تنفيذ وبالتالي ليس هناك فرار من طرف مجانين .

إذن من هرب؟ ومن خطط ؟ ومن نفذ؟ الجواب أن من يملك عقلا ويفكر به هو الطبيب أو الطاقم الطبي، إذ فمن هرب في الأصل هم أحد عشر طبيبا من مستشفى الأمراض العقلية . وإذا كان هذا ممكنا، فهو يكشف عن خلل في معيار تقويم الأحداث التي تنقلها الوسائط الإعلامية . ويتأكد الخلل هنا في كون الكذب هو السائد والمستشري في هذا المجال . وهنا توجب على المتلقي أن يعيد ترتيب الأحداث والوقائع وفق منطق سببي وعقلاني . كما يدفعنا هذا الأمر إلى التفكير في سؤال: لماذا يهرب الاطباء؟ ولما ذا يخططون للهرب؟

في قصة " ادفع بالتي هي أحسن" يتابع الكاتب رصد مظاهر الخلل التي استشرت في الواقع الاجتماعي والانساني. يتعلق الأمر هنا بمسالة الأمن كمطلب أساسي للفرد  أو الجماعة، وهو ما يمنح تعادلا وتوازنا للوجود الإنساني . وعندما يغيب الامن او يفتقد لأسباب ذاتية وموضوعية: يهيمن الاضطراب والخوف والقلق والتهديد وبالتالي الموت والعدم . وتعميقا لهذا النقص أو الخلل افترض وجود شخص يطلب إتاوة / ضريبة من السارد مقابل خدمة توفير الأمن له. هذا الوضع يكشف عن خلل ما . فما هي طبيعته؟

-  توفير الأمن يتحقق في الوقت الراهن من طرف الدولة أو الجماعة التي يندرج ضمنها الفرد. وهو أمن مادي ومعنوي، أي منع كل ما من شأنه إلحاق الأذى والضرر بالفرد ومصالحه أو حقوقه المادية والمعنوية. أي ما من شأنه أن يجعل الحياة لدية صعبة ومتعذرة .

-  غياب الأمن يعني تعذر الحياة لدى الفرد وصعوبتها، وبالتالي تهديد وجوده . وهذا يدل على غياب الطرف المسؤول عن ذلك أي الدولة كمؤسسات ومرافق وجهات وظيفتها توفير الأمن للمواطن. وفي هذه الحالة من الغياب أو الفوضى تظهر بعض الجهات أو الأفراد يتولون تقديم هذه الخدمة للمواطن، وبمقابل مادي، تلخصه في القصة عبارة " ادفع بالتي هي أحسن "

وهذا الخلل له ابعاد اجتماعية واقتصادية وإنسانية خطيرة، تتأكد أبعاده في المناطق التي تضعضعت فيها شخصية الدولة إما بسبب فساد أو حروب أو أوبئة أو استعمار أو كوارث طبيعية ...

لقد أصبح الوجود الإنساني في الفترة الراهنة مبنيا على دفع إتاوة تحت الإكراه من أجل حريته وشغله وأمنه وعرضه ...

وتنبني قصة "سعار" على حدث محوري، يتمثل في إصابة شخص بسعار نتيجة عضة كلب مسعور . وهذا الحدث يستوجب الاستشفاء من السعار. وهذا هو المنطقي والطبيعي أو الواقعي. لكن أن يرفض المسعور الاستشفاء فذلك يكشف عن خلل معين . فكيف تجلى ذلك وما هي أبعاده؟

يمكن أن نكشف عن المحاور الأساسية التي انبنت عليها هذه القصة في ما يلي:

-  المحور الأول: الإصابة بالسعار تقتضي العلاج والاستشفاء

-  المحور الثاني: الإصابة بالسعار لا تقتضي علاجا أو استشفاء . ولما كان السعار خطيرا على الحياة ومهددا لها، فلماذا تم رفض المصاب بالسعار العلاج ؟  هنا يكمن الخلل ؟ أي هناك مبرر لذلك الموقف

-  المحور الثالث: المواطنة الحقة تقتضي الاعتراف والتنويه والشكر، أما أن تكون مواطنا حقا وليس من نصيبك غير التهميش والإقصاء والإبعاد والتحقير ...فذلك ربما اهون من السعار أو هو أكثر تأثيرا من السعار .

هكذا تكشف القصة عن نوعية الخلل الذي أصبح يطبع حياة الفرد وفكره وسلوكه الناتج عن تجاهل وطنيته أو اعتبار وطنيته من درجة ثالثة أو رابعة ...لقد أصبح المواطن يحس أن وطنيته وانتماءه  إلى وطنه ليس مفخرة أو علامة قوة ..لهذا أصبح يفضل أن يصيبه سعار الكلاب لا سعار دولته .

في قصة "نجاح مبهر" يزيل الكاتب اللثام عن مظهر آخر من مظاهر الاختلال التي تؤثر سلبا على الوجود الإنساني سواء في علاقاته أو قيمه أو معتقداته . ولكشف نوع الخلل الذي يتمظهر في القصة، نكشف عن منطق الحدث الرئيسي الذي ينتظم القصة ككل:

-  علاج العقم يقوم على معرفة وعلم وخبرة  ثم التزام أخلاقي . ومن توفرت فيه هذه الشروط سيحقق شهرة .

-  علاج العقم يقوم على الجنس أي ممارسة الطبيب الجنس مع من قصدنه لعاج عقمهن. وهذا خرق لمبادئ المهنة وميثاق الثقة بين المريض والطبيب ...و من كان على هذه الشاكلة سيحقق شهرة . والفرق بين الشهرتين أن الأولى امتياز والثانية تشهير وفضيحة .  إذن بين المنطق الأول والثاني يكمن الخلل .

-   النجاح: يقوم على المعرفة والإتقان ثم الإخلاص في العمل وهذا يترتب عنه شهرة  وهي صحيحة وحقيقية .

-  النجاح قد لا يقوم على الإخلاص أو المعرفة بنوع وخصوصية العمل، وهذا تترتب عنه كذلك شهرة لكنها شهرة مزيفة وباطلة سرعان ما يتم  فضحها .

هكذا أشار النص إلى ظاهرة شهرة بعض المعالجين المزيفة والتي أصبحت تغزو حياتنا المعاصرة، خاصة فيما يتعلق ببعض المشاكل العويصة مثل العقم والعنوسة .

في قصة  " انتهازية "   والتي ينتظمها حدث محوري، يمكن صياغته كالتالي:

-  العمل يقتضي أجرا ماديا ومعنويا، بغض النظر عن قيمة وحجم العمل ضمن تراتبيات الأعمال والأفعال الدنيوية والدينية، الفكرية أو العملية .  شريطة أن يكون هذا العمل مشروعا وذا منافع لا أن يجلب مضارا تلحق ضررا بالإنسان أو الطبيعة أوالذات . وقد اختار الكاتب عمل ماسح الأحذية ليشخص ظاهرة تمثل خللا خطيرا أصاب الحياة الاجتماعية والإنسانية، يتعلق الأمر بالانتهازية . وتبعا للقاعدة التي انطلقنا منها، يقتضي هذا النوع من الأعمال التي يمارسها بعض الناس في الحياة العامة وهي غير مهيكلة  أو غير خاضعة لتقنين أو ترتيب إداري، لكنها متداولة بين الناس وتحقق بعض الآثار الإيجابية سواء عند ممارسها باعتبارها موردا ماليا وسواء عند المستفيد منها من خلال كونها تدخل ضمن ما يسمى إيتيكيت اجتماعي عام ـ يتعلق بالمظهر أو الصورة التي نرغب أن نكون عليها في الخارج من حيث تنسيق اللباس وتعطير الجسم وتنظيف أو تلميع الأحذية:

-  عامل ماسح الأحذية: يستوجب أجرا سواء كان ماديا أو معنويا . وهذا هو الطبيعي والمنطقي .

-  عامل ماسح الأحذية: حرمانه أجره المادي أو المعنوي . وهذا يكشف عن خلل ما . يتعلق الأمر بالانتهازية في أبشع صورها وأمقت أشكالها . والانتهازية:

-  أن تستغل شيئا أو شخصا لا يحق لك ذلك .

-  أن تحرم شخصا أجره المادي أو المعنوي .

-  أن تستجيب لرغباتك الذاتية فقط .

-  أن تجفف من ذاتك قيم التضامن والتكافل والتآزر .

-   أن تكون نرجسيتك وأنانيتك  في أقصى حدودهما .

-  أن تضاعف من مآسي الناس  لا أن تجبر كسورهم ...

لقد شخصت القصة ظاهرة الانتهازية من خلال تمثيل لها بموقف أو سلوك متداول ومشهود . وهذا الخلل يهد منظومة القيم ويؤثر على العلاقات الإنسانية كما يؤثر على التماسك الاجتماعي فيجعل التراتبات الاجتماعية تتباين وتتسع الهوة بينها .

في قصة " ببساطة "   تنهض القصة على منطقين:

-  منطق طبيعي أساسه السبب النتيجة، ويتمثل في ما يلي:

-  وجود الإدارة كمرفق عمومي يستوجب تقديم خدمات للمواطن .

-  وجود الإدارة يعمل على تعطيل خدمات المواطن أوعدم الاستجابة لمصالحه كما أطرها القانون . وهذا يكشف عن خلل في هذا المجال لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية أو فنية أو تقنية مثلا، فقد يرجع الأمر إلى نوعية الإجراءات أو التدابير البيروقراطية التي تحكم كثيرا بعض الإدارات . كما يرجع الأمر إلى عدم أهلية الموظف إما معرفيا أو تقنيا أو اجتماعيا على مستوى التواصل الاجتماعي بين الموظف والزبون،وهذا نلمسه من خطاب الإدارة المتداول بين الموظف وطالب الخدمة من تلك الإدارة .

وعندما تستجيب الإدارة للمواطن وتنجز طلباته  المشروعة وفق القانون المنظم لذلك، تستحق تلك الإدارة الشكر والاعتراف والاحترام، وتخلق  الرضى عند المواطن . أما في حالة العكس، أي عندما تتعطل خدمات المواطن فسيترتب عنده الغضب والتذمر والاحتجاج . إذن، فرضى المواطن أوغضبه وحنقه ينتجان ببساطة، وليس الامر صعب الفهم والتفسير .

تتأسس قصة " زاوية نظر "  على بنية عميقة، تتمثل في بنية الوعظ التي تتركب من:

-  واعظ: من له خبرة ودراية في مجال ما . قد يكون إنسانا أو طبيعة أو حدثا ....

-  موعوظ: من تقدم له الموعظة أو من يعظه الواعظ، قد يكون رجلا أو امرأة، يافعا أو كهلا ...

-  موعوظ به: ما يعظ به الواعظ موعوظه.

وفكرة الوعظ اقترنت خطابيا وتداوليا بالمجال الديني، حيث يقدم رجل الدين موعظته للناس عامة أو  لفرد واحد يكون حاكما أو قاضيا أو تاجرا ....و تكون الموعظة بمثابة التذكير بالمصير والنهاية ومآل الإنسان في الآخرة . تتضمن الموعظة نصائح وتصور للموعوظ كيف يجب عليه أن يكون سلوكا واعتقادا وتصرفات وعلاقات مع الناس أو مع أهله وغيره .وغالبا هناك ما يبرر الوعظ أو الموعظة، أي وجود أسباب وحوافز تحفز الواعظ على ذلك، مثل غفلة الناس عن الآخرة، واقترافهم للذنوب والآثام، وتعديهم للحدود وخرقهم للآداب ...و القصة هنا تكشف عن خلل كامن في خطاب الموعظة حيث المفارقة بين مكوناتها صارخة:

-  الواعظ: شيخ أو كاهل أو فقيه له ثقافة دينية .

-  الموعوظ: أطفال، لم يبلغوا رشدهم بعد، ولم  يقترفوا من الذنوب ما يبرر موعظتهم أو أن يكونوا هدف الواعظ. هم في طور يستلزم أن يوجه لهم خطاب آخر، وأن يعاملوا معاملة خاصة، وأن تراعى في ذلك طبيعة وجدانهم  وبنية عاطفتهم. إذ من المفترض، أن يستجاب لمتطلباتهم العاطفية والخيالية مثل اللعب والحركة والمعرفة والإبداع والقصص .

-  الموعوظ به: في النص يقدم الواعظ وعظه للأطفال بالحديث عن الآخرة، ولا سيما الحديث عن صورة العذاب وما يعتمد في ذلك من طرائق مثل الصراط ودقة المرور عبره وتهويل الوقوع في النار وما يترتب عن ذلك من حرق وإيلام .

يتمظهر الخلل هنا في تجليات المفارقة:

1-  ما يقدمه الواعظ أو يعرضه من خبرة ومعرفة لا يناسب المقام، أي أن متطلبات الطفل في هذه المرحلة لا يتناسب وجدانيا مع خطاب الواعظ لا وجدانيا ولا نفسيا ولا خياليا .

2-  الموعوظ به: يفتقد خطاب الواعظ على مستوى الأداة  الموعوظ بها شرط التناسب أوالتلاؤم. إذ المطلوب تنمية قدرات الطفل وطاقاته التعبيرية والإبداعية والخيالية . لا قمع تلك القدرات أو توجيهها توجيها عكسيا .

3-  في النتيجة والمآل: غالبا ما تترتب عن الموعظة نتائج نفسية وآثار معنوية، وذلك حسب قوة خطاب الواعظ من جهة ومدى مناسبته للمقام أو السياق، وكذلك درجة مصداقيته، إضافة إلى حاجة الموعوظ النفسية والفكرية لتلك الموعظة . وهنا في النص، لا أعتقد أن الأطفال في حاجة إلى تلك الموعظة، كما أن شرط المصداقية غير متوفر في الواعظ، إذ كيف للأطفال أن يحكموا على صدق خطابه .

4-  في الغاية من الموعظة: غالبا ما يقدم الواعظ موعظته استجابة للمبدأ الذي يقول: الدين النصيحة . أي أن هناك التزاما معنويا بهذا المبدأ وغيره من المبادئ الدينية من أجل الحفاظ على الدين أولا وتقويته ثانيا وكذلك الاستجابة لمبدأ من رأى منكم منكرا فليغيره ...و بالتالي فالوعظ علامة من علامات الالتزام بالدين ومبادئه . لكن هنا نسأل: ما المنكر الذي صدر عن هؤلاء الأطفال؟ وما مدى خطورته؟ وهنا نرجع إلى العنوان الذي يتضمن تفسيرا لهذه المسألة " زاوية نظر" أي للواعظ هنا وجهة نظر، ترى منكر هؤلاء الأطفال في الغيب، في الآتي من الزمن، لهذا وجب عليه موعظتهم وترهيبهم بالنار والصراط. وطبعا هذه وجهة نظر قاصرة وحاسرة .

على سبيل الختم:

تكشف أغلب نصوص هذه الأضمومة على مسألة الخلل أو ظاهرة الاختلال التي أصبحت تطبع كثيرا حياتنا المعاصرة، سواء في علاقاتنا الإنسانية والاجتماعية أو تلك التي تطبع سلوكنا ومواقفنا من كثير من القضايا والأسئلة ذات الطابع الإشكالي مثل علاقة المواطن بالمؤسسات الوطنية (الإدارة) ومسالة المواطنة التي تنبني على ثنائية الحق والواجب ومسألة الأمن الذاتي والرشوة التي استشرت كالوباء في الجسد الاجتماعي . كما اتخذت هذه الأضمومة  بعض الظواهر كمادة لها مثل الظاهرة الدينية على مستوى خطابها الدعوي وكذا بعض الظواهر التي ذاعت بصورة لافتة مثل الشعوذة والشهرة  ومسألة الهوية والديمقراطية وغياب المصداقية في كثير من الخطابات المتداولة سواء في الخطاب الإعلامي أم السياسي  أم الإبداعي الفني .

وقد ابانت الكتابة القصصية في هذه الأضمومة على قدرتها في الكشف عن بؤر الخلل في الواقع وفي الوعي وكذا في الرؤية . وإن كانت هذه النصوص مختزلة في بنيتها السردية ومادتها اللغوية فهي غنية بكثافتها الدلالية، وهي تسهم في بناء الدلالة وتداولها بخصائصها تلك إضافة إلى تطوير قدرات القارئ وترويضها لتلقي مثل هذا اللون من الميكروتخييل في الثقافة الأدبية المعاصرة .

 

د. المصطفى سلام  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم