صحيفة المثقف

طَـوْقَــنَـةُ الإله.. وتألـيـه الطـاقــة

علاء شدهان القرشيللإله حدود واضحة في المدونة الإبراهيمية، إلا أنّها حدود متحرّكة، أجازت نصوص المدونة تأويلها وتكثير فهمها وتفسيرها، وتشكيل معانيها. فتمخض ذلك عن صور مختلفة للإله، تتعدد وفق ثقافات معتنقيها، وتنوّع أذواقهم في الجمال، وطريقة رؤيتهم للعالم، واختياراتهم الشخصية في الحياة. وله صور مختلفة في مدونات لا إبراهيمية، تشاركها في نوع الحدود، وطبيعة المعتنقين.

في فترة لاحقة، تطور تناول هذا المفهوم تطورا كبيرا، لست بصدد أرْخَنَـتِـه، ولكنني أود التنويه إلى فكرة طارئة، حديثة ولامعة، وهي فكرة طَـوْقَــنَـةُ الإلــه، من جهة، وتألـيـه الطـاقــة من جهة أخرى.

فالطاقة مفهوم ما زال يكتنفه الغموض، في حدود إمكانات البشر الحالية، ويتم تعريفها من خلال ظواهرها، بعيدا عن لمس جوهرها، مما أدى إلى تكثير معناها، وضياع حدودها. تماما كما يحصل مع مفهوم الإله، في المدونات الإبراهيمية وغيرها. سمح ذلك لجزء معتد به من المفكرين شرقًا وغربًا، بطـوْقَـنَـةِ ذلك الإله، أي تعريفه بالطاقة، وسمح أيضًا بتألـيـهِ الطاقة، أي تعريفها بالإله، ومطابقة المفهومين، ونسخ التعريفين لبعضهما البعض.

ولكننا سنعتمد على ما ظهر من كليهما: الإله، والطاقة، وسنختبر تطابق المفهومين، من خلال خواص كل منهما، بطريقة المقارنة والتحليل. وسننتهي إلى فكرة، أجدها لا مناص منها، بخصوص الإيمان.

يُـبرِّرُ لي إيجاز الحديث عن الإله، تاريخٌ طويل من وصفه، والتعريف به، فهو خير محض، وكلي القدرة، وصفاته عين ذاته، وبسيط غير مركب. تحتويه صفات الجمال والجلال والكمال، وهو مريد، يجتبي من خلقه من يشاء. وهو يغضب ويرضى، ولا يشغله سمع عن سمع، وهو يعلم ما تخفي الصدور، وخائنة الأعين، وهو: الآمر والناهي، وهو: حكــيــم، وعـلــيــم، أي عالم بتفاصيل حياتنا، وحكيم في فعله، إلى غير ذلك من الخواص والظواهر التي حكتها المدونات الإبراهيمية وغيرها.

بينما يمكن حفظ الطاقة، وقياسها، ونقلها، وتحديد قدرتها، وقمعها بطاقة أكثر قدرة. ويمكن أن تكون الطاقة شرًّا، كما في القنابل النووية، والحرائق، وغيرها. لا تمتلك الطاقة وعيًا، فلا يصح وصفها بصفات الجمال والجلال والكمال، فهنا طاقة ناقصة، وهناك طاقة كامنة. وليست الطاقة حكيمة، ولا مريدة، ولا آمرة ولا نهاية، كما أنها لا تهتم بشؤون البشر الشخصية، ولا تغضب، ولا ترضى، ولا تختار من البشر أحدًا للقيام بمهمات خاصة، كما أنها ليست مقدسة، ولا تطالبنا بمعرفتها، ولا عبادتها. ولم تنزل علينا أجندة يجب تنفيذها، أو شريعة علينا تطبيقها فنفوز بالنعيم المقيم، أو نرفضها فنخلد في الجحيم الأليم.

فضلا عن ذلك يمكننا التدليل على هشاشة فكرة طوقنة الإله عقليًا، بسهولة بالغة، بمجرد التفطّن إلى عدم الربط بين عنصرين:

العنصر الأول: إله وصفته الأديان الأرضية والسماوية.

العنصر الثاني: طاقة وصفتها الفيزياء والفلاسفة.

لنرمز للعنصر الأول بـ "ألف"، ولنرمز للعنصر الثاني بـ "باء"، ولنختبر (القضية) أو(العبارة) التالية: (أ = ب).

بديهي أنها لا تقوم على برهان إمبريقي ولا فلسفي، لأن إثبات وجود "أ" لا يُنتج إثبات "ب". فالقضية/العبارة إثبات "أ"، لا تثبت إلا نفسها. ومعنى ذلك بلا رموز: إثبات وجود إله لا ينتج وجود طاقة مساوية له بصفاته وخواصه. كما يصح ذلك معكوسا: إثبات وجود الطاقة، لا يثبت وجود إله. ولا يرتبط المفهومان منطقيا، ولا ينفي أحدهما الآخر.

وهنا تنويه آخر:

الجوهر، هو موجود بنفسه، ولا يحتاج في وجوده إلى موضوع، بخلاف العرض، فلا يوجد إلا في موضوع. فلا يمكننا أن نرى اللون، ولا أن ندركه بأي حاسة من الحواس، ما لم يكن موضوع يعرض عليه اللون. فلا يوجد لون في الخارج ولا في الذهن، مستقل عن موضوعه.

والطاقة عَرَضٌ، أي موجود في موضوع، فلا توجد طاقة من دون مادة، مهما كانت كثافتها شفافة، ضعيفة، ولا مرئية، فلا توجد طاقة نراها أو ندركها بالحواس، لا في الخارج ولا في الذهن.

والإله جوهر، موجود بذاته، لا يحتاج إلى موضوع. ولا يمكن أن يكون عَرَضا، لأسباب شتى، ذكرها فلاسفة ولاهوتيو الأديان بعامة. تخبرنا كلها أن عدم جوهرية الإله معناها عدم وجود إله، فالعرضية فيه معناها التركيب، وينتهي ذلك إلى افتقاره إلى خالق خلقه وأوجده، بينما يفترض بالإله عدم الإنوجاد في نقطة بدء زمنية، أي يفترض فيه الأزلية صعودًا إلى اللانهاية، والأبدية نزولًا إلى ما لا نهاية.

وهو خالق كل شيء، ومن تلك الأشياء: الطاقة. كما أفادني بهذا بعض الرفاق، ببساطة العجوز العربية، وهي بساطة عميقة، ولا بد لدركها أن "نقفز بعمق" كما قال الشاعر العراقي: عقيل علي.

وبعد هذا وذاك، فالإيمان بوجود إله، بالمواصفات الإبراهيمية، مصير يختاره المرء بنفسه، وهو اختيار يحتاج إلى شجاعة، لأنه قفزة، كما يقول كيركغور، قفزة ومخاطرة في اللا معقول، وليس في المعقول، فأي معنى يبقى للإيمان إذا تم تفصيل الأدلة العقلية لمواؤمته.

 

علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم