صحيفة المثقف

أسرار ليلة عاصفة

بكر السباتينحدث هناك في ليلة عاصفة! عند الفنار الذي خفت ضوءه.. والنسوة يأخذن على عاتقهن ربط الغولة في جوف الظلام، إذْ حملن قناديل الأمل كي يضئن دروب العودة للبحارة العائدين..

في حي الصيادين الكئيب علت غمامة راحت تستمطر أسرارها الزوجات الحالمات بالدعاء.. يرسلن أطيافهن إلى البحر عبر غياهب الظلام فيخيفهن تعطل المنارة القائمة على اللسان الصخري الغائر في البحر كل حين.. يبحثن بعيونهن عن الرجال العائدين بعد أن أتعبهن الانتظار.. الضياء المنبعثة من النوافذ الواطئة خافتة.. الرياح تفزع الأشياء.. الليل حالك الظلمة.. بارد طويل.. نوافذ البيوت الطينية الحانية على بعضها مشرعة باتجاه البحر.. الأطفال تنيمهم حكايات الجدات عن الشاطر حسن الذي هزم الغولة فتٌحَوِّلُ الرجالَ إلى صيّادين لا يخافون جنيات البحر.. وأهازيج البحارة خافتة تشتتها الأمواج وتطرق سمع "يم" إله البحار الكنعاني فلا جدوى.. الحظ محبوس والفأل مرهون بمزاج يمّ ورضاه.. وزوجات يتلحفن الحنين.. والانتظار صقيع ترتجف لهوله الأوصال.

الحي الكئيب توقظه فوانيس السمّار في بيت المختار الذي لا يولم المسؤولين حتى تاهوا عنه.. تجمع السمار ومن بينهم بعض النسوة اللواتي أتعبهن الانتظار حول العرافة، صاحبة السلطة والولاية على هذا الحي النائي، وقد خضعت لأسئلتهم اللاهثة المتعبة.. عن مصير البحارة.

ففي ظل غياب سلطة الدولة النائية بنفسها عن ضجيج الأسئلة ووجع الرأس بتفشى الوهم كالوباء.

وها هي العرافة بعد أن تلمظت سلافة السؤال في بقايا فناجين الحيرة والانتظار.. تختم نبوءتها المحفوفة بابتسامة "يمٍّ" الكنعاني، تهمس وفي عينيها تتوسع حدقة النهار:

"عاد الصيادون بالخير.. هلموا إلى البحر يا رجال.. يا صبايا.. يا أولاد"..

لكن شعلة الفنار أخذت تكذب العرافة وتلجم الأسئلة في عقول الزوجات المتعبات.. وعيون أطفالهن تبحث عن الشاطر حسن والجنيات في حكايات الجدات اللواتي داعب النوم جفونهن وتركن العتمة للصغار..

في هذا الشتاء العاصف، والبرد الزمهرير يغشى البيوت ويثير الهواجس في العقول.. يطوف حارس الفنار منادياً بين البيوت وفي يده قنديل مرتجف الذبالة، فتبدد الرياح صوته المتدحرج تحت النوافذ الموصدة بإحكام.. الرياح تفزع الأسقف والأبواب الخشبية وتثير كل ما خف حمله في الحواري والأزقة الضيقة.. وصفيرها يقلب الخوف في رؤوس زوجات ينتظرن السندباد.. يقترب الصوت أكثر كأنه قادم من قاع بئر عميقة.. فتتناغم ظلال الكواشف مع حركة القنديل الواهن.. يصرخ مستنجداً بأعلا الصوت، حتى أنهزم هديره وتملكه السعال العميق كأنه يحتضر:

" يا أهل الحي.. النجدة.. النجدة.. نضب زيت الفنار، فليأت الرجال ومعهم ما يتيسر من الديزل كي نعزز مخزون موّلد الكهرباء بالطاقة حتى تظل كشافات الفنار تضيئ طريق الصيادين في البحر.. وإلا تحطمت مراكبهم على الصخور"..

وحينما يأس من الأمر أخذته الدروب إلى اللسان الصخري، فبدا وهو يصارع الرياح كأنه هارب من الشيطان.

كان ضوء الفنار يلفظ أنفاسه الأخيرة.. رفع الحارس يديه إلى السماء المتلبدة بالغيوم، وقلبه يلهج بالدعاء.. ويبدو أن الرياح العاتية قطعت سلك الهاتف في منطقة ما فانعزل الحارس عن العالم.. وهو يعلم بأن وقت عودة الصيادين من البحر قد أزف.. والطامة الكبرى أن الأهالي لم يسمعوا نداء الإغاثة، فمخزون الديزل أوشك على النفاد فلا حول له ولا قوة.

كان الظلام في طريق عودته إلى الفنار مليء بالأشباح، فبدت كأنها دمًى تحركها الرياح المجنونة.. وبرج المنارة الحجري المخروطي يواجه العواصف وحيداً من فوق اللسان الصخري الغائر في عرض البحر والمتصل بحافة الجرف جهة البر، وها هو يبعث ببقايا الضوء من منافذه العلوية عن طريق كشافات تتزود بالكهرباء من مولد يعمل على الديزل وموجود بجوار قاعدة البرج، حيث ركنت إلى جواره براميل الديزل الاحتياطية التي دُحرج بعضُها بفعل العاصفة وسقط إحداها في الجرف السحيق. وكانت الأمواج العالية أحياناً تتكسر على قاعدة البرج، تم تنبسط طاقتها منتشرة في الجوار لتتحول إلى برك مائية وسبخات.

وقاعدة الفنار تتكون من غرفة صغيرة بمنافعها يقيم فيها حارس المنارة، وتضم نافذتين الأولى تطل على البحر المليء بالنتوءات الصخرية، تقابلها واحدة أخرى تطل على قرية الصيادين النائية التي لم تصلها الخدمات بعد.. فقد أنشأها الصيادون دون إذن رسمي من بلدية المدينة، وظلت مهملة بانتظار إخلائها بموجب قرار بلدي بذريعة أنها ملك لأحد الإقطاعيين في المدينة.. لكن الفقر وضع الأهالي على محك الاختبار.. وحارس الفنار يردد في أعماقه والخيبة تأكل رأسه:

"الإخلاء يعني موتهم.. فالصبر أجدى ولو أدى إلى كارثة"

فلا تُسمع في مثل هذه الأجواء إلا فزعة الأشياء وقرقعتها في وجه الرياح العاتية وصفير موحش يتخلل أزقة حي الصيادين.

وها هو حارس المنارة يغشى برميل الديزل ويفتح الصنبور السفلي ليعبئ بقايا الديزل حتى يملأ خزان المولد الكهربائي.. الخوف يتملكه فترتعد فرائصه.. ويتأفف غاضباً فتنتفخ أوداجه كأنه ديك رومي مفزوع.. يدرك الآن وهو يصعد الدرج اللولبي بأن الكشافات ستنطفئ تلقائياً ربما بعد ساعة أو أقل.. فتتملكه الهواجس وهو يلعن إدارة المنارات البحرية الملحقة بمؤسس الموانئ حتى تعطل تفكيره.. فيتخيل كيف ستتحطم المراكب على الصخور.. ليتحول حي الصيادين إلى ميتم كبير.. والغربان السود تراقب المشهد وهي تقف على حوائط البيوت الطينية، والعرافة سوف ترمى بالحجارة لأنها عجزت عن التنبؤ بمصير عمالقة البحر الذين هلكوا دون أن تشعرهم بمصيرهم:

"وماذا سيكون مصيري! سيجهز الأهالي عليّ!".

وفجأة.. أخذ ضوء الفنار يزاحم العتمة بينما أصوات البحارة تقترب من الشاطئ، في حين جعلت الزوجات يطلقن الأهازيج.. الوحيد الذي كان يدرك خطورة اللحظات العصيبة، حارس الفنار الذي أخذ يستحلب آخر ما في جالون الديزل ويصب خيطاً منه في تنك الكشاف، كي يظل الضوء يتنفس فيكشف ما أمكنه من سواري المراكب التي ابتعدت عن النتوءات الصخرية؛ لتذهب بالصيادين إلى حيث تعالت الأهازيج في حي الصيادين في الجانب الآخر الذي التهمه الظلام.. وفجأة طرق الباب على حارس الفنار:

" من تراه يباغتني بهذه الزيارة في هذه اللحظات العصيبة!"

فترتعد فرائصه من شدة الخوف.. ظل الأمر كذلك حتى فتح الباب بحذر شديد، كانت ترتدي معطفاً ثقيلاً إلا أنه ميز صوتها بسهولة، كانت السيدة مها زوجة أمام المسجد الضرير، لا يدري من أي ناحية قدمت إلى هذا الحي كونها على قدر من الثقافة.. كما كان يقال عنها، وقد انتبهت إلى رواية كان يقرأها مركونة على رف الكتب المجاور للباب الخشبي، فقالت وهي تتصفح عناوين الكتب بلهفة مقموعة:

" اطمئن، لقد سمعنا نداءك".

وحينما أطل برأسه من الباب إلى حيث أشارت بيدها، استمع إلى بقية حديثها وهي تلهث من التعب:

" أنهن ثلة من النسوة يحملن صفائح معدنية معبأة بالديزل"

فزكمت أنفه الأقنى رائحة الديزل النفاذة، واستطابت روحه لموقفهن الشجاع.. وأدرك بأن الأمر أصبح آمناً مع كمية الديزل التي استلمها من زوجات الصيادين وأخذ يرتبها بجوار مولد الكهرباء.. فتساعده مها بتثبيت المحقان المعدني في فتحة الخزان فيما أخذ يصب الديزل وعينه تراقب المؤشر الأحمر بابتهاج، حتى أتم المهمة،، فيما أفرغت مها بقية الجالونات في البرميل الاحتياطي.. وودعهن وهن يغادرن المكان فيطلقن الأهازيج ليلتحقن بالأخريات حيث وقفن قريباً من البحر، ينتظرن البحارة.. وقد استوقفه سؤال السيدة مها قبل أن تلتحق بهن:

"ألم يحن وقت إطلاق صفارة الإنذار"! وترجته أن تفعل ذلك بنفسها فأتاح لها المجال حيث أشار لها إلى المفتاح الخاص بذلك.. فدوت الصافرة وقد انقبض قلبها فضحكت من هول المفاجأة وهي تخبره بأنها قرأت تلك الرواية المركونة جانباً:

"لا تستغربن! سألتحق بالجارات فها هن يندهن عليّ"

فتركها تذهب بحذر حتى لا تسقط في السبخة المجاورة.. وودع ركبهن ليعود صاعداً إلى مستقره أعلى الفنار.. ويتأمل البحر المليء بالنتوءات الصخرية.. ثم يطلق صافرات الإنذار المدوية من جديد بعد أن لمح من أفق البحر السواري وهي تلمع على ضوء الفنار:

"الحمد لله. سوف يعود الصيادون إلى مهاجعهم وفي جعبتهم حكايات عن البحر اللجي المحفوف بالألغاز".

إنه الحنين الذي كان يعيدهم دائماً إلى حي الصيادين الذي يضج بالحياة والحب رغم الفقر وتداعياته المؤلمة وغياب السلطة عن مضافات مختار الحي الذي لا يولم.. فيعد الزوجات الحالمات بما يجود به خيال العرافة صاحبة السلطة والولاية .

***

قصة قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم