صحيفة المثقف

عزيز السيد جاسم في (تلك الأيام)

جواد عبد الكاظم محسنتابعت بعناية واهتمام الحلقتين المميزتين اللتين قدمهما الدكتور حميد عبد الله عن الشهيد المفكر عزيز السيد جاسم، وعادت بي الذكرى إلى أول لقاء لي معه في مكتبة الفلفلي بسوق السراي بعد منتصف عقد الثمانينيات، وقد عرف بيننا صديقنا المشترك صاحب المكتبة محمد الفلفلي (استشهد في حرب الخليج الثانية سنة 1991م)، ومنذ اللحظة الأولى شعرت بشخصيته المرموقة وعمق ثقافته وسعة اطلاعه، وشدّني بأسلوبه الجميل وطبعه الهادئ، وكنت قد قرأت له قبل ذلك مجموعة غير قليلة من مؤلفاته ومقالاته المنشورة في الصحافة المحلية، ومازلت احتفظ ببعضها في أرشيف مكتبتي الخاصة ؛ كما شعرت بارتياحه لي ورغبته بالتواصل والحديث معي، وكان حديثنا عاماً وقصيراً حول عالم الكتب والمؤلفين .

لم نتحدث في السياسة على الإطلاق وتحاشينا الخوض فيها رغم حديثنا عن كتب ذات طابع سياسي أو قريبة منه، فقد ابتعدنا عن الحديث السياسي لأن الأوضاع العامة لا تشجع على ذلك، وقد ارتسمت أمامي المضايقات العديدة التي تعرض لها عزيز السيد جاسم بسبب كتاباته التي لم تعجب السلطة، وما مرّ به من معاناة شديدة، وخاصة عند صدور كتابه (علي سلطة الحق) .

كنت قد قرأت الكثير من كتب الفكر السياسي الصغيرة لعزيز السيد جاسم، ولم أتفق مع بعض ما ورد فيها، وقرأت له في الثمانينيات كتبا أخرى منها : (الاغتراب في شعر الشريف الرضي)، و(محمد الحقيقة العظمى)، و(علي سلطة الحق)، و(متصوفة بغداد)، فوجدت نفسي أقرب إليه ؛ كما كنت أتابع ما ينشر في جريدة العراق من مقالات قيمة ودراسات معمقة وكتابات لا تخلو من جرأة في طرحها ؛ فضلا عن روايته (الزهر الشقي) التي نشرت على حلقات قبل ظهورها كاملة، ورأيته كما وصفه الناقد الكبير شكيب كاظم فيما بعد (عقل باهر وفكر زاخر منذ بواكير كتاباته المعرفية).

وأذكر مقالة مؤثرة له بعنوان (خواطر عن النخيل أكرم الشجر) نشرها يوم 12/6/1985م في جريدة العراق، وهي محفوظة في أرشيفي إلى الآن لشدة إعجابي بها، وقد  جاء في مقدمتها (لم يحدثني أحد عن صوت النخلة الذبيحة، فقد سمعته بنفسي، فعندما يحز المنشار عنقها فإنها تصرخ صرخة العاتب الحزين الذي يتألم للذابح لا للمذبوح ؛ إنها تقول "آه" مرة واحدة، ثم تصمت إلى الأبد)، ويضيف ((إنه صوت يصعب أن تجد له مثيلا في وصفه – أذن – إلا من باب استدعاء الأوصاف في اللغة، ومن بين عشرات ومئات الأصوات الكسيرة، المتألمة، المعذبة، التي تودع الحياة على مشرعة القتل ؛ يظل صوت النخلة التي احتز رأسها الصوت الأكثر تفجعا، الأكثر امتلاء بـ "الليش" والأسى والشفقة ؛ إنه الجئير الآتي من أعماق الأبدية، وهل أعجب من عناق من عناق النخلة للأبدية ؟)، وتضمن المقال أحلى وأعمق مقال عن عمتنا النخلة والوصية بإكرامها من قبل النبي (ص)، وصدق أخوان الصفا (وهم أهل علم وموجدة وألفة وصحبة واختيار حين اعتبروها أرقى مرحلة في تطور النبات، وأول مرحلة في صعود النبات إلى مملكة الكائنات الحيوانية، فهي في سلم التطور آخر ما وصل إليه النبات من رقي .

أثار كتابه (علي سلطة الحق) ضجة كبيرة، وقد بحثت عنه واقتنيته، فلم أجد فيه على محاسنه ما استوجب تلك الضجة، ولكني علمت بعد حين أن هذا الكتاب المعروض في المكتبات العراقية هو المطبوع في بغداد بعد حذف فقرات كثيرة، وهو غير الكتاب المطبوع في بيروت الذي أثار تلك الضجة، وتسبب في سخط السلطة وأثارت دوائرها الأمنية، فصبت جام غضبها على مؤلفه، وأعتبر رسالة تحد صارخ لها في زمن شاع فيه الخوف والصمت الرهيب، وليس هذا فحسب بل اشترت الكتاب ومسوداته من الناشر قبل توزيعه، ونفذت فيه حكم الإعدام !! ولكن تسربت نسخ منه، فأعيد طبعه وصدر .

لقد كتب عزيز السيد جاسم على الصفحة الأولى كلمة الإهداء التي قال فيها (رحم الله أبي كان يشطر رغيف الخبز بيننا وبين السائل، فكان نصيبنا منه السهم الأقل) !! وكانت لـ(هذه الفرادة التي قدمها المؤلف والتي عكس فيها همجية السلطة وفوضى سياستها) دفع ثمنه غاليا فـ(نال وسام الشهادة والخلود في تاريخ الثقافة العراقية الملتزمة) كما قال محقق الكتاب صادق جعفر الروازق .

وفي ذاكرتي أن عزيز السيد جاسم نشر في تلك الحقبة رسالة حزينة ومؤثرة موجهة إلى صدام حسين في جريدة العراق أيضاُ، وقد صف فيها معاناته خلال فترة الاعتقال وما تعرض فيه، ووقتها عجبت من نشرها، وتساءلت كيف سمح النظام الديكتاتوري المجرم بنشرها، وعللت الأمر كوسيلة لامتصاص غضب الشارع الثقافي لاعتقال أبرز رموزه الثقافية ومفكريه المؤلفين بسبب صدور كتابه ( علي سلطة الحق)، ولتخدع الناس بأجواء حرية مزعومة، فسمحت بنشر رسالته!! وسأقوم حالما تسمح صحتي بالبحث في أرشيفي عن هذه الرسالة، وأغلب الظن أنني احتفظ بنسختها كما اعتدت الاحتفاظ بالوثائق الصحفية المهمة.

عاش عزيز السيد جاسم محنة شديدة مع النظام الصدامي القمعي، ربما لم يعرفها مثقف آخر غيره، فقد حوصر وحورب واحتجز، ولكنه بقي صامدا يؤدي رسالته، وصار أكثر دفاعا عن الحق والإنسانية والقيم السامية، وكانت له (جولة وكلمة حرة مع ما سجل من مداد خالد، وهو يُعلّم ويُخبر الطغاة بمنهج علي عليه السلام) .

وفي ذاكرتي أن عزيز السيد جاسم نشر في تلك الحقبة رسالة حزينة ومؤثرة موجهة إلى صدام حسين في جريدة العراق أيضاُ، وقد صف فيها معاناته خلال فترة الاعتقال وما تعرض فيه، ووقتها عجبت من نشرها، وتساءلت كيف سمح النظام الديكتاتوري المجرم بنشرها، وعللت الأمر كوسيلة لامتصاص غضب الشارع الثقافي لاعتقال أبرز رموزه الثقافية ومفكريه المؤلفين بسبب صدور كتابه (علي سلطة الحق)، ولتخدع الناس بأجواء حرية مزعومة، فسمحت بنشر رسالته!! وسأقوم حالما تسمح صحتي بالبحث عن هذه الرسالة في أرشيفي، وأغلب الظن أنني احتفظ بنسختها كما اعتدت الاحتفاظ بالوثائق الصحفية المهمة.

وفي ذاكرتي لقاء مميز معه في العام الأخير من حياته أي في صيف 1990م قبل غزو الكويت ؛ حين التقينا في شارع السعدون مصادفة، فقد استقبلني عن بعد بقامته المديدة وابتسامة المرحبة، وتصافحنا بمودة وحرارة، وكان سلام بيننا وسؤال عن الحال والأحوال، وكأننا عشنا الحياة معا منذ عقود وليس بضع سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكان أملي أن أتواصل معه في قابل الأيام فقد ارتحت له كثيراً، وارتاح لي أيضا كما بدا من ملامح وجهه الطيب وكلامه الجميل .. ذلك اللقاء مازال مرتسما أمام عيني ومحفوراً في ذاكرتي على الدوام، وما دار بخلدي أبداً أنه اللقاء الأخير بيننا.

كما أتمنى على الدكتور حميد عبد الله أن يولي اهتماماً، ويفتح ملفات الأدباء والكتاب والصحفيين والفنانين الذين أعدمهم النظام البائد أو غيبهم سجونه السرية ومعتقلاته الرهيبة لمواقفهم الحرة والوطنية وهم كثر، ففي ذلك أحياء لذكرهم وتكريم لشهادتهم وكتابة لتاريخ حاول المجرمون طمسه وإخفاءه عن أعين الناس.

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم