صحيفة المثقف

البنية النفسية للإنسان المتخلف بين التطابق والاختلاف

محمد الورداشيكنا قد بدأنا مناقشة بعض النقاط في دراسة الدكتور حجازي حول البنية النفسية للإنسان المتخلف في مقالة سابقة، وسنحاول مناقشة النقاط الأخرى في ما سيرد في هذه المقالة الثانية.

 - حلل الدكتور مصطفى حجازي البنية النفسية للإنسان المتخلف بناء على التعميم، في حين أن هذا التعميم يبدو لنا أن منطلقه محلي، وهو لبنان خاصة؛ بحيث إن "الحديث يدور حول الإنسان المتخلف بشكل عام، إلا أن المادة مستقاة أساسا من واقع الإنسان اللبناني خاصة، والعربي عامة. بالطبع لا ينطبق كل ما سيقال على كل لبناني أو كل عربي"(1) هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نجد أن الكاتب يذهب إلى أن العنف المتفجر في لبنان والأشكال التي اتخذها، تعد، في نظره، فرصة للكشف عن العوامل والدوافع التي تعتمل في البنية النفسية للإنسان المتخلف. إلا أن هذه العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية قد تلتقي عند نقطة الصراع الطائفي، والسياسي بين فئات وجماعات مجتمع من المجتمعات العربية التي تعيش تعددا دينيا وثقافيا، والتي تعاني سلطتها خللا في بنيتها ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة والمتعددة. كما أن الواقع اللبناني قد ينسحب ما قيل فيه على مجتمعات عربية أخرى، وقد تختلف معه قليلا أو كثيرا حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي تشكل بنية الفرد أو الجماعة فيها.

- يقول الكاتب: "نظرة  إلى مختلف المجتمعات المتخلفة تبين بجلاء انقسامات داخلية، شبه أكيدة في كل منها. ينقسم السكان إلى جماعات وطوائف، مختلفة الانتماءات العرقية أو القومية أو الدينية متصارعة فيما بينها"(2). لكن ثمة مجتمعات عربية قد تكون متصارعة بناء على الاختلاف العرقي العنصري، أو أخرى متصارعة بسبب الانتماءات الدينية، في حين أن مجتمعا، كالمجتمع المغربي، لا نكاد نرى حربا بين طوائفَ مختلفةِ الانتماء حول الدين والمعتقد؛ كأن يظهر من يريد دينا خاصا به، وفي حدود المنتسبين إلى الإسلام، باستثناء الشيعة الذين يشكلون أقلية لا تكاد تبين، ثم إن كتبها ليست منتشرة لأسباب ملغومة، كما أن باقي المعتقدات الدينية الأخرى تمارس من قبل غير المسلم بدون اضطهاد. وحتى إن وجدت هذه الانقسامات في المغرب، فإنها لم يترتب عليها صراعٌ لعواملَ قد تكون ظاهرة أو مضمرة، إلا أننا نجد خلافا سياسيا، ثقافيا لغويا بين المدافعين عن اللغة العربية، وأنصار اللغة الأمازيغية، أو بين اللغة العربية واللهجات المغربية. ولئن كان ثمة اختلاف في اللغة، مثلا، فإن هناك توحدا في المعتقد الديني. وهذا قد ينقص من نسبة الصراعات. فالعنف السياسي والديني والطائفي لا يمكن أن يكون بنسبة واحدة في كل المجتمعات النامية المتخلفة، بل إنه يتخذ صورا مختلفة؛ فالمتظاهر المغربي، على سبيل المثال، يتعرض إلى قمع جهاز الدولة بشتى الطرق، لكنه في حالة دفاعه عن نفسه لا يكسر الممتلكات العمومية مثلا، باعتباره تعبيرا عن الدفاع عن التوازن النفسي والاجتماعي على السواء، وهذا المواطن المحتج والمتظاهر، يصعب أن تنطبق عليه صفة الاستكانة المطلقة ما دام يعي مأزقه الاجتماعي، ومن ثم يعمل على تغييره من خلال التظاهر والرفض والاحتجاج والنضال.

- علاقة المواطن بالسلطة تكاد تكون واحدة في المجتمعات العربية، ومكمن الخلل هنا هو أن الحوار بين الطرفين يكون منعدما؛ لأنه غير متساو نظرا لكونه يأتي من جهة الاستعلاء بحيث يأتي المواطن ليسمع اقتراحات ممثل السلطة فقط، لا ليدخل معه في حوار بناء يقوم على التساوي، وينطلق من أرضية جدلية تتأسس على الاعتراف بالحق الإنساني، ولا من نقاش للمشكلة بهدف الخروج بحلول ترضي كلا الطرفين. كما أن انعدام الحوار مصدره، حسب الكاتب، هو كون "السلطة لا تريد مواطنين، بل أتباعا، إنها تخشى المواطنية التي تعبر عن ذاتها، تخشى المواطنية التي تنزلها من مكانتها الجبروتية إلى مستوى اللقاء الإنساني"(3).

- الإنسان الذي يدرسه حجازي يبدو إنسانا سكونيا مستلبا، لا إرادة له، ولا حرية، ولا آفاق وآمال في الارتقاء نحو الأحسن؛ أي أنه مسلوب إرادة التغيير، بيد أن هذا الإنسان لم يكن هو نفسه الذي ظهر في ثورات ما اصطلح عليه بالربيع العربي، وما تناسل عنها من ثورات أخرى، وهذا يدل على حركية الإنسان العربي وطموحه إلى التغيير طلبا للكرامة والعدالة الاجتماعية رغم متاريس القمع والاضطهاد التي تنصب أمامه. فسواء أَنجحت تلك الثورات وغيرها أم لم يحالفها النجاح، فإنها قد أعربت لنا عن إنسان له طموح تغيير وضعيته المأزومة، عكس إنسان حجازي. كما أنه لم يترك المياه راكضة، وإنما وضع، ويضع، وسيضع حبة حصى لتحرك المياه الأسنة. بيد أن حجازي لم يتحدث عن دور المثقف في حياة الشعوب المقهورة، وعن وضعيته داخلها؛ لأن المثقف هو الشمعة التي تضيء ليل الشعوب أو السلطة، أو هما معا في إطار المصلحة العامة، فضلا عن كونه يعرف حدود مهمته التي لا ينبغي أن يتجاوزها حتى لا يصاب بخيبة أمل ما من قبل الجماهير أو الدولة.

- ثمة ظاهرة ذكرها حجازي في سياق الدلالة الاجتماعية للطعام عند الشعوب المتخلفة، حيث قال: "يظهر الخوف واضحا من خلال الأزمات حين يقبل الناس، على اختلاف مستوياتهم، على التخزين بشكل مفرط لا تبرره الظروف الموضوعية مطلقا. وكأن كلا منهم في إسرافه في استهلاك المواد الغذائية وفي تخزينها يود أن يدفع عن نفسه شح الفقر"(4). ولعمري إننا قد لاحظنا ما يعزز هذه الظاهرة في مجتمعنا المغربي، إثر فرض حالة الطوارئ بسبب الوباء، حيث أقبل المترفون وكل من لهم قدرة على الشراء، إلى المحلات التجارية محملين بمواد غذائية، غير مكترثين بالمحرومين والمعدومين، فرحين بما أتاهم الوضع من تميز وقدرة على الإسراف في التخزين. وهذا حال الإنسان المتخلف الذي سبق له أن عايش تجربة الجوع في بدايات حياته، محاولا محو هذه التجربة بالإقبال على الاقتناء المفرط، ومخافة العودة إلى الوضعية التي تجعله متساويا مع غيره في الإنسانية، والحق في الحياة.

- بقي لنا أن نختم هذه المقالة ببعض الأسئلة التي ستدفع بنا إلى مزيد من البحث، سواء داخل دراسة حجازي أو خارجها، والأسئلة هي: هل كل ما قدمه الدكتور مصطفى حجازي في أطروحته النفسية الاجتماعية، ينسحب بحذافيره على كل المجتمعات النامية والمتخلفة؟ ألا يعد هذا التعميم ضربا في الخصوصية والتنوع في كل مجتمع على حدة؟ أليست لكل مجتمع عربي بنية اقتصادية واجتماعية تنتج بنيته النفسية المتخلفة، بوسائلَ منظمة وموجهةٍ عبر مسار طويل؟ ما دور الإعلام في إنتاج البنية الاجتماعية والنفسية المتخلفة؟ في الانشطار الوجداني والعاطفي، في تدهور البنية الذهنية، في ازدواجية الشخصية، في العنف الجماعي والفردي، في الإرهاب؟ ما البديل الذي قدمه حجازي كيما تتجاوز برامج التنمية تعثراتها في المجتمعات المتخلفة؟

 

محمد الورداشي

..................

(1) مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ط9، 2005، ص11.

(2) نفسه، ص179.

(3) نفسه، ص196.

(4) نفسه، ص118.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم