صحيفة المثقف

تحولات حداثية السرد في المتخييل التراثي

تمتلك الرحلة في رواية "رحلة الضباع" (المجلس الأعلى للثقافة –2013 ) للروائية سهير المُصادفة، بعدين متوازيين هما البعد التاريخي/ المجازي والبعد الواقعي / الاستكشافي، المستندة على المرجعية التاريخية – المعرفية والمتكئة على الواقع، لتشكيل رؤية مندمجة متفاعلة مع النصَ والمتلقي، فالمجازي يتمدد على رقعة زمنية تقارب ألف وأربعمائة عام مضت، تحديدًا بعد الهجرة النبوية بنحو خمس وثلاثين عامًا، تبدأ بالفتنة الكبرى وذلك بمقتل الإمام عثمان محققة نبوءة الإمام علي بن ابي طالب "أحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها ويتركها شيعًا لا يبصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجًا ويمرجون فيها مرجًا"*1، أما الواقعي فهو حكاية – رؤية رجل نحو المرأة التي هي زوجته، هذا الطرح المرتكز على الدم والجنس جعلته سهير المُصادفة يتداخل ويتنافذ فيما بينهما، وتتداخل أحداث الرواية بين التاريخي والتخييل من حيث يقوم الحاضر بالعبور إلى الماضي وبالعكس، مما أعطى هذا التنافذ الرواية زخمًا شعريًّا جماليًا و تحولاً حداثيًا في سرديات نصْ الرحلة.

واذا علمنا أن الرحلة مشتقة من الارتحال وهي تعني الانتقال من مكان لآخر، لتحقيق هدف معين، ماديًا كان ذلك أو معنويًا، فان دافع "رحلة الضباع" كان لسبيء النساء بغرض إستغلال أجسادهن والتمتع بها، والسيطرة عليها "- آهٍ، لو كنتِ تعرَفتِ إلى سيد هذه الدار منذ أيامٍ وهو يزعق مثل ديك الفجر في أهله بأنه ذاهب الى نصرة الله والحق، والمصيبة أن جميع أهله وجميع الناس يعرفون جيدًا إلام هو ذاهب.. لاشيء سوى جمع الغنائم والاستيلاء على المزارع وأسر الجواري – ص 116 /117  الرواية"، وذلك لايتحقق إلا بالقتل وسفك الدم فرحلة الضباع ماهي إلا عبارة عن رحلة العربي في التوغل في الدم العربي وإهانة واضطهاد وقمع المرأة عبر القرون، فالاستعارة للضباع استمدتها سهير المصادفة من قتل الواحد للآخر ومن الرؤية الدونية للمرأة "وكانوا هم مثل قطيعٍ من الضِباع أثناء رحلته ما إن يسقط أحدهم حتى يأكلوه ثم يواصلوا العدو خلف الأنجم – ص 166 الرواية.

وفي رحلة الضباع نعثر على رحلات إضافية، فهنالك رحلة "السوداء بنت الرومي" في الرواية – الحكاية تبدأ منذ البداية، في السفر في دروب المسلمين، حاملة معها مئزر وحيد ونبوءة سوداء فوق أكتافها، وروحًا قلقة ملتاعة، وحبًّا بالاستكشاف:

ـ كان عليَ أن أخترق قلب الصحراء لأصل إلى الربذة وفيد والثعلبية والأساود وذي قار ومنها إلى الكوفة، سأسير في الدرب نفسه الذي سيختاره بعدي ابن الإمام 2، ص101 الرواية.

كذلك "نرمين" تبدأ رحلتها حين مغادرتها للشقة وهي مطلقة، نحو التغيير، نحو انعطافة جديدة، حاملة معها ذاتها فقط، وحبًّا بالاستكشاف والحرية:

ـ ما زال عليكِ قطعُ أميال من الألمِ المرير واذا ما أردتِ اختصارها ياسيدتي فكوني شجاعة، ص 232 الرواية.

لقد قامت الروائية بالاشتغال على تقنية رواية داخل الرواية، كما في حكايات "ألف ليلة وليلة" حيث تشتغل حكاية داخل حكاية، محكي داخل محكي، زمن الحكايات متداخل متشابك لايشعرك باختلافه حتى لو كان هنالك اختلاف فيه.

تتكون الرواية من سبعة فصول، كل فصل مسبق بهامش عن وصف طبائع الضباع مستمد من كتاب الجاحظ "الحيوان" بدون عنوان ثانوي، حيث يصبح الهامش هنا جزءًا أساسيًا من المتن، وإضاءة له، موضحًا اقتران صفات الرجال بالضباع، بعكس رواية "لَهْو الأبالسة" وضعت عنوان ثانوي على كل الفصول العشرة اسمته "سمكة الجيتار" والهامش مستقل تمامًا عن المتن، ولايمت له بصلة، وكانت رواية واحدة، أما في "رحلة الضباع" فقد وضعت الروائية العنوان الرئيس مرتين، مرة على كل الرواية حتى قبل الإهداء والمرجعية (طه حسين وفتنته الكبرى- الأصفهاني وأغانيه –  الجاحظ وحيوانه -  الجبرتي – المقريزي)، ومرة أخرى وضعته داخل الفصل الرابع ابتداءً من صفحة 99 حتى صفحة191، هذه القصدية في كتابة عنوان الرواية هكذا، تدلل على أن رحلة الضباع لم تنتهي لا في تراثنا و لا في زمننا المعاصر رغم الأمل الذي سربته إلينا في نهاية الفصل السابع.

تبدأ الرواية ومنذ السطر الأول بداية استفزازية مبطنة بهلوسات الزوج المدعو "جمال إبراهيم" / الراوي ونظرته الذكورية المتخلفة والمحقرة لزوجته بشكل خاص وإلى النساء بشكل عام – إن البطل "جمال إبراهيم" قد رسمته الروائية كنموذج حي للرجل الشرقي بكل أفكاره وأوصافه وتصرفاته – "قررتُ منذ عام تقريبًا أن أرمي يمين الطلاق على هذه الحيوانة الصغيرة – ص 9 الرواية" ، وعلينا قبل أن نتوغل في الرواية أن نتعرف على هذه الشخصية المركزية والمحورية من خلال لسانها والتي هي "جمال ابراهيم" / الراوي، صحافي يعمل مصححًا لغويًا في جريدة "أندلسية"، عديم الموهبة، محدود التفكير، ضيق الأفق، كتبه التي في مكتبته لم يقرأها، بل موضوعة في المكتبة كديكور، تجاوز الخمسين من عمره، جعلته سهير المصادفة يصف نفسه بخبث لكي تكشف باطنه أمام المتلقي في تجسيده صورة الضبع أو المثقف المزيف:

ـ في الحقيقة لم أخلق لأكون صحفيًا فأنا كسول للغاية ومخي لا يبدع أي شيء جديد وهناك عطب ما في مشاعري، ص 15 الرواية.

ـ أتأمل بازدراء عضوها التناسلي بعد الانتهاء منه، ص 46 الرواية.

ـ لا أريد الآن إلا أن أستسلم تمامًا لهذه النفس الخربة التي أمتلكها، ص 79 الرواية.

ـ يبدو أنني لم أقرأ شيئًا من الكتب التي أقتنيها على الاطلاق، ص 196 الرواية.

يقع "جمال ابراهيم" فريسة للشك والارتياب في "نرمين"، وتجتاحه وساوس وأفكار غير سوية البتة، ومما يزيد شكه وارتيابه بها، هو استدراجه إلى الفراش كل ليلة باستماتة من قبلها:

ـ هل تخونني هذه الحشرة؟ ماذا وراء تلك العاقر التي جعلتني طوال سنوات أعتقد أنها تحبني حتى العبادة ولا أفكر إلا في مصيرها بعد أن أهجرها.. هل ستنتحر مثلاً؟ هل ستمرض بالسرطان من جراء الحسرة وتموت؟ هل ستدفن نفسها في حجرة ما حتى تجن تمامًا؟ ص 10 الرواية.

ثم يتفجر الموقف عند عثوره على قصاصات ورقية في سلة المهملات بخط يدها، فيلتقطها ويعيد ترتيبها بعد أن يقوم بكويها ورصها ولصقها بشريط اللاصق الشفاف، وهو يظن أنها خطاب إلى عشيق ما، ولكن يا لهول المفاجاة له، حين يتبين أنها فقرات من حكاية جارية عربية مسافرة في الصحراء،  تغتصب من قبل إمرء ما من دبرها – كم من الدلالات التأويلية في هذا الفعل الجنسي الشاذ، حينما تغتصب المرأة من دبرها وليس من فرجها، فالدبر لخروج الأوساخ بينما الفرج لانبعاث الحياة، ففي هكذا ظاهرة نعثر على العقلية السادية، المأزومة، المشوهة، وهنا في هذه اللحظة ينهار تحت وطأة المتركمات السوسيولوجية ـ التاريخية الذكورية المرتكزة على المركزية القضيبيَة*3 في العقلية العربية، والموروث الثقافي الجنسي الأصولي، حينما يظن أن زوجته "نرمين" هي المؤلفة، فالمرأة الكاتبة أشد خطورة وأعمق خطيئة من المرأة العاهرة في نظر مؤسسة الفحولة التخييلية، وليس من الممكن أن تكون المرأة مبدعة موهوبة، وهي منقبة محجوزة مهجورة:

"هل تنقل هذه الحشرة طوال فترة غيابي عن البيت أوراقًا من مخطوطات النثر العربي الممتلئة بكل الموبقات والممنوعة من التداول في المكتبات العربية – والتي حرصتُ على اقتنائها بصعوبة – ثم تمزقها بعد نقلها؟ من أين جاءت الفاجرة بتلك الكلمات؟ ظللت أؤخر عودتي ولقائي بها، وظللت أقترح كل الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة ولكنني لم يرد بخاطري أبدًا أنها هي المؤلفة، ص 31 الرواية".

عندئذ تتلبس جمال ابراهيم / الراوي حالة معرفة واكتشاف ماتفعله زوجته في الشقة أثناء غيابه، عليه يقوم بنصب كاميرات مراقبة في الشقة ليخترق أفعالها ويطلع عليها، ولو كان باستطاعته لقام باختراق أفكارها والاطلاع عليها، ولكنه لايشاهدها إلا وهي تكتب ثم تكتب، فالكتابة في هكذا حالة تصبح فضاءً لا محدودًا من ممارسة "فعل" الحرية المفقودة، ففي الكتابة تحقق حياتها وتثبت وجودها الذي يحاول زوجها الغاءهما،  وفي الكتابة أيضًا تتحرر منه وتنتصر عليه:

ـ هل ستكتب الآن امرأتي؟ هذه المرأة تكتب! ماذا تكتب هذه المرأة التي لم تخرج من عباءاتها ثم لم تخرج من جدران بيتي؟ ماذا تعرف عن الحياة لتكتبه؟ وإذا كنت أسخر من الكُتَاب من الرجال الذين خبروا الحياة وخبرتهم فماذا عساني أن أقول عما تكتبه تلك الناقصة العقل والدين؟ ص 68 الرواية.

ويصور الراوي مخطوطها الذي يعثر عليه في أحد مجلدات "ألف ليلة وليلة" والذي لم يتجاوز تسعين صفحة، والذي يحكي حكاية امرأة اسمها "السوداء بنت الرومي" التي لم يعرف أحد سنوات عمرها، حكاية شفاهية تناقلت ألف وأربعمائة عام عبر لسان الحريم، بشروط تتسم بخبرة نسائية، على أن تحكى الحكاية من قبل الجدة لحفيدتها من ابنتها لا من ابنها، وقبل موتها بثلاثة أيام، "قالت الجدات حفيدات الجدة عبر قرون" حتى لاتبقى الحكاية/ الشفاهية محفوظة في سلالة واحدة، وتمنع الوصول إلى ذكور القبيلة، هكذا وبهذه الطريقة وصلت الحكاية إلى "نرمين" من الجدة الكبرى "السوداء بنت الرومي" التي حكتها لحفيدتها هاجر ابنة بنتها الحبابة، ولكن عندما تسئل نرمين جدتها أسئلة كثيرة منها أنها عاقر وكيف سوف تستطيع إيصال الحكاية، ولمن؟ تقول لها جدتها بحزم:

ـ للمرأة يا بنتي دروبها الخاصة التي لم يطأها سواها إلا الأبالسة، ص 97 الرواية.

وللحكاية لعنة لا أحد يستطيع الخلاص منها أبدًا إلا بأن تُحكى، فكيف بآخر حفيدة عاقر، لا حفيدة لديها، فتتخذ قرار حاسم بأن تحول الحكاية الشفاهية إلى نصَ / مخطوط مكتوب – هذا القرار كان نتيجة المعاملة اللا إنسانية لـ "نرمين" من قبل الزوج "جمال"، ونتيجة عزمه الزواج بأخرى رغبة في الإنجاب رغم أن الحكاية قد نُقلت إليها منذ خمسة وعشرين عامًا وبالضبط قبل زواجها بعامٍ وموت جدتها بثلاثة أيام - وبهذه الطريقة تحول التاريخ الشفاهي السري المهمش للنساء إلى تاريخ مدون معلن يفضح المسكوت عنه، ليقرأه الجميع، ولتعثر على دربها الخاص بها في نقل الحكاية، وبهذا العمل تلغي "نرمين" شروط الحكاية وتجعلها مستباحة للكل، مثلما كانت الجدة "السوداء بنت الرومي"  مُباحة لجميع الرجال.

أما نبوءة الجدة الاولى فكانت مختلفة عن لعنة الحكي التي لعنت بها الجدات، فبينما كانت في خبائها تنشق الأرض أمامها ويخرج كائن بلا ملامح ويأمرها بتبليغ المسلمين بالتوقف عن القتال فيما بينهم، وبعد هذا الظهور تشعر بأنها منحت قدرة على رؤية ما مر من أحداث سابقة وما سوف يمر منها.. "كنت أعرف أنني صرت قادرة على رؤية ما أشاء من سابقات الحوادث، ورؤية ماهو قادم منها بإذنٍ من الله.. لاحظت أن زواحف الأرض السامة وحشراتها تبتعد عني دون أن تمسسني بسوء كأنني صرت فجاة محصنة ضد كل ما يؤذي في الحياة، ص 105 الرواية"، وعلى اثر منادتها للمسلمين وتحذيرهم بالابتعاد عن الفتنة التي أصبحت متجذرة فيهم، وذلك بالاصغاء والاستماع للآخر، وتحريم سفك الدم، ولكن تنبيها لا أحد يستمع له، لأن ليس هناك من يسمع، لهذا يفتح على هذه الأمة القتل والقتال إلى يوم الدين، ويطلقون عليها نعت "الرائية" ص 112 ويصبح عملها وهي في خضم الحروب الضروس الحاصلة بين المسلمين الإخوة في الله أن تواريهم التراب ص 113، ومن أجل الخلاص ومن أجل حبيبها "عمر بن عدي" الذي هجرها ومضى على أساس الجهاد في سبيل الله تسلك درب الكوفة لتلحق به ولكنها تتيه سنوات وسنوات ـ يتبين أن "عمر بن عدي" يتاجر بالأسلحة والدروع بين الفرق المتحاربة، ولوضاعته عندما تعثر عليه أخيرًا يقوم ببيعها كجارية للقعقاع بـ ألف دينار وبرذونة وناقة، لكن نبوءتها تنتشر في أرجاء الصحراء وتصل إلى المتحاربين، ولكن..

"لم أفهم شيئًا مما خطته يدها على الإطلاق هل هذه رواية؟ ص 195 الرواية."

هل هو حقًا لم يفهم "مضمون" المخطوط؟ ومن الذي قال له أن هذا المخطوط هو رواية؟ ماكان يود أن يقرأه في المخطوط توسلاتها وآهاتها وتوجعها ومشاعرها وضعفها وإنكسارها، ولكن ذلك لم يحصل، بل نرى أنها تقول شيئًا مغايرًا ليقيناته وثوابته، تقوله "نرمين" على لسان السوداء:

"ضيعتُ عمري كله خلف سرابٍ.. خلف ضبعٍ من ضِباعهم بَري قلبي بريًا. ص 184 الرواية."

لقد بنى تصوراته وأرائه على الفعل الجنسي، أي على الممارسة الجنسية التي كانت تحدث بينهما المغلفة بهلوساته وتصوراته المنبعثة من قمقم مارد "ألف ليلة وليلة"، ومن دار "السبع بنات"، عبر مركزيَة لاهوتيَة ـ قضيبية متراكمة في السوسيولوجية – التاريخية تعمل على نشوء خطاب ثقافي دينيَ يكرس العنف السادي تجاه المرأة والنظرة اللا إنسانية:

"إزاء يقيني بأن كلَ أجزائها ملكي، مزقت للمرة الأولى في حياتي معها كلَ ماكانت ترتديه بكل ما استطعت من قوة فتناثرت الفيونكات الحمراء الحريرية الصغيرة التي تزين حمالات قميصها الوردي، تحسست بهدوء مثير صدري.. شددت شعرها وأكلت شفتيها أكلاً وابتلعت تأوهاتها التي لم أسمعها بهذا العنف من قبل أبدًا وأنا مفتوح العينين، ثم توقفت لأتأمل كل جزءٍ من جسدها العاري، كنت أحاول أن أدخلها من كل فجاجها علني أختفي فيها، كان صراخها العاتي يهزني وعلى إيقاع يدها التي تضرب ظهر السرير اكتشفت أنني يمكنني الاستمرار هكذا وإلى الأبد إذا تحكمت في انقطاعي عمًا أفعل فجأة أو استغراقي في محاولة الإجابة عن سؤالٍ واحدٍ: مِمَ صُنع هذا الكائن الفاتن؟ ص 235 الرواية.

هذه رؤية الزوج تجاه "نرمين"، رؤيته الأنانية، فهو لم يحاول يومًا أن يتعرف على مشاعرها وأحساسيها، ولم يتقرب منها نهائيًا وهي المجروحة والغارقة في المهانة، والتي أصبحت خارج حياته، لأنها هي ليست طريدة لكي تحتاج إلى صيادٍ، بل هي امرأة كاملة تحتاج إلى رجلٍ، ولذا نرى أن وصفها للعملية الجنسية تأتي من قبلها مختلفة تمامًا بل مناقضة لرؤيته  وتصوره، بل تكون على الضفة المغايرة الأخرى:

"أنه واجبه المقدس أن ينكب فوقكِ لاصقًا صدره بصدركِ خانقًا إياك ضاربًا بعرض الحائط كلَ وصايا ابن حزم في ممارسة الحب ومشرعًا رأسه لأعلى لُيخفي وجهه بعيدًا عن وجهكِ ولكي يتحاشى بالمرةِ تقبيلك ودونما كلمة واحدة ودونما همسة محبة ودون أن يشير من بعيدٍ أو قريبٍ إلى أنه يرغبُ في ملامسة حتى يدكِ أو أنه يحبُ أن تحتضنيه هكذا سيدخلك ممددًا عليكِ صامتًا ولن يُسمع في الفضاء إلا هديلك دون أي صدى، ليس لأنه وصل إلى ذروة محبته، وإنما لأنه أدى واجبه ولسوف ينهض عنك مخلفًا إياك جائعة لإنجذابه الأوَل وولعه الأوَل بجسدكِ، وقد تروحين وقتها في تخيله وهو يفتش في أعضائكِ عضوًا عضوًا عن أكثر من باب للدخول، ص 225 الرواية.

دون قبلة دون همسة محبة دون لمسة حنان، يدخلها، وهكذا كان "عمر بن عدي" مع جدتها "السوداء" عندما يعتليها، ويحول جسدها إلى ضلع من ضلوعه – رؤية الأسطورة التوراتية نحو المرأة بأنها خلقت من أضلاع الرجل ـ ثم لينفضها من تحته فجأة ويركلها كأنها كلب أجرب وهو الذي كان ينكحها منذ لحظات، وهو الذي حرثها ـ أي نكحها حسب تعبير الروائية – خلال عام واحد خمس وسبعين ليلة متفرقة، تناقض في الفعل وفي الرؤية وفي الموقف.

الصور السردية تتناغم متلاحمة في البنية الحكائية المتواجدة في مخطوط "نرمين" مع بقية الرواية المكتوبة من قبل سهير المُصادفة, وتشترك جميعها عند تناولها في المنظور "الفنتازي" و "المتخييل" و "الواقع"، فالحكاية التراثية المتخيلة تلتقي مع الحكاية الراهنة المتخيلة في الكتابة، بل أن "السوداء" / المخطوط  و "نرمين" / الحاضر والروائية /الرواية يتحررن عن طريق الكتابة، ففي الحكي الشفاهي تتحرر "السوداء":

ـ لم أعد أدري الآن يا بنيتي كم لبثتُ في كنفه أتمرغُ في الحرير وأتثاءب من السعادة وأساعده في كتاب الأخبار التي يمكنُ كتابتها على لوح الزمان بعد أن علمني الكتابة. ص 190 الرواية.

كذلك "نرمين" تحررها ينبثق من كتابتها لمخطوطها المنتسب لسلالة النساء / الجواري فقط:

"لقد وضعتِ في مخطوطكِ: لحظاتِ الأسرَة كلها، ووجع البلاط من فرط كثرة وثقل خطواتكِ عليه، وتعب المرايا، ونيران غضبكِ التي تشتعل في وحدتكِ، أحلامكِ التي لملمتها بحرصٍ بالغٍ من ليالٍ شديدة السواد وحبستها الى الأبد في سطوركِ. ص 230 الرواية.

وهي في انفصالها عنه تصبح روائية مشهورة، وتشارك شباب مصر في شهر يناير 2011 النوم في ميدان التحرير، أما الزوج فيدرك بعد فوات الآون كم هو غبي وأحمق، ولكن الندم لايفيده في شيء، ولا يفيده تتبع حواراتها على الفضائيات، ولا مراقبته لها وهي مع زوجها تجلس على مقهى الفيشاوي بالحسين، وهي تشرب الشيشة التي طلبها لها زوجها، فهو كما يقول عن نفسه صارخًا:  "أنا طائر الحباري"، الطائر الطريدة الأولى والتراثية للصقارين في صحاري الجزيرة، وهو يشكل التحدي الكبير لهم ولصقورهم، واصطياده يعطيهم الإحساس بالفخر والنصر.. فهو طريدة نفسه، وطريدة العقلية الظلامية.

يقول "أدونيس": "تاريخ الإنسان هو تاريخ حريته"، وحرية الإنسان في أن يكون ذاته ـ مثلما عملت "نرمين" عند مغادرتها للشقة عندما ارتدت بنطلون جينيز واسعًا وبلوزة زرقاء وجاكيت أسود، عاقصة شعرها بدبوس شعر كبير فالتغيير لم يكن وليد الصدفة أو اللحظة، لا لقد حصل التغيير منذ زمنٍ طويل من الداخل، وبما أن الحرية تقترن بالكتابة، فإذًا تصبح الكتابة جزءًا مهمًا من الحرية، والكتابة بهذا المعنى كتابتان: كتابة تعمل على غلق النص، وتتوقف في زمن معين، وكتابة تعمل على فتح النص، وتجعله دائمًا محايثًا، وبين هاتين القراءتين، تقع مسألة الحداثة، فإن كتابة وقراءة هكذا نص، هي لذة، وهذه اللذة ليست قطيعة مع المتخيل التراثي، ولا مع اللحظة الراهنية، بل هي امتدادًا لهما، وتجذيرًا وترسيخًا فيهما، وأخيرًا سوف أتساءل كما تساءل "رولان بارت": "إذا كنت أقرأ هذه الجملة بلذة، وهذه القصة، أو تلك الكلمة، فلأنها كتبت ضمن اللذة (فهذه اللذة لا تتعارض مع عذابات الكاتب). ولكن ما هو قولنا في العكس منها؟ هل الكتابة ضمن اللذة، تضمن لي – أنا الكاتب – لذة قارئي؟*4.

 

أسامة غانم

........................

الهوامش والإحالات

1– ابن الاثير – الكامل في التاريخ، تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا، ج 3 دار المعرفة، بيروت – لبنان، ص128.

2– الإمام الحسين بن علي (رض).

3– هذا المصطلح قمنا باستعارته من كتاب "بنيان الفحولة: أبحاث في المذكَر والمؤنَث" للدكتورة رجاء بن سلامة، دار المعرفة للنشر – تونس.

4– رولان بارت – لذة النص – ترجمة: د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، حلب ـ سوريا1992 . ص25.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم