صحيفة المثقف

المحرقة

ناجي ظاهركانت امي كلما المّت بنا، نحن اللاجئين/ او ابناء العائلة المهجرة، لامّة.. تتنظر إلى الافق البعيد، وتتمنى لو ان الله يرزقها مثلما رزق اختها، فانزلها منزلة طيبة في جنته، وكنت انا ابنها الصغير اسألها عن جنة خالتي، فتنظر إلى بنوع من الحبور، وتقول الله اعطى خالتك كل ما يتمناه الواحد، وعندما كنت الح عليها طالبا منها ان تحكي اكثر عن جنة خالتي، كانت تقول لي ان زوجها استهدى على منطقة السعادة في حيفا، وانها من يوم ما سكنت هناك معه منّ اللهُ عليها بالخيرات. وما زلت اتذكر كيف كانت امي تمتدح الحظ الذي لعب مع اختها وترجو لو ان من اعطى خالتي بالملعقة يعطيها (هي امي)، بذيلها (تقصد يد الملعقة). وكانت امي كلما افتقدت ما تطبخه لنا، ترسل نحوي نظرة ذات الف معنى ومعنى وتتمتم بكلمات افهم منها نوعا من الضراعة إلى الله ان يعطيها كما اعطى اختها وان يهبها كما وهبها.

امتداح امي هذا لما انزله الله من خيرات في حظيرة خالتي، دفعني إلى نوع من التخيُّل، وكثيرا ما كنت اشطح في تخيلاتي الصغيرة، فأتصور السعادة التي تقيم فيها خالتي، جنة متشابكة الاشجار المثقلة بشتى انواع الثمار.. من السفرجل إلى الكمثرى ومن الأورانج فالاترنج، وتحت هذه الاشجار تجري الانهار.. وهناك في الأعالي.. تحلق الاطيار مغردة ومسبحة باسم فاطرها. توجهت ذات صباح الى امي سائلا إياها عما اذا يمكننا ان نزور خالتي؟ فردت امي قائلة: لما تتوفر النا الفرصة اكيد رايحين نزورها. متى ستتوفر لنا الفرصة يا امي؟ انت بتعرف يا بني اننا اناس لاجئين في الغربة.. اكيد رايحة الفرصة تيجي.

مع مضي الوقت بات الحلم بزيارة خالتي هاجسا يوميا، اهجس به في النهارات الطويلة واحلم به في الليالي الباردة، ويبدو ان امي قد لاحظت اهتمامي بزيارة خالتي، فقررت ان تلبي لي رغبتي، دون ان تعرف كيف، لذا ما ان سنحت اول فرصة تمكننا من زيارتها حتى توجهت لي قائلة حضّر حالك.. اليوم رايحين نزور خالتك.. في السعادة. حملني كلام امي هذا على جناحيه اللطيفين فرحت اتقافز فرحا، وانتظر لحظة السفر إلى هناك حاضنا ملابسي الرثة واحلامي الكبيرة، وكما يحدث في القصص حانت اخيرا لحظة الانطلاق فاستقللنا الباص ليطير بنا شاقًّا عباب المسافات الطويلة من الناصرة إلى حيفا، ولأرى الدنيا اجمل واحلى.. السنا في طريقنا إلى السعادة؟ خلال انطلاق الباص بنا نسيت انني جائع ولم اتناول اية لقمة، وكنت امنّي نفسي بالحصول على كل ما تطلبه شفتي ويتمناه لساني من ثمار جنة خالتي، واتصور نفسي أتقافز من شجرة إلى أخرى جامعًا الثمار الوفيرة ومراكمًا اياها في شوال خيش، لأعود به الى بيتنا، ولأوزع منها على اصدقائي اولاد الحارة.

بعد حوالي الساعة، توقف الباص في محطة على حافة شارع مليء بالسيارات المنطلق كلٌ منها في اتجاه. امسكت امي بيدي وقطعت بي الشارع، باتجاه الجبل قبالة الشارع، عندما تمكنا من قطع الشارع، اشارت امي إلى عدد من البراكيات تسترخي متثائبة في سفح الجبل: هناك بتسكن خالتك. عندما اقتربنا من البراكية الاولى، نادت امي على اختها فخرجت هذه مرحّبة مهللة بها. اقتربنا من البراكية لأجد نفسي اجلس مع زوج خالتي، في حين ذهبت امي لتجلس مع اختها.

ارسل زوج خالتي نظرة متفحصة إلى الاجواء المحيطة به، وسمعته يتمتم بكلمات فهمت منها انه يرجو الا تتساقط الامطار، وانه يجب ان يصل إلى الحظيرة قبل ان تزفه الامطار، لينظم إلى ابنه الفتى في الاهتمام بالبقرات، وتوقف زوج خالتي متأهبا  للانطلاق. عندها توجهت اليه  طالبا منه ان ارافقه، لنهتم جميعا بالبقرات، فطلب مني ان اخبر أمي انني ذاهب معه، ركضت بسرعة وعدت بسرعة اكبر دون ان اطلب من امي اي شيء، كنت خائفا ان يذهب زوج خالتي دون ان اتمكن من اللحاق به، انطلقنا، زوج خالتي وانا، نازلين من الجبل ومتجاوزين احجاره وصخوره، إلى ان توقفنا على حافة الشارع الرئيسي، تجاوزنا الشارع لنصل إلى منطقة الماء الجاري في القسطل، هناك ارسلت نظرة حالمة إلى اعماق الماء فرأيت بلبوطًا منطلقا مع التيار، فطار لبّي معه. توقفت اتمعن في جنة خالتي الملموسة، ويبدو ان زوج خالتي افتقدني، فعاد الى حيث توقفت وامسك بيدي طالبا مني إن ارافقه إلى الحظيرة او لتخشيبات القريبة.

بعد قليل توقفنا عند مكان فهمت بقدرتي الخاصة انه الحظيرة المقصودة. اكد هذا ظهور ثلاث بقرات واستقبال ابن خالتي لنا، توجه زوج خالتي الى ابنه وسالة عما اذا كان قد احضر طعام الافطار للبقرات، فأشار ابن خالتي إلى كومة من ثمار الخيار الذابلة، وهزّ رأسه علامة الموافقة.

اقتعد زوج خالتي تنكة قديمة كانت هناك وطلب مني ان اجلس على تنكة قريبة منه، قذف بالثمرات في رنّ الماء امامه، تناول كمية من الخيار وقذف بها إلى البقرات، داعيا اياها لورود الماء، بعد ذلك ارسل نظرة نحوي: انت اكيد ميت من الجوع. ودون ان اقدّم له اية اجابة تناول خيارة كبيرة واعمل شفرته فيها: خذ كلّ. تناولت الخيارة من يده ورحت اقضمها كأنما انا فعلا في الجنة واتناول من ثمارها. اقترب ابن خالتي منا وراح يتناول الخيارة تلو الاخرى.. ممررا يده على جلد بقراته.

بعد لحظات طلب زوج خالتي ان يتوجه الى المحرقة لجلب المزيد من الطعام للبقرات، فانطلق هذا باتجاه الخلاء الرحب الممتد امامنا، ودو ان اطلب اذنا من زوج خالتي هذه المرة لحقت بابنه، وانطلقنا معا كنت اود ان ارى المحرقة، وان اطلع على اسرار السعادة في تلك المنطقة، توقفنا عند اكوام من النفايات، وتوجّه ابن خالتي إلى رجل توقف هناك.. عرفت انه احد العاملين في المحرقة، وسأله عما اذا كانت الشاحنة الثانية قد حضرت، فأخبره هذا بالنفي فتهللت قسمات وجه ابن خالتي وهو يتمتم: يعني كمان شوي بتيجي.

ما ان سمعت تمتمته هذه حتى رأينا شاحنة محملة بالسحاحير تتوقف قريبا منا لترفع قلّابها قاذفة ما احتوته من خضروات وفواكه تالفة.. كومة واحدة. لا اعرف من أين خرج ذلك الحشد الكبير من الناس..، وفجأة وجدت نفسي وسط مجموعة كبيرة من الرجال والنساء، كل منهم يتناول حظة من خيرات الله ويضعه جانبا علامة انه ملكٌ له ولا يحق لاحد ان يقترب منه. بعد ان تقاسم الناس خيرات المحرقة فيما بينهم، عبّأ كل منهم نصيبه منها في كيس خيش حمله او خبأه في هذه الحفرة أو تلك، ووضعه على ظهره عائدا به من حيث اتى، اما انا فقد عبّأت كيسًا وجدته هناك بالخيرات، وحملته على كتفي، وانطلقنا في طريق العودة. قبل ان نصل حظيرة خالتي، ارسل ابنها نظرة باسمة نحوي: شكلك مش قليل.. انت مبين اكبر من عمرك.. اذا بتحب.. بتقدر تظلك معنا.

توقفنا هناك في الحظيرة وسط ابتسامات زوج خالتي، وما لبث الجو ان امتلا بالتنكيتات والتضاحكات، فشعرت انني فعلا في السعادة، زاد في شعوري هذا تقافز البقرات الثلاث وقد اصابتها حالة من البرطعة، فأكلت وشربت وقيّلت في ظلال الاشجار القريبة وفي عيونها نظرات حافلة بالحلم والامل.. والسعادة ايضا.

عندما عدنا في المساء إلى براكية خالتي، كانت أمي قلقة علي، وكانت اختها تطمئنها، مؤكدة لها اننا هناك انما نعيش بأمان،.. عندما سألتني امي عن سبب عدم اخباري لها انني سأرافق زوج خالتي، لم اجب فتطوع ابنه لإجابتها قائلا انني صغير بالعمر لكنني كبير بالعقل. وراح يسرد لها عن مدى قدرتي وقوة مشاركتي في تعبئة اكياس الخيش وحملها، عندها ركضت واحضرت شوالي الخاص، فتحسسته أمي بيدها، وهي تقول: بعرف.. بعرف ابني مش قليل. وعندما اقترح زوج خالتي ان ابقى معهم هناك في السعادة. تركت امي لي الخيار. فجريت نحوها.. حاملا كيس الخيرات، فابتسمت.. وهي ترسل نحوي نظرة رضا مفادها انني كبرت.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم