صحيفة المثقف

محطات وذكريات

جواد عبد الكاظم محسنفي مكتبتي الخاصة مكانة مائزة لكتب المذكرات، وأجد كثيراً من المتعة والفائدة والعبرة عند قراءتها، وقد جمعت منها ما يزيد على الثلاثمائة كتاب، ومازلت حريصا على اقتناء كل جديد يصدر منها، ويمكنني الحصول عليه، وخاصة مذكرات الشخصيات العراقية، وآخر ما وصلني منها كتاب (محطات وذكريات)  للدكتور ناجح الراوي رئيس المجمع العلمي العراقي الأسبق الصادر عن دار قناديل ببغداد، ولما قرأته كانت لي وقفات في عدد من محطاته وآراء في بعض ما دوَّنه، فكانت هذه السطور.

بدأ المؤلف كتابة الذي قسمه إلى سبعة عشر فصلاً بمقدمة جميلة جاء فيها (عندما يرتقي المرء سلم المسؤولية، تكون تجربته ملك المجتمع ومن حق الجماهير والساسة الاطلاع عليها للإفادة من الايجابيات وتجنب السلبيات والعثرات، فحياة المسؤول وذكرياته وتجاربه قد تسهم في جزء من كتابة تاريخ المرحلة التي يعيشها، لهذا فإن المذكرات يجب أن تكتب بصدق وأمانة ودقة تنسجم مع السيرة التاريخية)، وأوضح أنه (عمل في أماكن متعددة: أستاذاً جامعياً، وعميد معهد، وعميد كلية، ووكيل وزارة، ووزيراً، ورئيساً لمجلس البحث العلمي، ورئيسا للمجمع العلمي العراقي، ومناصب متعددة غيرها، فكانت هذه المذكرات تأريخا لهذه السنين الطويلة).

خصص الفصل الأول لنشأته الأولى حيث ولد في إحدى قرى راوة سنة 1935م، ودراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وكان الفصل الثاني لدراسته الجامعية الأولى، وكانت في كاردف في مقاطعة ويلز بالمملكة المتحدة، وتخرجه فيها سنة 1957م، وعودته إلى العراق، والتحاقه بدورة في كلية الضباط الاحتياط، ولما قامت ثورة 14 تموز سنة 1958م التي خصص لها الفصل الثالث من كتابه كان ضابطاً منسباً في كتيبة الهندسة الأولى ومقرها في الحلة، وشاءت الصدفة أن يكون موفداً يومها إلى بغداد بواجب عسكري، وأورد في الفصل الرابع سفره سنة 1961م إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتكملة دراسته العليا، وقد أكملها سنة 1967م، وعاد ثانية إلى العراق.

1545  مذكرات ناجح الراوي وفي كلا الفصلين المتعلقين بدراسته في المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية تحدث بتفاصيل عن حياته في البلدين وأسماء أصدقائه وسفراته معهم ونشاطاته الطلابية، وهي كثيرة، وقد تخللها الكثير من الصراعات السياسية والفكرية بين الطلبة العرب والعراقيين خاصة في تلك الحقبة، وكان على وشك العودة للعراق بعد إكمال دراسته عندما وقعت نكسة الخامس من حزيران سنة 1967م، فوصف الحال بقوله (كانت أحداث الخامس من حزيران وانتصار إسرائيل الكاسح السريع على مصر وسوريا والأردن، وابتلاع واحتلال سيناء والجولان وما تبقى من أرض فلسطين، وكان اليهود يرقصون فرحاً في شوارع نيويورك ويجمعون التبرعات لإسرائيل).

وبعد رحلة سياحية طويلة في بالبحر من نيويورك إلى انكلترا، ثم بسيارته الخاصة إلى فرنسا وإيطاليا ويوغسلافيا وبلغاريا وتركيا وسوريا قبل أن يصل بغداد في تموز سنة 1967م، وتعيينه مدرساً في معهد الهندسة الصناعية العالي بجامعة بغداد في أيلول سنة 1967م، وهو معهد كما قال (يقبل بعض الطلبة الراسبين في كلية الهندسة وخريجي الثانوية بمعدلات متدنية وأغلبية طلابه من الذكور).

وفي الفصل السادس تحدث عن (انقلاب وثورة 17- 30 تموز 1968م) من وجهة نظره كسياسي ينتمي للحزب الذي هيمن على السلطة، وأول لقاءاته مع أحمد حسن البكر، وتعيينه عميدا لمعهد الهندسة الصناعية العالي، وما عمله للحد من الفوضى المنتشرة فيه، وذكر أن (ناظم كزار الذي أصبح مديرا للأمن كان راسباً في كلية الطب وقبل في المعهد عام 1967، وفي عام 1968 لاحظت أن درجة ناظم في درس الفيزياء قد عدلت من 35% إلى 50% ، فطلبت مدرس المادة إبراهيم غزالة وكان يشغل منصب معاون العميد، وسألته كيف حدث هذا؟ قال " دكتور بقى أنا رسبتوا سنة 1963 في الكلية الطبية ووقفوني ستة أشهر، وأنا ما مستعد أتوقف بعد"، فاضطررنا إلى زيادة درجات كل طلبة الصف في درس الفيزياء بالدرجة نفسها)!!

وفي هذه المرحلة غرق صاحب المذكرات في نشاطاته الحزبية المتداخلة مع نشاطاته المهنية، وتحدث عن أربعة مراحل في (تصفية العسكر)، تمثلت الأولى في إقصاء عبد الرزاق النايف  وإبراهيم الداود (وكان مسؤول التصفية صدام حسين كما هو معروف)، والمرحلة الثانية تصفية جماعة عبد الغني الراوي التي كانت تخطط في الأيام الأخيرة من حكم عبد الرحمن عارف لتسلم الحكم، والمرحلة الثالثة كانت إبعاد صالح مهدي عماش وحردان التكريتي (ثم تمت تصفيته في الكويت، ولقد قوبل الإجراء بارتياح عام من قبل ملاكات الحزب الذين يذكرون حردان في تشرين من عام 1963)!!

وفي المرحلة الرابعة من مراحل تصفية العسكر يورد صاحب المذكرات كلاماً خطيراً، إذ يقول (لم يبق من العسكر في صفوف القيادة سوى أحمد حسن البكر ووزير الدفاع حماد شهاب ووزير الداخلية سعدون غيدان، فكانت حركة ناظم كزار في 30/6/1973 للتخلص من الثلاثة ولتأخر طائرة أحمد حسن البكر الذي كان في زيارة لبلغاريا فقد نجا من المحاولة، أما حماد شهاب فقد كان الضحية، وأصيب سعدون غيدان إصابة بسيطة)، ويتساءل (هل كان ذلك من تخطيط ناظم كزار؟ لم يتساءل الحزب حفاظاً على وحدته وامتثالاً لتجربة عام 1963، وترأس المحكمة عزة الدوري، ولكن السؤال : ما علاقة عبد الخالق السامرائي الذي يبدو على النقيض من شخصية ناظم كزار، وربما لا يتفقان على شيء، هل هو تخلص من شخص مشاكس في القيادة؟!)، ويصف الدكتور ناجح خليل في مكان آخر عبد الخالق السامرائي بأنه (شخص مبدئي وموضوعي)!!

وأكمل حديثه عن تصفيات العسكر في المرحلة الرابعة فيقول(بقي أحمد حسن البكر الذي أصبح حساساً جداً وحذراً، واحتفظ بمنصب وزير الدفاع فضلاً عن المناصب الأخرى فترة من الزمن إلى حين تعيين عدنان خير الله في هذا المنصب فهو ابن خال صدام حسين وصهر أحمد حسن البكر البكر، فقد حقق التوازن بين الرجلين، في هذه الفترة عين صدام حسين على وفق استغراب الجميع فريق ركن وهو الشخص المدني، وأخذ يقرب الحزبيين من المواقع المتقدمة، وأصبح يسيطر على الجيش والمخابرات والأمن، وأصبح احتلال الموقع الأول في الحزب والدولة مسألة خاضعة للتوقيت المناسب للإعلان، وهذا ما حدث في تموز 1979م)!!

ويتوقف في محطة مهمة، وهي أحداث تموز سنة 1979م ، وكان حينها يقضي العطلة مع أسرته في جيكوسلوفاكيا، وجاءه صديق وهو (شخص هادئ جدا جدا ودمث أخلاق)، فسأله (عن الأحوال في العراق فقال : دكتور ماكو شيء .. الأحوال هادئة .. بس الرئيس أحمد حسن البكر استقال وصدام أصبح رئيسا للجمهورية .. وبعض أعضاء القيادة اتهموا بالتآمر واعتقلوا وتم إعدامهم وهم : محمد عايش، ومحمد محجوب، وغانم عبد الجليل، وعدنان الحمداني، ومحيي الدين عبد الحسين المشهدي .. وإن عددا من الملاك المتقدم في الحزب قد تم اعتقالهم ...)!! ويضيف أن زوجته (كانت قلقة جداً من الأخبار العصيبة على الرغم من طمأنتي لها بأنه لا علم ولا علاقة لي بما جرى)!!.

وفي تقييمه لما جرى يقول (لقد أحدثت تغييرات 1979 هزة كبيرة في أوساط الحزب، ولاسيما الملاك المتقدم فيه، فقد انتهى عهد أحمد حسن البكر وربما صفي بطريقة خاصة، فأكملت صفحة تصفيات العسكر القديم لتبدأ مرحلة جديدة ، صعود عسكر جديد "حسين كامل وعلي حسن المجيد" ولتبدأ تصفيات الملاك الحزبي المتقدم لاسيما أعضاء المؤتمر القطري الثامن، وأصبح الآخرون خائفين ساكتين : إما خائفون على الحزب وأحداث 1963 ماثلة أمامهم، وإما خائفون من بطش الأجهزة الأمنية، وأصبح دور الحزب دوراً هامشياً ، فعلى الملاك الحزبي تنفيذ التعليمات، والاجتماعات الحزبية لتلقي هذه التعليمات)!!

وعين في أواخر سنة 1980 رئيسا لمجلس البحث العلمي ، وفصل الحديث عنه في الفصل الحادي عشر، والخلاف مع حسين كامل عند استلامه (مسؤولية التصنيع العسكري، وكانت الحرب مع إيران مستعرة، فأعطي صلاحيات واسعة لم تمنح لوزير، بل هي صلاحيات رئيس الجمهورية)!! ويصفه (كان شاباً طموحاً يحاول السيطرة على كل ما ينبئ يإمكانيات واعدة)!! وبدأ نطاق عمله (يتوسع بشطر أعمال منظمة الطاقة الذرية إلى قسمين قسم يتبع للتصنيع العسكري وآخر لمنظمة الطاقة الذرية)، وهنا حدث الاختلاف، فاتصل به حسين كامل هاتفياً من القصر الجمهوري بخصوص صدور مرسوم جمهوري بشأن مركز الفضاء و(إذا به محتجا على صدور المرسوم بعصبية ، وأخذ يتفوه بكلمات لا تليق بمسؤول بالدولة)، وختم كلامه بالتهديد قائلاً (دكتور إحنا الذي يقف أمامنا ندعجه)!! وتحدث عن بعض المضايقات الأمنية التي رآها في منصبه هذا.

وفي الفصل الثاني عشر بلغت محطات الذكريات مرحلة انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، فتحدث عن تقرير قدمه بصفته مسؤولا متقدما في حزب السلطة عندما طلب منه صدام ومن الوزراء وأعضاء قيادات المكاتب والفروع  (تقديم آرائهم مكتوبة بكل صراحة عن الديمقراطية)!! فكان الجواب إحالته على التقاعد وإلغاء مجلس البحث العلمي!!

ويمضي الدكتور ناجح الراوي في محطاته وذكرياته ليذكر في الفصل الرابع عشر الشخصيات العالمية والعربية التي تعرف إليها من الرؤساء ورؤساء الوزراء وأماكن لقائه بهم، ومنهم محمد زياد بري الذي فاجأ مستقبليه في بغداد سنة 1977 بعدم إتقانه اللغة العربية، ولم يهيئ له مترجم (على أساس أن الضيف رئيس عربي مما اضطر الدكتور سعدون حمادي أن يقوم بالترجمة الفورية)، ووصف الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وقد التقاه في مؤتمر بطهران سنة 2001 بأنه (شخص مثقف وقور متخصص بموضوع الفلسفة،وتحدث عن تفاعل الحضارات بين الشعوب كبديل لصراع الحضارات)، وعندما عرف أنه من العراق (كانت تحيته باللغة العربية التي يتقنها).

ويقف صاحب المذكرات محللاً لشخصيات لها موقع خاص ومؤثر في محطاته، وهم ميشيل عفلق وأحمد حسن البكر، وصدام حسين الذي قارن بينه وبين جمال عبد الناصر، وأعتبر قيامه بإعدام (ستة من أعضاء القيادة السابقين، وعدد من الملاك المتقدم في الحزب ومن أعضاء المؤتمر القطري الذي انتخب القيادة بحجة التآمر مع سوريا، فعم الرعب والخوف في صفوف الحزب) من أخطائه، وأقول بل هي واحدة من مسلسل جرائمه الطويل الذي دمر العراق وأوصل العرب والمنطقة إلى أسوأ حال!!

 

جواد عبد الكاظم محسن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم