صحيفة المثقف

الشاعر العراقي كريم الأسدي.. شاعر العزة والكبرياء عاشق الرافدين

حسين فاعور الساعديعرفته من على صفحات المثقف الغراء فأحببته لما في شعره من مشاعر جياشة صادقة. مشاعر صادقة مفعمة بالشوق والحنين لوطن حر أبي لا يعرف القيود. هذه المشاعر والعاطفة الجياشة أعطت شعره لوناً خاصاً وطعماً مميزاً جعلته يخترق القلب ليستقر عميقاً في النفس. فالصدق هو لغة القلوب.

الغربة صعبة وقاتلة أحياناً، خصوصاً عندما يكون المغترب شاعراً يذوب حباً وشوقاً ولوعة على وطنه. إلا أن كريم رغم الغربة ظل شامخاً أبياً إلى أقصى ما يمكن أن يكون الإباء: 

وأنتَ وحيدٌ أرى كوكباتٍ

يضجُ بها الكونُ تهفو اليكَ

تسامرُ صمتكَ كي لا تكونً الوحيدْ.

وأنتَ وحيدٌ أرى جبلاً هائلاً شاهقاً

من حديدٍ يسيلُ فراتاً ويأتي اليكَ ..

يقولونَ: كيفَ استحالَ إلى رافدٍ عذبٍ سائلٍ جبلٌ من حديد ؟!

هذا الشموخ، هذه الكبرياء، وهذا العنفوان جعل المجرّات الضخمة تأتي إلى الشاعر لتسامره وتخفف من وحدته. هذا الإباء جعل الجبال الشاهقة تنصهر وتذوب وتنساب إليه أنهاراً صافية رقراقة لتؤنس وحشته. إنه الإيمان المطلق والثقة التي لا تهزها الظروف والمصاعب. كل هذا وهو في الغربة وحيداً. فكيف لو كان في وطن يحتضنه ويرعاه؟

كريم الأسدي صامد لا تلين له قناة. لكن عتبه على العراق كبير، وعشمه عليه اكبر، لأنه ترك أبناءه الشرفاء للظلم وغدر الغادرين:

  لله قلْ لـــــــــي يا سليلَ مَسَلَةٍ

  كيفَ انغشيتَ  ففاتَكَ الأِبصارُ

 وتركتَ فتيتَكَ الورودَ لظلمةٍ

 يختالُ فيها قاتلٌ غـــــدّارُ؟!!

العتب كبير على الوطن، والظلم قاسٍ وفظيع. لكن إيمان الشاعر بوطنه لم يتزعزع وحبه له لم يفتر. فالوطن هو كل شيء ولا شيء يسد مكانه. الوطن هو الوطن لا يحول ولا يزول حتى لو تعامى وتجاهل أبناءه الطيبين. فمن يظلم ويُفسد ويخرب هم العاقون من أبنائه الذين سقطوا في أحضان الغريب وتنكروا لأهلهم وذويهم:

ويُدهشُ الآخرَ العلّامَ طــــــــالبُهُ

في العِلمِ والفهمِ والاضفاءِ والشيمِ

حتى يعود الى أهلٍ فينكـــــــرُهُ

بيتُ الأقاربِ والأترابِ والحلمِ

أنا الغريبُ ولكنْ قاسماَ بدمـــي

بأنَّ ما سالَ في بغدادَ كانَ دمي

أنا البعيدُ ولكنْ قاسماً بدمـــــــــي

بأنَّ ما سالَ في ذي قار كانَ دمي

الشاعر رغم الغربة ورغم تنكر العاقين من أبناء الوطن يظل مخلصاً صادقاً وفياً لأن ما يسيل في بغداد من دم هو دمه ليس الآن فقط بل في كل معارك الشرف التي خاضها ويخوضها العراق.

عزة كريم الأسدي وكبرياؤه وصدقه لا تنبع من منطلقات شوفينية أو عنصرية أو مذهبية وإنما من انتمائه الإنساني الراقي الباحث عن الحب والعدل والمساواة: 

تُرى أينَ غابَ المسيحْ؟!

منذُ ألفيتين وعشرين عاماً

فالمسيح هو رمز المحبة ورمز الإخاء والإنسانية والتسامح. وغيابه يعني غياب هذه الأشياء. المحب لا يكره، والعاشق لا يحقد مهما ظُلم ومهما قست عليه الظروف. يظل شامخاً كبيراً بعشقه وحبه وصدقه وسعة قلبه:     

صدِّقْ، فوهجُ الشمسِ بعضُ ملامحي

              وجنانُ دجلةَ والفراتِ جنوني

والبدرُ بدري كاملاً أو ناقصاً

                   والبارقاتُ تجلياتُ جبيني

ليس أجمل ولا أرقى من هذا الشموخ، ومن هذا البوح الصادق الصافي صفاء روح الشاعر. إنها عزة النفس البدوية النقية الطاهرة كرمال الصحراء وكواحات نخيل العراق. إنه الحب الصوفي لحدائق دجلة والفرات والكبرياء التي لا ترضى إلا بالحق كاملاً غير منقوص.

"البدر بدري كاملاً أو ناقصاً"

صرخة تخترق القلب وتستقر فيه لأنها من القلب ولأنها تعبير عن الحب المطلق غير المرتبط بظرف أو بحالة. إنها البساطة والصدق حتى النخاع. وفي هذه البساطة والعفوية سر سحرها وعظمة وقعها. 

كريم الأسدي شاعر المواقف الصادقة والانتماء.لا يحب الوطن فقط وإنما يحب كل من يحبه وينتمي لكل من يضحي في سبيله بالإخلاص لأبنائه والتضحية في سبيل إسعادهم:

يا مَن مشيتَ دروبَ الليلِ منفرداً

حتى تعودَ مريضاً مسَّهُ الوجـــعُ

 

يا قاسمَ الراتبِ الشخصيِّ تحملُهُ

في جيبِ بَدلةِ جنديٍ به ولَــــــعُ

 عبد الكريم قاسم رئيس جمهورية العراق في الستينيات من القرن الماضي مَثَلُهُ الأعلى في هذا الزمن الرديء. يستذكره عندما كان ينزل ليلاً إلى شوارع بغداد متخفياً في ثياب جندي عادي ويوزع معاشه الشهري على الفقراء والمحتاجين ولا يبقي في جيبه إلا جنيهات قليلة. يستذكر هذا الرئيس الشهم وهو يرى شذاذ الآفاق من أبناء قومه ينهشون لحم الوطن بعد أن سلموه للغزاة. الكبرياء لا تتجزأ والعزة لا تُكتسب بالمال تماماً كما أن كثرة المال لا تجلب الكبرياء والعزة للجبناء. فهاهم أصحاب المليارات يشتمهم ترامب ويبتزهم في عقر دارهم.

من يعشق عبد الكريم قاسم لا يمكن إلا أن يكون شامخاً شموخ المجرات:

 روحي مدى الأكوانِ في أفلاكِها

هلّا دريتِ بأيِّ بُعْدٍ روحـــــــي

 هذا الشموخ هو شموخ العراق وهذه العزة هي عزة الرافدين قبل أن يلوثهما الغزاة وعملاؤهم.

في كل قصائد كريم الأسدي التي استطعت الوصول إليها والاقتباس منها تبدو هذه الروح جلية وواضحة في كل بيت وفي كل كلمة. هذه الروح الثائرة المحلقة في مدى الأكوان وفي كل الأبعاد، غير آبهة بالسفلة والعملاء الذين يحاولون تعقبها والثأر منها. لأن صاحب هذه الروح هو الوطن بحد ذاته يحمله في قلبه ويصونه كبؤبؤ عينه:

تعقَّبني الرذيلُ يريدُ ثارا

وأعقبهُ العميلُ يزيدُ نارا

أنا وطنٌ أُصوِّرُهُ ديارا

 أُقدِّرُهُ المنازلَ والمدارا

إذا كان الوطن لا يتسع لكريم وإخوانه من الشرفاء فإن قلب كريم يتسع لهذا الوطن بما فيه من واحات ونخيل وجبال ووديان:

نخيلُهُ معـــــــــــــهُ أَنّى مضى ولَهُ

قربَ (الشواطيءِ) بيتٌ أمرُهُ عَجَبُ

هذا هو قدر الأحرار الشرفاء الذين يؤمنون بأوطانهم ويريدونها حضناً دافئاً للجميع. فمن يحب لا يكره ومن يحب لا يحقد. كبرياؤه لا تسمح بذلك: 

الحبُ بَحرُهُ فيما كارهوهُ لَهمْ

مس تنقعُ الغِلِّ مغلولٌ ومكتئبُ

 الأحقاد والضغائن من شيم الصغار الذين لا يعرفون الشموخ والكبرياء. وهي السبب في كل هذه الصراعات العبثية التي دمرت الأوطان وجلبت الغزاة.

"ونامَ الجميعُ، ومزمورُهُ يقظٌ وعتيدٌ ومُنوجدٌ قبلَ خلقِ المزاميرِ في غيهبِ الغيبِ في أبدِ الابتداءْ"

العراق شامخ بتاريخه العريق الذي يسبق التاريخ. من هذا الشموخ جاء شموخ الشاعر ابن هذا الوطن أبي الحضارات ومنبع الثقافات. وسيظل شامخاً مهما تداعت عليه النوائب والمحن:

 يكبو فنحملُهُ على الأعنـــــــاقِ

هذا عراقُك يا صديقُ، عراقي

هؤلاء هم الأبناء البررة لا يعرفون إلا العطاء ولا يرتاحون إلا عندما يحملون الوطن وهمومه في أعناقهم. الوطن بالنسبة لهم هو عطاء وليس بقرة حلوب. "هذا عراقك يا صديق، عراقي" قمة العفوية ومنتهى البساطة التي تأسر النفوس وتشعل المشاعر. عندما يكبو يُحمل على الأعناق وليس فقط عندما يزدهر. من هنا جاء الشموخ. من ترابه الخصب ومن مياهه الثرة النقية.

تحية لهذا الشاعر الكبير كبر العراق والشامخ شموخ نخيله وجباله:

يا هاتفاً "عيني" إذا خاطبته     ومردداً "روحي" أوان تلاقي

قمة العفوية النابعة من قلب كبير لا يعرف غير العشق ولا ينبض إلا بالحب الصادق النقي. تحياتي لهذا الشاعر المجبول بالصدق والشموخ.

 

حسين فاعور الساعدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم