صحيفة المثقف

نصٌّ للضُّعفاءِ فقط ..

عاطف الدرابسةقلتُ لها:

أُحبُّ أن أدخلَ مع نافذتي في حوارٍ أو نقاش. أقفُ أمامَها وزخَّاتُ المطرِ توشوشُها. فالمطرُ الذي يأتي في آخر الرَّبيعِ يُعيدُ ترتيبَ الفصولِ. رُبَّما يكونُ أشبهُ بحُلمٍ عارٍ. لا أعرفُ هل النَّافذةُ تُصغي لي؟ أم تُصغي لهذا المطرِ. الذي ينهملُ على الزُّجاجِ كأنَّهُ دموعُ الغريبِ. أو الغائبِ. أو المُعاتبِ؟ أحياناً تبدو لي النَّافذةُ كأنَّها صفحةٌ في كتابٍ. أو كأنَّها ورقةٌ تكتبُ عليها السَّماءُ خاطرةً بحروفِ المطرِ .

أقفُ أمامَ نافذتي؛ وأرى خطواتِي تهربُ منِّي. وعيني ترى أشياءً لا تُرى؛ وكأنَّها تستجدي المطرَ أن يشرحَ لها ما ترى. رُبَّما أرى خسائري تسخرُ منِّي. رُبَّما أرى أيَّامي تُطلُّ من أعماقِ الضَّبابِ. تنقلُ العزاءَ لما تبقَّى من العُمرِ .

لا أعرفُ أينَ تأخُذني نافذتي. فهذا الغيبُ لا يفتحُ لي صدرَهُ. ولا يُساعدني أن أُحرِّرَ خُطايَ؛ فأنا مُكبَّلٌ بقيدٍ من حديدٍ. أو فولاذٍ. أو نحاسٍ. أحملُ شهوةَ حصانٍ يسعى أن يمتطي الرِّيحَ. وتُحاصرني رغبةُ الامتلاكِ. وأنا الفقيرُ إلى رحمةِ قلبِها .

أقفُ أمامَ النَّافذةِ أتأمَّلُ حقولَ الفقرِ واليَباسِ. وأمضي في سراديبِ النَّدمِ بلا قدمينِ. أو عينينِ. أسألُ تلكَ الحُقول عن ذاكرةٍ جفَّت. عن صوتِ امرأةٍ يخرجُ من بينِ أنفاسِ اليأسِ .

أُحاولُ أن أبحثَ عن طريقٍ مُستقيمٍ بينَ السَّحابِ. لعلِّي أكونُ قريباً من البرقِ. لعلِّي أشهدُ ولادةَ المَطرِ .

أقفُ أمامَ النَّافذةِ أرى رُكامَ السَّنواتِ. وأرى حُشودَ الخسائرِ تزحفُ نحوي. كأنَّها القطيعُ. أستحضرُ اللَّحظةَ كأنَّها عالمٌ من الجِراحِ. أو الزَّيفِ. أو الخداعِ. أسألُ نفسي هل أنا من آلِ قلبِها أم أنا من الغُرباء؟ أسألُ نفسي هل أنا الهاجرُ أم أنا المهجورُ؟ هل أنا الظَّالمُ أم أنا المظلومُ؟ هل أنا من أبناءِ مُدنِ الخوفِ والقهرِ؟ هل أنا أحدٌ أم أنا لا شيء؟

أقفُ أمامَ النَّافذةِ وحيداً أعزَلَ. إلَّا من ذكرياتٍ تتناقصُ كأنَّها في حالةِ موتٍ بطيءٍ. وأراني مريضاً بكِ. مُبَلَّلاً بكِ. مُلتفَّاً بكِ. كُلَّما انحسرتِ عنِّي. تمدَّدتُ فيكِ أكثر. كأنَّكِ نورٌ. كُلَّما ابتعدَ عنِّي أكثر. تغلغلَ فيَّ أكثر .

يا جمرَ الرَّحيلِ في دَمي. يا انطفاءَة النُّورِ في قلبي. ما زلتُ أُعبِّئُ الحنينَ في جِرار الرُّوحِ. ما زلتُ أُعبِّئُ الشَّوقَ في كلِّ وريدٍ. ما زلتُ أُوصلُ الوريدَ بالوريدِ. ما زلتُ أسألُ شكِّي عن اليقينِ .

كلَّما نأيتِ. يزدحمُ في دَمي الحنينُ. وكُلَّما صرختُ سالَ من صوتي لحنٌ قديمٌ : تعالي أنسجُ لكِ من شرايينِ القلبِ عباءةً كظلِّ النَّخيلِ. تعالي أضُمُّكِ كأنَّكِ زهرُ الياسمينِ. تعالي نحيا بالحُبِّ العتيقِ. تعالي نشربُ معاً نخبَ اللَّيلِ قبلَ الموتِ الأخيرِ .

 

د.عاطف الدرابسة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم