صحيفة المثقف

التكلس الثقافـي

محمد الدعميإن المتكلسات الثقافية تظهر على أنواع وتنشطر إلى أصناف مختلفة، إلا أنها لا بد وأن تتآلف جميعا في إطار واحد، وهو طبيعة دورها الارتجاعي الكابح أو المحيط. ومما يؤسف له، هو أن المتحجرات الثقافية لم تزل تدفع بالثقافة العربية، بل والإسلامية عامة إلى القهقرة وراءً..

استعرت العديد من الاصطلاحات الفنية من حقول العلوم التطبيقية على سبيل تطبيقها على حالات من الواقع الاجتماعي والسياسي عددا من الألفاظ أو الاصطلاحات الفنية بضمن مناقشاتي لموضوعات الثقافة العربية المعاصرة وذلك نظرا لمطابقتها اللافتة للنظر لتلك الموضوعات المهمة. ويبدو أن الجمهور عامة والكتاب خاصة يستحسنون هذا النوع من المزاوجات بدليل ما لوحظ من تكرارها وتوظيفها بذات الطريقة هنا وهناك من قبل البعض من المتابعين في أرجاء العالم العربي، إذ انتشرت تعابير كنت قد ابتكرتها، من نوع «التصحر الثقافي» و»التعرية الثقافية»، على نحو لا يمكن أن يمر على المتابع النابه دون ملاحظة. وفي ذات السياق، يمكن استعارة لفظ من نوع «متكلس» من علوم الكيمياء والجيولوجي Geology على سبيل تعيين ظواهر ثقافية رجوعية، بل ولاجمة للتقدم، بمعنى الكلمة. وهي حال لا بد من الانتفاض عليها في سبيل بلوغ «الرجة الثقافية» التي قد تعيد للعديد من سراة القوم رشدهم.

إن المتكلسات الثقافية تظهر على أنواع وتنشطر إلى أصناف مختلفة، إلا أنها لا بد وأن تتآلف جميعا في إطار واحد، وهو طبيعة دورها الارتجاعي الكابح أو المحيط. ومما يؤسف له، هو أن المتحجرات الثقافية لم تزل تدفع بالثقافة العربية، بل والإسلامية عامة إلى القهقرة وراءً، وكأنها ترنو للتعمية ولسد الطريق أمام تيار التقدم الجارف من خلال دفن منابع الإبداع وقطع الطرق عليه من أجل أن تبقى ثقافتنا العربية الإسلامية حبيسة صيغ متكررة وأطر متكلسة خانقة لا تقبل المرونة ولا تتواءم مع عوامل التغير لأطوال زمنية لم تعد قابلة للتحمل من قبل جمهور الشبيبة والنشء الوثاب إلى الجديد والواعد المشرق في عالم متجدد.

وإذا كانت انتقاداتي المتكررة هذه لما تعكسه له شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الشائع من صورة مجسمة محبطة لتمظهرات الرجوعية والتكلس، فإن في هذا المشهد المحبط المنظور من سوء الفهم الكثير، والمثبط للهمم كذلك.

وتعد هذه من أهم الإشكالات التي تشوب ثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة نظرا لسوء فهم هضم وامتصاص مدخلات من نوع «التقدم» و»الفاعلية» الاجتماعية بوصفهما الهبوط والتدني تحت عناوين مستهلكة من نوع «الثورة» و»التمرد على المألوف» ورفض ما أملاه «القدماء» علينا على طريق إبقائنا في زنزانات التاريخ. بيد أن الصحيح هو عدم التوهم بأن التدني وطلاق العربية الفصحى، ثلاثا، هما من الشروط المسبقة للتقدم.

المعيار الصحيح في هذا الجدل المبسط يتجسد في مغادرة المتحجرات والمتكلسات الثقافية أو إحالتها على التقاعد بعد أن بقيت لأزمان طويلة ولأجيال متتالية ليحل محلها الثوري والجديد في قائمة الثقافة الحقيقية. وكما بقيت هذه المتحجرات الثقافية جاثمة ثقيلة على صدور الأجيال وعلى جسد ثقافتنا، ثم على مناهجنا المدرسية، فإن على المرء تجنب بث الحياة بتلك المتحجرات كما هي (كمتحجرات هي الأخرى)، ولكن عليه الاستجابة لقوة الحياة بعد أن تصخرت لزمن طال لعصور.

إن ما أحاول أن أدعو إليه هو التجديد الحق والاستبدال الثقافي المنفتح للحياة كي تكون الطريق سالكة للأجيال الجديدة المتطلعة لثقافة واحدة ورصينة، خصوصا عندما تكون هذه الأجيال، المؤهلة علميا وتربويا وأخلاقيا، مستعدة لذلك كي تبدع فتزرق شيئا من دمائها السيّالة الساخنة في عروق «المومياوات» الثقافية المتكلسة المسجاة في الصناديق الزجاجية على رفوف المتاحف جيلا بعد آخر وإلى ما لا نهاية. ناهيك عن ظاهرة تقنين الثقافة على أنماط تكرار متكلسة هي الأخرى كذلك على طريق إعادة إنتاج نفسها بنفسها على نحو متتالٍ حتى تلفظ أذكى الأذهان وأوقد العقول الذكية أنفاسها الأخيرة، تاركة شبيبتنا ونشئنا في غياهب الفجوة الثقافية التي تفصلنا عن العالم المتقدم: لم لا نتخلص من البيئات الثقافية المساعدة على التكلس، فربما برزت بيننا عبقريات تتجاوز اختبار الزمن نحو أعالي التسامي فوق الزمنية.

 

أ. د. محمد الدعمي

كاتب وباحث أكاديمي عراقي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم