صحيفة المثقف

ولاية الشعب المتفقِّهة عِرفانيًّا في الجمهورية الإيرانية

عادل بن خليفة بالكحلةقراءة أنثروبولوجية في تجربة ديمقراطية خصوصية

مقدمة: لا نستطيع أن نَفْصِل في جمهورية أفلاطون التي حاول تأسيسها في صقلية بين جمهوريته وبين ولاية الفيلسوف وولاية الشعب. ولقد صرّح أفلاطون أن الإيرانيين سبقوه في التنظير للديمقراطية، وفي مزجه بين سلطة الشعب وولاية الفيلسوف.

سأفترض هنا أن أطروحة « الجمهورية الإسلامية الإيرانية» أطروحة مشابهة لأطروحة أفلاطون الصقلية ولأطروحة الفارابي الحلبية، من خلال إبستمية المؤسس، ومن خلال التجربة السياسية الغنية والجدلية لهذه الجمهورية.

ليس هناك في « الجمهورية الإسلامية الإيرانية» شيء إسمه «جمهورية» وشيء آخر إسمه «ولاية الفقيه»، ليس هناك «ديمقراطية» تُفهم دون ولاية فقهية، ولا وجود لولاية فقهية دون سيادة الشعب. ولا وجود لولاية فقهية دون سيادة الشعب وولايته.

1- ولاية الفِقْه في تفكير روح الله الموسوي:

لم يكتب روح الله الموسوي كتابا فقهيًّا أصيلا واحدًا قبل عام 1978 – 1979، وإنما كتب كتبا عرفانية أصيلة: « شرح دعاء السًّحَر»، « الخلافة والولاية »، «الآداب المعنوية للصلاة»، « شرح الأربعين حديثا »، « شرح جنود العقل والجهل»، «شرح فصوص الحكم» لابن عربي... فـ«تحرير الوسيلة»، هو مجرّد «تحرير» (Rédaction)، أي توسيع وإعادة كتابة لرسالة أبي الحسن الأصفهاني «وسيلة النجاة». فلم يكن الموسوي فيه يريد إلا استعراض قوته في الفهم الفقهيِّ فنّيّا أمام المؤسسة الدينية التي رانت عليها مقاطعة العقلِ والعرفانية والثورية والشعبية، وأصبحت إخبارية وهي تدعي الأصولية والاجتهادية. فهو في ذلك « التحرير» يستعمل بنسبةٍ تَفُوقُ 80% مصطلحية «الأقوى» و«الأحوط»، وهي تعني عدم إعلان اجتهاده وحجب رأيه.

فهو يريد بهذا الكتاب (وغيره من كتبه الفقهية فنيّا) آنئذ اكتساب المشروعية المؤَسَسِيَّة فقط. فلما كانت ثورة 1978 – 1979، خرج الموسوي من تقيته أمام المؤسسة ليعلن نزعته الجماهيرية والجمهورية، وليعلن اختلافه الجذري مع فكر المؤسسة الدينية الرسمي في الأحوال الشخصية والاقتصاد والعلاقة بالآخر (مذهبيا ودينيا). فالموسوي فقيهًا، ومجتهدا، لا نستطيع معرفته إلا بإنتاجه الفقهي منذ عام 1978–  1979( ضِمْن: صحيفة النور)؛ ولا نستطيع اكتشافه إلا باكتشاف المطران الكبُّوجي وتشافيز له، أي باكتشاف «الآخر» ذي لاهوت التحرّر. لابُدَّ أن نعود إلى فهم روح الله الموسوي للفصّ الداودي، والفصّ السليماني والفص الشُّعَيْبي في شرحه فصوص الحكم لابن عربي، لنفهم الإمَّة العرفانية لأطروحته السياسية، بما هُم أنبياء المُلْك والعدل الاقتصادي.

تلك الحوزة الدينية المحافظة، تـَدَّعي «الأصولية» وهي «إخبارية»، محاربة للتفلسف والعرفانية، إلى حدّ عدم شُرْب رموزها من الكأس التي يشرب منها مدرّس الفلسفة الشاب روح الله الموسوي، وأعاقت البرنامج الثوري طيلة عقود: « كان معروفا أن الأمريكيين كانوا يأملون في الاستفادة من آية الله شريعت مداري. وذهب الخميني إلى بيت شريعت مداري في قم زائرا، وأطلع مضيّفَهُ على وثائق عُثر عليها في الأرشيف الإمبراطوري تشتمل على إسمه. وخلال نصف ساعة كان كل شيء قد انتهى. وتوارى آية الله شريعت مداري من الساحة» . وبذلك خرج روح الله الموسوي من تقيته أمام الحوزة المُحافظة، «الرِّجعية» (حسب تصنيفهِ)، وأعلن حقيقته الدينية- السياسية، مع ثلة من تلاميذه الذي سيعيدُون تأسيس تلك المؤسسة.

لا يمكننا أن نكتشف روح الله الموسوي في كتبه الفقهية قبل عام 1978- 1979، لأنه كتب آنئذ لسلطة الحوزة الدينية المحافظة دائرةَ معارفَ فقهيةٍ، لإثبات مشروعيته داخلها. فروح الله الموسوي فقيهًا لا يمكننا أن نعرفه إلا في اجتهاداته منذ بداية الثورة الكبرى 1978- 1979. أما روح الله الموسوي الحقيقي، المجتهد (والفارق كبير بين «الفقيه» و«المجتهد»)، فهو يرى أن المرجع يجب أن يكون عرفانيّا وأخلاقيا وثوريًّا، ولذلك فإن حقيقته الجوهرية هي في كتبه العرفانية، فنظريته الوجودية نجدها في «الخلافة والولاية»، و«شرح دعاء السحر» أمّا رسالته العملية فنجدها في «جنود العقل والجهل» و«الجهاد الأكبر» و«الأربعون حديثا» وفي ديوانه أيضا (قصيدة «الجمهورية الإسلامية»، قصيدة «جمهوريتنا»، «لابد من التحرر»، «الانتظار»، « في وصف الربيع»، «نقطة عطف»...)... وكذلك ضمن فتاويه منذ عام 1978 فحسب ضِمْن: صحيفة النور.

فولاية الفقيه عند روح الله الموسوي، هي ولاية العارف الثوري الأخلاقي المنصّـِب لولاية الشعب المتدّينة، والمُنصَّب مِن قِبَلِها :

« أنـا الـمُرْشد العليم بالمدينـة      أنـا الملك والعاشـق المتسوّل

أنـا الآمر في مَجْمع العشـاق      المطيع لأوامر الحبيب الغـادر»

إنه آمر لـ«عُشّاق»، وفي «مَجْمع» أي في حُكم جماعي وبذلك ينفي عن سلوكه السيادي الدكتاتورية، وهو في الآن نفسه « مطيع» للأكثرية حتى إن كان في رأيها أخطارٌ «غادرة»، حتى « يتبين لها الحق بالتجربة». هذه هي «مدِينتُه» الفارابيّة.

إنه متماهٍ بحركة الشيخ عبد القادر الجيلاني، فهناك تشابه كبير بين الكثير من أبيات روح الله الموسوي وبين أبيات عبد القادر الجيلاني.

فالإثنان يعتقدان أنهما على رأس حركة تغيير للعالمية الإسلامية، فالجيلاني يريد إعادة وحدة العالمية الأولى وأسلمة المغول، والثاني يريد وحدة العالمية الإسلامية الثانية وعَدَاليتها وانفكاكها من الإمبريالية وأسلمة اليسار العالمي.

ويمكننا هنا أن نقارن بين قصيدة روح الله الموسوي وقصائد الغوث الأعظم :

1572 جدوليتخوف روح الله الموسوي من تحوّل الثورة إلى دكتاتورية، وقد كان تماهيه بالإرث الديمقراطي- الثوري للتشيع كبيرًا، وهو الذي دفع الإمام الحسن إلى التنازل عن السلطة لما رأى أن الدعاية الأموية التي تعود إلى بدايات العهد الراشدي أثَّرَتْ في الأكثرية لكي لا تختاره، فخيّر أن لا يكون أوّل دكتاتورٍ في الإسلام بذلك التنازل، بينما حرص الإمام الحسين على «حلف فضول» (=«ميثاق إنساني» بلغتنا المعاصرة) يعيد تأسيس دوله جدّه هو الذي أدى إلى استشهاده التاريخي. ولقد حرص روح الله الموسوي على الاستفتاء الشعبي وسيلة رئيسية لإثبات مشروعية النظام الجمهوري، فلا يجوز «فرض الأطروحة السياسية دون رضا الناس». ولذلك لا حق للُّبنانيين - حسب نظرية ولاية الفقيه- في جمهورية على النمط الإيراني لأن الأكثرية اللبنانية لن تقبله

إنه مفكر احتمالي، ولذلك يقبل كثرة «الصُّوَر»، بل هو «تشكيكيّ» (= نِسبي) أحيانًا لسلوكه نفسه. إنه يقول: «لا أدّعي أن ما أقوله هو المراد والمقصود [ في الآيات]. فما أقوله هو على نحو الاحتمال لا الجزم، ولن أقول هذا هو المراد لا غير» . وبذلك يدّعي أحيانا الاحتمالية، حتى يصل الآخرون إلى الحقيقة السقراطية من خلال التجربة والخطإ .

وبذلك تتطابق الممارسة السياسية لروح الله الموسوى، إلى حد كبير، مع أطروحة الفيلسوف نصير الدين الطوسي في «مدينة الأحرار»، الذي فيه « تزداد محبة الرئيس بالتناسب مع حفاظه على حرية أفراد الأمة وصونهم من تعرض الأعداء لهم»

إن روح الله الموسوي يصرّح:« ربما يمكن اختصار برنامج التشيع بـ (لا تكن ظالما ولا تكن مظلوما)» . إنه يريد جمهورية « جميع أمورها برأي الأمة حتى أمر القيادة. وإن هذا الدور المعطى للأمة أهمّ وأرقى من المشورة. وذلك لأن المشورة لا تمنع استقلال القائد وحقه في التصرف، ولكننا- وبحسب تصورنا لطبيعة الدولة- تكون الأمة شريكة كاملة الشراكة في الحكم وفي اتخاذ القرار .

كان روح الله الموسوي قائدًا نومُقْراطيا، أي مؤكّدًا القانونية. وأهمّ خصائص نُومُقْرَاطيته: الاستفتاء الشعبي، والدستورية، وبناء المؤسسات، والتزام الحرّيات. ولقد كان منذ طفولته معجبا بنومُقراطية الثورة الدستورية، وكان في مرحلة نضالية أولى يطالب بالعودة إلى دستورها.

أما الاستفتاء الشعبي، فقد حرص عليه في لحظة مواجهة الدكتاتورية، عن طريق المظاهرات فيه في حد ذاتها استفتاء شعبي. وبعد انتصار الثورة بواسطة المظاهرات أيضا وبواسطة الاستفتاء الاقتراعي على شكل نظام الحكم.

لقد كان تنصيب بازاركان عملا نُومُقْراطيا – ديمقراطيا: « بناءًا على اقتراح مجلس شورى الثورة، وبحسب الحق الشرعي، والحق القانوني الناشئ من آراء الأكثرية الساحقة التي تقارب الإجماع من الشعب الإيراني خلال التجمعات العظيمة والتظاهرات الحاشدة والمتعددة، في جميع أنحاء إيران تجاه القيادة، فإنني آمرك بتشكيل الحكومة المؤقتة» . ولعلها لأول مرة في التاريخ، تصبح المظاهرة الشارعيّة الشعبية مَصْدرًا قانونيًّا. ولم يكن ليُعلن المجتهد الثوري ذلك في دائرة معارفه الفقهية قبل عام 1978-1979، فلو أعْلَنَ ذلك آنئذ لكانت المؤسسة الدينية ضده، ولكنه إذْ أصبح «آمر العُشّاق بالمدينة»- أي ضِمْن حُبّ الشعب وحمايته له – أصبح بإمكانه أن يُعلن فقهه السياسي دون تقيّة.

ولقد كان أول الاستحقاقات التي حرص عليها بعد الانتصار هي تدوين الدستور. ولقد كان يميل إلى ترشيح المفكر جلال الدين الفارسي، ولكنَّ عائقا دستوريا يَمْنَعُ من ذلك، فاقترح أنصاره تعْديل الدستور من أجل ترشيحه، ولكنه رفض، حتى لا يصبح ذلك سُنة، وأضاف: « وليكن ما أراد الله» .

ولما اشتكى أحد الجنود أن ضابطه المباشر يُجبره على حلق لحيته كانت إجابته: « لا تجوز مخالفة مقرَّرات الجيش» . فينبغي تغيير ثقافة الضباط العسكريين بالحوار والإقناع من قِبل الثورة، ولكنْ يجب عدم خرق النظام العسكري.

ولقد حرص على بناء جميع مؤسسات الدولة في ظرف عام واحد فقط. وحرصّ على الفصل بين السلطات: «إذا أرادت إحد [من السلطات] التدخل في مجال عمل الآخر فلن تُبنى دولة» . وكان أشد حرصه على «مؤسسة المستضعفين» من أجل التوازن الاقتصادي – الاجتماعي.

لم يَبْنِ روح الله الموسوي دولة «خلافة»، على النمطين الأموي والعباسي، بحكم قطيعته معهما. ولم يَبْنِ دولة «خلافة » تدّعي استنساخ «الراشدين»، لأنه اجتَهاديّ، مثلما أن « الراشدين» اجتهاديون. ولم يَبْنِ دولة حِسْبة سلفية (كتاب الحِسْبة لابن تيْميّة) بحكم أنه يَصْدُر عن الطبقات الشعبية وديمقراطيتها، بينما الدولة السلفية مزدرية للطبقات الشعبيّة وديمقراطيتها.

ولم يصنّف الموسوي البشر في العالم إلى « مؤمنين» و«كافرين»؛ بل صَنّفهم بمنطق يساريّته اللاَّهوتية والتاريخانية في الآن نفسه، إلى « مستضعفين» و« مستكبرين»، وإلى: «تقدّميّين» و«رِجعيّين» و«إمبرياليين»: «الشاهُ ينفذ سياسة الإمبرياليين، ويصرّ على إبقاء إيران أسيرة التخلف والرّجعية»... ولم يكُنْ ليُفصح عن مصطلحيته التقدمية-الثورية ويُقلع عن تقيّته تجاه «السلفية» الحوزوية (=الإخبارية الحوزوية)، لوْلا حماية الشعب له. ولقد حَمَى شعبَه ودافع عنه، فكان أن حماهُ شَعبُه ودافع عنه، فكان «آمِرًا في مَجْمع العشاق»...

2- ولاية الفِقْه وولاية الفقهاء:

«الولاية» (Gouvernance) هي بالفوضى الاصطلاحية العربية المعاصرة: «حَكامة»، «حكم»، «حاكمية»، «حوكمة»...بينما استعمل ابن خلدون لفظة «الولاية» وقد عرفها بكونها سيولوجيّا «الأمر والمعونة والنصرة وتدبير الأمر» الخاضع لشروط تاريخية – مرحلية في أطوار الدولة، وتناول الولاية العليا (الرئاسة) والولايات المحلية والقضاء...

ليس هناك دولة ذات مكانة في العالم ليست قائمة على ولاية الفِقْه، وولاية الفقهاء، سواءً كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية، فمن المعروف أهمية سلطة الكنغرس بالولايات المتحدة الأمريكية، وسلطة مجلس الشيوخ بها.

«دولة القانون» نفسها، هي « دولة ولاية الفِقْه» بتعبير آخر. لكنْ أي قانون، أي فقه؟ وأي قانونيٍّ؟ أي مشرّع؟ أي فقيه؟ هل هو القانونيّ الفيلسوف العارف أم القانوني الجاف؟ هل هو فقيه مركزية طبقاتٍ معيّنة أم فقيه كل الشعب؟ هل هو فقيه التفاوت الطبقي أم فقيه العدالة الاجتماعية؟

من المعروف أن التوجه الإثني عشري تاريخيا هو توجه ثوري، وعدْلي، فنحن عندما نرجع إلى نهج البلاغة وغيرها من مراجع هذا التوجه نجد: « ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني»، «...وما أخذ الله على العلماء أنْ لا يُقارّوا على كِظّة ظالم وسغب مظلوم»، « اللهَ اللهَ في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم!»...

وعندما نرجع إلى التجارب التاريخية الإثني عشرية نجد رسالة الحقوق، ومقولة:« وإنما خرجت لأطلب الإصلاح في أمة جدّي» « إن لم تكونوا أتقياء في دينكم، فكونوا أحرارًا في دنياكم». ولقد كانت الدولة القرمطية، ذات ولاية الفقه (القانون) العدْلي وذات النظام الجمهوري الذي أطاح برئيس دولة لعدم دقة حساباته المالية، والتي كانت ذا سلطة تنفيذية جماعية اكتشف الإثنوغرافيون كراسي أعضائها الستة. ولقد ورثت سويسرا الديمقراطية المباشرة عن الحضور الإسماعيلي بجنوبها في العصر الوسيط، مطوِّرة لها وقد أثرت فكرة ولاية الفِقْه في المجتمع الإيراني، فأصبحت الجمعيات والمؤسسات والتيارات السياسية تَسْند قيادتها لأهل الكفاءة والشهائد العلمية العُليا والخبرات، لا إلى أهل المال (كما كان تخوف الفارابي نفسه)، مما حسَّن نجاعتها.

3- مدلول « الإسلامية» في النظام الجمهوري الإيراني:

أرادت الشاهِنشاهية أن تعزل إيران عن سياقها التاريخي – العملي وعن المنطقة – البيئة العربية الإسلامية، قافزة عليها في ربط علاقات استراتيجية بإسرائيل وحلف شمال الأطلسي، مما يعني خطورة استراتيجية على العالم العربي. فالإسلامية هنا ليس لها معنى إخواني، وإنما حضاري، واستراتيجي هو السيادية الثقافية والتحالف مع العالم العربي- الإسلامي ضد الإمبريالية والصهيونية.

« الإسلامية» أيضا هي شرط أخلاقي، وشرط شعبي. وهي لا تعني في الاستعمال العرفاني إقصاءًا للمواطنين غير المسلمين، فهي ليست «المُسْلِمية»، إذ أن الأديان جميعها «إسلام» كما تصالح العُرفاء، وقد استدل روح الله الموسوي في لقائه بالمطران كبّوجيّ في مارس 1980 بالآية القرآنية:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ. وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا. فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾﴿٦٩﴾ (المائدة). فالجميع مؤمنون، ويجب أن يعمّ السلامُ الجميع: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾.

و« الإسلامية» قانونًا، إذا كانت بواسطة استفتاء شعبي بَعْد تفهّمٍ فقهي عُقَلاَئي لها، أمرٌ لا خطر فيه، بل هو قرينٌ للاستقرار الاجتماعي وتقلص النزاعات، تمامًا كإدماج دولة إرلندة للقوانين الكاثوليكية في مدوّنتها القانونية. أما إسلامية الحسبة السلفية والإسلامية الإنتقائية الإخوانية من المنظومة السلفية، فهما إسقاطان (وليس اجتهَادًا) في الواقع الراهن، ضمن إبستمية زجرية، قَتـْلية، بَتـْرية. ولذلك نجد الفضاء الإيراني مستوعِبًا للفَرْق القرآني بين «السرقة» (أخذ ملكية الأمة والدولة) وبين الخطف والنشل، وعارفا أن «قطع أيدي السارقين» هو «اجتثاث مَصَادر قوة المترفين»1. « فإذا كانت «يد» الله تعالى هي قدرته، فلن تكون أيدي السارق والسارقة، أي آباء اللّهب وأمهات اللّهب قدراتهما. أما التجسيميون فيرفضون ذلك»2.

تناول الفارابي «الديمقراطية»، وقد سمّاها «المدينة الجماعية». وقد حمد المساواة فيها وانتخابيتها، ولكنه حذر من « أن تكون الرئاسات فيها «بأي شيء اتفق3»، ومن إمكانية ركوب الهوى والشهوات على حق الحرية4. ولذلك اقترح أن تكون المدينة الجماعية محكومة بالحكيم الفيلسوف العارف، فتصبح مدينة فاضلة. وقد تأثر روح الله الموسوي بأطروحة الفارابي مبكرا، وهو يتابع الثورة الدستورية ثم ثورة مصدّقِ والكاشاني.

« الإسلامية» في التصور السلفي هوية ثابتة، لا تتغير، تركّز على المُتْرَفيّ من ناحية أخرى..إنها استعادة للهويّة الخوارجية.

أمّا «الإسلامية» في التصور الإخواني- القرضاوي، فهي هويّة مترجرجة، ذرائعية، تتغير بتغير الظروف وطبيعة التحالفات، ولكنها مناوِرة مع التصور السلفي لأن الإخوانية تقوم تاريخيا على تحالف ذرائعي مع السلفية العالمية. وهي سلفية، ولكنها انتقائية، فهي لا تعود إلاَّ إلى نصوص الأسلاف الشاذة التي توحي باقتراب من المقاربات الرأسمالية و« الديمقراطية» الحديثة.

أمّا « الإسلامية» في إبسْتِمِيَّة هذه الجمهورية، فهي لا تعود إلى تسلفية صرفة ولا إلى انتقائية سلفية، فهي اجتهادية، مفيدة لتأويل الإسلام، وهي لا تعني رفضًا لعقلانيات حديثة لأنها ترتكز على مقوِّمٍ أصوليٍّ هو « السّـِيرَة العُقلائية» أو (سيرة العقلاء)، وهي « سيرة» العقل الإنساني « من كل مِلّة ونِحْلة» فهي تستوعب دون حياء، ولا موارية، ولا حيلة فقهية، ولا تطويع تعسفي، الحداثَةََ. ولذلك استوعبت الاستنساخ الحيواني وإنتاج الأقمار الاصطناعية (بينما الأجرام ما زالت مسطحة في التصور السلفي) وبسِيَر العُقَلاءِ، ومِنْ لاهُويَتّي تحرُّرٍ، وعلمانيين، واشتراكيين، وديمقراطيين، وبوذيين، وغيرهم، في الاقتصاد العدالي، مذوّبًا ضمن الأطروحة العُقَلائية المُشْترعة المسلمة . ولذلك لا يمكن إدراج الفكر الديني الإيراني المعاصر ضمن ما يُسمّى « الإسلام السياسي (أو « الإسلام الإخواني» بالأصح»)، وإنما ضمن الفكر اليساري العالمي، بكل تنوعاته واختلافاته، رغم تميزه بتاريخانية خصوصية.

4- تجارب التكتل السياسي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية:

التكتّل السياسي هو تجمع تنظيمي وإيديولوجي وبرامجي مِن أجل انتقاد السلطة أو تحوّز فضاء منها أو تقديم بديل لها.

وتأكيد الفقه السائد أن « تشخيص الموضوع موكول إلى نظر المكلَّف» أو بعبارة أخرى «إلى تشخيص المكلَّف »، مما يجعل الإحساس بالمسؤولية السياسية عالٍ جدًّا بالإجتماع.

وبذلك فليس المجتهد هو الذي يحدّد الموقف، بل يشاركه فيه المكلَّف. فلا ولاية فقيهٍ، دون ولاية المكلَّف على نفسه، ودون مشاركته النشيطة في الولاية السياسية.

كان روح الله الموسوي مع فكرة التكتل السياسي: «عليكم بِنَظْم أموركم، ولكنه كان ضد التحزب، بما هو تكتل سياسي جَامِد، مدعوّ للمحافظة على شروط تأسيسه الأولى في غياب شبه ضروري لتحولات السنوات والعقود. فهو مع فكرة «التيّارية»، وهي التكتل السياسي القائم على جدول أعمال قابل للبحث الدائم والمراجعة، لا على بيان تأسيس أو قانون داخلي ثابت، والقائم على الاتصال الدائم بالناس والميدان الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي وتبادل الخبرات داخل التيار وخارجه، دون تنظيم ثابت متعصب.

يؤكد محمد حسنين هيكل، من خلال معاينته الميدانية، أن قائد الثورة، كان يرى الاختلافات بين الثوريين « إيجابية وطبيعية» وأنه كان إيجابيًّا معها، متفهما لها، محاولاً التوفيق بينها، إلى أن أصبح فعلا « عليمًا بالمدينة» الإيرانية، وفي الآن نفسه «عاشقُا، متسوّلاً» للتوافق بينها، وبذلك يكون «الملكَ» و«المطيعَ» في الآن نفسه. يقول هيكل: « كان – كما قال لي- يعتقد أنه من المستحسن أن تظهر الخلافات، والتي غالبا مع تكون حادة، بين هذه المجموعات المختلفة (...) لأن لديه القدرة على حسم هذه الخلافات لما يتمتع به من مكانة خاصة (..) ولذا بدأ يحاول خلق التوازن(..)» .

وبذلك، فليس المجتهد وحده هو الذي يحدّد الموقف الفقهي، بل يشاركه فيه المكلَّف، «فلا ولاية فقيهٍ، دون ولاية المكلَّف على نفسه»، ودون مشاركته النشيطة في الولاية السياسي، فهو المشخص النهائي للموقف الفقهي.

ورغم عدم رضا الإمام، تأسس «الحزب الجمهوري الإسلامي»، وإن كان حزبا جماهيريّا قائدًا ولم يصبح حزبًا متصلبًا بالسلطة، يمنع سيادة الشعب، كما كان تخوّف روح الله الموسوي، لكنه أصبح حاثّـًا للتفرقة والتشتت في المجتمع الثوري.

أ‌- تجربة الحزب الجمهوري الإسلامي:

كان بعض علماء الدين يرون ضرورة تأسيس«حزب» من أجل تعبئة الجماهير على أهداف الثورة. لم يكن القائد موافقا على شكل التنظيم (الحزب)، ولكنه لم يمانع. وكان اختيار محمد الحسيني البهشتي أول أمين عام للحزب. « وقد تألفت القاعدة الاجتماعية للحزب من قوى سياسية-اجتماعية متعددة «منها روحانيان انـﭬـلابي، (= «رجال الدين الثوريون») والهيئات المؤتلفة الإسلامية»، وكان الانسجام الفكري منعدما منذ بداية عمل هذا الحزب. وفي الآن نفسه لم يكن له قائد حزبي حقيقي، لأن روح الله الموسوي يعتبر نفسه قائدًا للجميع، فلا يجوز له في نظره الانحياز المطلق لهذا الحزب دون أحزاب أخرى، مثلما لا يجوز له الانحياز لشقّ داخل هذا الحزب دون شق آخر. وذلك بسبب عرفانيته التي تجعله «قابلاً كل صورة »، كما يقول أستاذه الروحي الأعظم محيي الدين بن عربي الذي شرح له فصوص الحِكم. كما أن هوّية عالم الدين الاثني عشري التي أسست هذا الحزب هوية لا ترى مهيمنا إلا المعصوم ونائبه القائد، وهو وريث لتقاليد ديمقراطية شعبية منذ عهد الخليفة ابن أبي طالب الذي جعل الكوفة خاضعة لتقليد «النقباء» (المنتخبين) . وقد قال:« من شاور الناس أضاف عقولاً إلى عقله»، وهذه الهويّة وريثة أيضا لدولة القرامطة ودولة الزنج الديمقراطيتين. فإذا أَعْلَى عالمُ الدين الإثنى عشري صَوْتَه أكثر من الصوت العُرفي «أصبح ضمن دائرة آية الحجرات التي تنهى عن تجاوز سلطة المعصوم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ ﴿٢﴾» . كما أن عدم رضا القائد عن الشكل الحزبي، جعل المؤسسين غايةً في الاحتياط.

وكل تلك العوامل الإبـِسْتِمية منعت الحزب من أن يتحول إلى حزب حاكم، بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل منعته أنطولوجيًّا من التحول إلى حزب دكتاتوري يمنع ظهور الأفكار السياسية الأخرى والتكتلات السياسية الأخرى...

ولكنه كان ضروريا آنئذ، لمنع استشراء الفوضى السياسية والتفسخ الإيديولوجي بُعيدَ انتصار جل الثورات، فلم يكن حزبًا في الحقيقة بقدر ما كان وسيطًا ناجعًا بين الفرقاء الثوريين حتى لا تتحوّل اختلافاتهم الى تقاتل. وكانت أهم برامجهم، حسب الباحثة فاطمة الصّمّادي:

«1- رفع مستوى الوعي السياسي للشعب الإيراني، والإسراع في بنائه الثوري من الأبعاد كافة.

2- تطهير البلاد من آثار الدكتاتورية والاستعمار.

3- تعزيز الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والتجمع.

4- تبديل نظام التعليم بنظام أصيل.

5- بناء جيش مؤمن مستقل.

6ـ تنظيم السياسة الخارجية على أساس الولاء والبراء»، فلم يكن الحزب الجمهوري الإسلامي إلا لحظة مُخْتَبَرية ضرورية من أجل الانتقال إلى اللحظة التّـِيارية.

لكن تعرُّض الحزب لتصفية أهم أطره التنظيرية (بـِهَشْتِي وباهُنَار خاصة) بانفجاري يونيو وأغسطس 1981، جعله مصْدرًا للتشتت والتحالف الحادَّيْن، لذلك « تقدم الحزب إلى الأمام يطلب حله» . وبذلك أصبح الطريق سالكًا لأطروحة القائد في التيارية، المضادة للحزبية. فلم يكن الحزب الجمهوري الاسلامي إلا لحظة مُخْتَبَرية ضرورية من أجل الانتقال إلى اللحظة التّـَيارية.

أ‌- تجربة «التيّارية السياسية»:

«التيار السياسي» في الإبداعية السياسية الإيرانية هو تكتل يحاكي الأحداث والتطورات في محاولة للسيطرة عليها أو توجيهها أو تحويلها أو حل مشكلاتها. وهو أطروحة مناسبة جدًّا لِرِبْعِيّة عالِم الدين الإثني عشري وفريضة عدم جَواز خضوعه لاجتهادات زملائه، مما يجعل المناخ الأساسي الإثني عشري دائم الاستقلالية. وهذا من إبداعية روح الله الموسوي، الذي يجعله ميراثه الإثني عشري- العرفاني غير دكتاتوري، وقابلاً لكل «الصُّوَر» السياسية، فلقد اختار أن يكون تاريخانيًّا منسجمًا مع الطبيعة الإثني عشرية الرِّبْعية، دائمية الثورية. فهو مع تكاثر التكتلات السياسية ضمن جدلية الكثرة والوحدة العرفانية، ولكنه لا يستطيع أن يفرض رفضه للحزبية (وغيرها) إلا بعد تجربة الناس لها ليعرفوا مدى صِدْقية موقفه التنظيري.

وذلك ما منع العُزوف السياسي الذي يرين على الشعوب بعد إطاحتها بالدكتاتوريات، كما حافظ على تاريخانية التقليد الثوري- الديمقراطي للتشيع، وجعل النظام الجمهوري قابلا لتجديد نفسه ومواجهة التحولات الداخلية والخارجية، فالتكلس من أوّل ما يجعل الأنظمة على طريق الموت، وهذا ما يثبّت مشروعيته الشعبية وقابليته الحداثية.

الحزب أفعاله في الغرفة المغلقة، والتيار السياسي أفعاله بالفضاء العام؛ فالتيار السياسي غير مرتبط بصندوق الاقتراع فقط وأيام الانتخاب، على عكس الحزب. وبذلك يكون التيار السياسي أقرب للديمقراطية المباشرة.

لقد أثبت بحث العالم السياسي حُجت مرتجى أن توجهات التيارات السياسية لا تصدر عن رؤية واحدة، سواءًا في السياسي البحت أو الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، داخليا وخارجيّا، فالافتراض « في الانضمام لبعض التيارات يلغي الموافقة، بينما يلقى الرفض عند بعض التيارات الأخرى»، إلى حد

أن «أن احتفال حدوث ائتلاف أو تعاون في جميع المجالات لدى التيارات مع بعضها البعض على مستوى الأنشطة السياسية في إيران احتمال ضئيل» ويلاحظ حُجت مرتجى أن مواقف التيارات قلَّ ما استمرت على حال. فبإبداع أطروحة التّيارية تجنبت إيران مصير الدول الثورية (فرنسا الثورة وروسيا السوفياتية) نحو الإقصاء المتبادل بين الثوريين وأحزابهم واتهام بعضهم بعض بالتحريفية، وظهور الحزب الواحد. كما تجنبت المصير الحزبي الثابت والتابع لرؤوس الأموال في الغرب الرأسمالي.

وهذا، إنما يدّل على وجود أران سياسي حقيقي، لا يُمكن التنبؤ بمستقبله، ولا توقع نتائجه حتى في السياق الانتخابي الواحد. وذلك الأران، إنما هو المصداق الحقيقي لأي ديمقراطية، بل لوجود مشاركة شعبية حقيقية ويقظةٍ دائمة تجاه السياسيّ.

 

د. عادل بن خليفة بالكحلة

باحث إناسي، الجامعة التونسية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم