صحيفة المثقف

"القصة كاملة" أبعد من مقتل فلويد

بكر السباتينفي مشهد أمريكي متأزم وعنصرية ترامب.. في أكثر من سؤال

* البداية وأكبر احتجاجات تشهدها أمريكا

تشهد الولايات المتحدة اضطرابات خطيرة لم تعرف لها مثيلا منذ عقود، إذ لا تزال وفاة المواطن الأمريكي جورج فلويد تثير تداعيات خطيرة في الولايات المتحدة،

وقد لفظ فلويد، 46 عاماً، وهو مواطن أمريكي من أصول إفريقية، أنفاسه الأخيرة في ولاية مينيسوتا يوم الاثنين الماضي الموافق 25 مايو بعد أن وضع ضابط شرطة ركبته على عنقه لأكثر من ثماني دقائق. وتم تداول شريط فيديو يوثق للجريمة على مدار واسع، وعلى إثر ذلك ألقي القبض لاحقاً على الضابط ويواجه اتهام بجريمة قتل من الدرجة الثالثة. وفي إجراءات وقائية تم إعلان حالة الطوارئ في 25 مدينة.

* احتجاجات بين الموضوعية والتخريب

ورغم عدالة القضية التي أخرجت الناس من بيوتها إلا أن ثمة من ركب الموجة للتخريب والنهب، حيث شهدت مدينة سانت لويس بولاية ميسورى الأمريكية، إحراق عدد من المحال التجارية بالمدينة، كما قام عدد من المتظاهرون بتدمير سيارات تابعة لشرطة الولاية.. وفى سانتا مونيكا تعرضت المتاجر الفاخرة للنهب فى شارع شهير للمشاة، وحطمت مجموعة من الشبان والشابات نوافذ مركز تجارى ونهبوا المتاجر ثم تفرقوا قبل بدء حظر تجول فرض على البلاد.. أما فى العاصمة واشنطن وفي تحد كبير للبيت الأبيض والذي يطل الرئيس من نافذة مكتبه مباشرة على الحدث،  فقد أشعل المحتجون حرائق قرب البيت الأبيض وتصاعد الدخان ممتزجاً بسحب الغاز المسيل للدموع الذى أطلقته الشرطة لتفريق المتظاهرين.. واندلعت أعمال عنف متفرقة في أكبر المدن الأمريكية.. وبدأت الرهانات على مستقبل الرئيس تُبْذَرُ في حرث الاحتجاجات المتصاعدة والمنتشرة في عموم البلاد كالنار في الهشيم .. إذن القضية أكبر من حادثة مقتل أمريكي أسود اعتبرها الأمريكييون جريمة عنصرية تستوجب إدانة الجاني بالقتل من الدرجة الأولى واعتقال بقية المشاركين في الجريمة الشنعاء.

* ترامب على محك الأزمة

ولكن ما أغاظ ترامب وأحرج موقفه أن الاحتجاجات جعلته على تماس مباشر مع الحدث الذي أعجزه.. حيث شهد محيط البيت الأبيض تظاهرات فى ظل حالة التوتر التى تشهدها الولايات المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية، وتأججت الاحتجاجات، وتحولت لعنف وأعمال نهب وفوضى، واندلعت النيران في الحديقة الشهيرة أمام البيت الأبيض، ما جعل الرئيس ترامب يوجه اتهاماته لليسار على واعتبر بأنه هو المقصود من هذا التصعيد المشبوه في الاحتجاجات التي توصف بالسلمية عند غالبية المراقبين للمشهد الأمريكي الراهن.

* اعتقالات من جنب وطرف

الشرطة الأمريكية من جهتها نفذت حملة اعتقالات بعدد من الولايات والمدن بحق المتظاهرين ومنها على سبيل المثال أوكلاند سيتى و واشنطن و أتلانتا، فى محاولة منهم للسيطرة على التظاهرات، وكانت صحيفة أمريكية، ذكرت أن ما لا يقل عن 5 أشخاص لقوا مصرعهم في بداية الأزمة فى هذه الاحتجاجات والرقم قابل للزيادة .. ونمت أخبار عن اعتقال المئات من المتظاهرين، والقت الشرطة الأمريكة القبض على ما يقرب من 1400 شخص في 17 مدينة أمريكية في الوقت الذي تستمر فيه الاحتجاجات بسبب وفاة جورج فلويد.

وذكرت الشرطة ووسائل إعلام أمريكية أن ما لا يقل عن خمسة من أفراد الشرطة الأمريكية تعرضوا لإطلاق نار خلال الاحتجاجات العنيفة التي تشهدها مدن أمريكية.. وكان الرئيس ترامب يلوح بإجراءات أشد؛ لكبح جماح هذه الاحتجاجات التي يتهمها بالافتعال.

* ترامب يتهم "أنتيفا" بالإرهاب

وعليه فقد قال ترامب بأنه "سيحشد كل الموارد الفدرالية، سواء المدنية أو العسكرية، لوقف أعمال الشغب والنهب.. متهماً سلطات بعض الولايات بأنها فشلت للسيطرة على الشوارع من خلال انتشار أمني كثيف، مؤكداً على أنه كلف حكام الولايات بنشر قوات الحرس الوطني في الشوارع، مشيرا إلى أنه في حال رفضت سلطات المدن تلك الإجراءات، فإنه سينشر قوات الجيش "لحل المشكلة بسرعة"، معلناً تطبيق حظر التجوال في البلاد اعتباراً من الساعة السابعة مساء بشكل صارم .

* ترامب والورقة الرابحة فهل تنجح مساعيه؟

وكان ترامب قد اتهم مجموعة من المتظاهرين بأنهم "مجرمون يساريّون متطرفون"، متهماً شبكة "أنتيفا" وهي مجموعة تروج للفوضى المسلحة، بالوقوف وراء الاضطرابات التي أثارها مقتل فلويد.. ويقال بأن لها علاقة بالحزب الديمقراطي.

ويدرك الرئيس ترامب خطورة هذه المرحلة على نتائج الانتخابات المقبلة آخر هذا العام، وخاصة بعد أن تلقى ضربة من العيار الثقيل بفعل الخسائر التي تكبدتها أمريكا بسبب جائحة كورونا فخسر كل المكاسب التي حققها خلال فترة حكمة والتي تجلت بحل جملة من المشاكل الاقتصادية وانعكاس ذلك إيجابياً على البطالة.. لذلك ظلت رهاناته تستهدف الغالبية الطائفية البروتستانتية والتي تمثل ما نسبته 51.3 %.. علماً بأن غالبيتهم الساحقة ينتمون إلى العرق الأبيض الذي يمجد تفوقه الرئيس ترامب نفسه.. ويشكل الأمريكيون البيض غالبية الشعب الذي يعيش في الولايات المتحدة، بنسبة 72.4٪ من السكان في تعداد 2010 للولايات المتحدة.

* رهانت المقامر الأشقر على العنصرية

من هنا جاءت رهانات دوناند ترامب على فوزه المحتمل في الانتخابات المقرره في نوفمبر المقبل؛ لذلك غادر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب يوم أمس، البيت الأبيض سيراً على الأقدام متوجهاً نحو كنيسة ساينت جون المجاورة لمقرّ الرئاسة والذي طالته أعمال تخريب خلال الاحتجاجات الجماهيرية المتصاعدة على العنصرية وعنف الشرطة .. وبعد انتهاء ترامب من خطابه إلى الأمة من حديقة الورود في البيت الأبيض، توجه ومن معه  إلى كنيسة القديس يوحنا، التي يطلق عليها اسم "كنيسة الرؤساء" والتي أضرم فيها مخربون النيران ليل الأحد الماضي .. وكانت المفاجأة التي فتحت شهية المحللين على التأويل والشطح بالخيال على مختلف الاحتمالات.. وذلك حينما رفع ترامب الكتاب المقدّس وقال:

 "سوف تبقى الولايات المتحدة الأعظم في العالم آمنة وسالمة"..

وهو ما عمق حالة الغضب في البلاد خاصة بعد أن استخدم ضباط إنفاذ القانون الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي لفتح الطريق أمام ترامب للسير إلى هناك عقب إدلائه بتصريحات في حديقة الزهور بالبيت الأبيض .

هذا السلوك المستهجن ربطه المراقبون بأهداف ترامب الانتخابية والتي يراهن فيها ترامب على تفوق الجنس الأبيض وخاصة من الغالبية البروتستاتنية المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي والتي تؤازر الرئيس الأمريكي ترامب وتتوافق كما يبدو مع تصريحاته العنصرية حتى قبل انتخابه رئيساً لأكبر دولة في العالم..

* تاريخ ترامب العنصري.. وقفات للتأمل

حينما يصبح الرئيس وسياساته جزءاً من الأزمة فهنا تكمن الكارثة لأن صاحب القرار الذي يمتلك أدوات الحل جذرياً يصطاد في المياه العكرة التي تختلط فيها الأوراق مراهناً على العرق الأقوى والأكثر عدداً لذك سيهمل بقية الطوائف والأعراق.. هذه هي الرأسماية المتوحشة في بعدها العرقي؛ لأن ترامب يؤمن وفق الدارونية بأن البقاء للأقوى ويقصد هنا عرقيا: الأمريكيين البيض. وطائفياً: البروتستانتيين. فالعنصرية متأصلة في عقل ترامب الباطن.. ومن وحيها يتعامل مع أطيف شعبه وخصومه في الداخل والخارج.

وفي سياق ذلك دعونا نستقرئ مسيرة حياة ترامب من خلال بعض الشواهد والوقفات..

فقد تمّت مقاضاة ترامب وشركته (ترامب مانجمنت) عام 1973 من قبل وزارة العدل الأمريكية بتهمةِ التمييز السكني ضدّ السود ولم يعترف ترامب حينها بالتّهم الموجّهة إليه.

وفي عام 1973، رَفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى ضد مجموعة (ترامب مانجمنت)، دونالد ترامب ووالده فريد، بتهمة التمييز ضدّ السود في ممارسات الاستئجار. وكان الدّافع وراء هذه الدعوى هو رفض ترامب تأجير شقق في واحدة من أبنيته للأميركيّين الأفارقة"، منتهكاً بذلك قانون الإسكان العادل.

وأشارت العديد من الدراسات والاستطلاعات إلى أنّ المواقف العنصرية والاستياء العرقي غذّت صعود ترامب السياسيّ، وأصبحت أكثر أهمية من العوامل الاقتصادية في تحديد الولاء الحزبي للناخبين. ووفقًا لاستطلاع أجرته  Politico /Morning Consult في أكتوبر 2017، فإن 45٪ من الناخبين الأمريكيين رأوا أنّ ترامب عنصريّ و 40٪ لا يرونه كذلك.

من جهة أخرى نقل جون أودونيل في كتابه (Trumped) الذي نشره عام 1991 عن دونالد ترامب قوله:

«لديّ محاسبون سود في قلعة ترامب وفي ترامب بلازا، لديّ رجال سود يُحصون لي أموالي! أكره ذلك.

النوع الوحيد من الناس الذين أريدهم أن يُحصوا أموالي هم الرجال قِصار القامة الذين يرتدون الطاقية اليهودية... هؤلاء فقط هم من أريد منهم إجراء الحسابات على أموالي. لا أحد آخر ... بالإضافة إلى ذلك، أقول لك شيئًا آخر. أعتقد أنّ الرجال السود الذين يعملون لديّ كسالى وربما هذا ليس خطؤهم لأن الكسل هو سمة في السود.»

إنها قمة العنصرية البغيضة في أسوأ أشكالها، وخاصة أن دونالد ترامب اعترف بأن المعلومات الواردة في الكتاب "صحيحة على الأرجح" وذلك في مقابلة له في عام 1997،. ونفى أن يكون قد أدلى بالبيان بعد ذلك بعامين عندما سعى للترشّح إلى رئاسة حزب الإصلاح.. لأكن الأول هي الثابتة والتي برهنت عليها مسيرته السياسية منذ انتخابه ودمغت جبينه بالعنصرية وتضخم "أناه" ذات العرق الأبيض المتفوق.

* الخاتمة

ففي ظل الاحتجاجات التي يبدو بأنها ستطول، يطرح السؤال نفسه حول من سيقود أمريكا في مرحلة ما بعد الانتخابات في نوفمبر المقبل.. والتي قد يظفر بها مرشح الحزب الجمهوري ترامب.. فكيف سيقود أمريكا بفسيفسائها العرقي والطائفي رئيس يلوح بالإنجيل لاسترضاء البيض والبروستانت على حساب الأعراق الأخرى التي كما يبدو كانت تنتظر من يشعل النار في الهشيم، فتجأر أصواتهم في الشوارع عالياً مطالبة بالعدالة المفقودة..

القضية إذن أعمق وأبعد من مجرد مقتل أمريكي أسود من قبل شرطي فاسد بقلب بارد.. بل هي أزمة أخلاق ومأزق عنصري تناما في عهد المقامر الأشقر ترامب الذي لا يرى بعينيه إلا ما يشبع غروره وعنصريته البغيضة.. فهل سيقود رجل كهذا مستقبل أكبر دولة في العالم! الدولة التي بدأت تهرم وينتشر الشيب في رأسها وقد انحنى ظهرها في زمن لا ينتظر أحد.

 

بقلم بكر السباتين..

3- 6- 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم