صحيفة المثقف

وزارة الثقافة.. هل ستكون بمستوى التحديات؟ (1)

قاسم حسين صالحمن التاريخ..  نبتدأ

لا يوجد وطن في الأرض فيه من التنوع الثقافي والمنتج الإبداعي والثراء الفكري والسبق التاريخي بحجم الرقعة المعمورة في العراق . يكفي أن نلمّح بإشارات إلى أن أرقى الثقافات البشرية ما تزال فيها الآن نكهة من ثقافة العراق.. البلد الوحيد في زمانه الذي تنوعت فيه الحضارات: السومرية، الأكدية، الآشورية، البابلية..، والأديان: اليهودية، المسيحية، الديانات الفارسية .. والإسلام، والأعراق: عرب، كورد،روم، فرس، إغريق، مغول، أتراك.. .

وفي تاريخه الإسلامي ظهرت أعظم مدرستين واكثرهما تأثيرا" في تاريخ ثقافة العرب والمسلمين: مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة، ففيهما نشأت تيارات فكرية ومذهبية وفقهية.. ومسائل خلافية لا حصر لها، منها مثلا" أن أهل البصرة اعتمدوا منطق العدل

(القياس) وليس السلف فيما عارض أهل الكوفة وجعلوا الرواية عن (السلف) هي الحكم وليس العقلانية التي اعتمدها البصريون. وفي البصرة ذاتها ظهر التضاد الفكري بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وفيها ظهر "العلّاف" شيخ المعتزلة وتلميذه " النظام " الذي تفوق على أستاذه، والحسن البصري، وواصل ابن عطاء الذي اعتزل عن شيخه البصري، والأصمعي وابن سيرين والجاحظ ورابعة العدويه.. وقائمة طويلة من رجال الفكر والثقافة.

وعن مدرسة الكوفة المعروفة بأعلامها من المفكرين والمثقفين،يكفي أن تقول أن الأمام علي أختارها لتكون مقرا له، ثم كانت مقر الخليفة العباسي المنصور إلى أن ثارت عليه " الراوندية " فغادرها إلى حيث اختار بغداد ليتخذها عاصمة لملكه،لتصبح عاصمة الدنيا في الثقافة وأكبرها حجما من حيث عدد سكانها الذي زاد على المليونين فيما كانت لندن وباريس مدينتين صغيرتين، ولم تكن واشنطن حينها موجودة على الأرض. ومنذ تأسيس بيت الحكمة فيها (832 م) دخل تيار فكري جديد على التيارات الفكرية العربية والإسلامية تمثل بالثقافة اليونانية، أسهمت في أن تجعل الإنسان يعيد التفكير في قضايا كثيرة في مقدمتها علاقته بالسلطة، وتنوعت الثقافات والمواقف الفكرية في العراق بين محافظة ومعتدلة ومتطرفة والحادية.. نجم عنها ازدهار ثقافي ونزوع نفسي نحو الابداع المعرفي الذي من خصائصه الاتيان بما هو جديد ومخالف لما هو موجود.

السلطة والثقافة

العدو الشرس للثقافة هي السلطة بكل مسمياتها.ففي العراق حولت السلطة الاختلاف مع الآخر على مستوى الرأي الى خلاف معها على مستوى الفعل،اعتمد أساليب  العداء والاضطهاد بأنواعه وانتهى بالعنف الذي يستهدف القضاء على " ثقافة  الآخر" سواء بالسجن او بدس السم او الاعدام او الحرق علنا بتهم الكفر والالحاد والزندقة،نجم عنها سيكولوجيا شطرت المفكرين والمثقفين الى قسمين متضادين يتحكم في كل منهما أسلوب النظر الى الامور بثنائية " اما اسود واما ابيض" يفضي الى التصلّب وعدم الاتفاق مع الآخر في مواقف الصح والخطأ على السواء،ليفضي الى انتاج نوعين متضادين من التفكير:  علمي، انتشر بشكل محدود بين النخب الثقافية، وخرافي انتشر بين العامة من الناس وبين من يعدّون انفسهم مثقفين . فحين دخل القطار الى العراق بدايات القرن الماضي، اعلن أحد رجال الدين المؤثرين تحريم استخدام القطار قائلا:" أتتركون حمير الله وتركبون الشمندفر!".

ومن متابعتنا،وجدنا أن هذه العقدة وعقدة العناد العصابي علّتان نفسيتان مصابة بهما الشخصية العراقية، وقد لا استثني أحدا منهما لاسيما الذين صارت أمور البلاد والعباد بأيديهم،وأنهما فعلتا بنا ما فعلته ثارات الجاهلية باجدادنا،فيما تتوزع العقد النفسية الأخرى بين العراقيين بنسب مختلفة تبعا لنوع القيم والمعتقدات التي يحتويها لاوعيهم الجمعي.

والمفارقة ان الثقافة العراقية في الزمن الديمقراطي تراجعت بعد التغيير (2003) مقارنة بما كانت عليه في الحكمين الملكي والجمهوري الأول. فما عاد الناس  تنشغل بالثقافات الأدبية والفنية،وجرى تهميش دور المثقف العراقي الذي يؤمن بالتحديث وترصين دور العقل، برغم وجود عدد كبير من الفضائيات والصحف والمجلات والاحزاب السياسية والدينية،فضلا عن حقيقة سيكولوجية هي أن الثقافة التي تنمو في اجواء صراع سياسي وعنف اجتماعي، تنحرف عن مهمتها في اذكاء الوعي والابداع والقيم الحضارية واشاعة السلوك المهذب بين الناس.

ثقافات ما بعد التغيير

أوجع ضربة سددت الى الثقافة العراقية بعد التاسع من نيسان (2003) هي اشاعة (ثقافة المظلومية) القائمة على (سيكولوجيا الضحية والجّلاد). فبعد سقوط خيمة الدولة التي كان العراقيون يشعرون فيها بالأمان، شاعت بين الشيعة  و الكورد  ثقافة الضحية مقابل (ثقافة الاجتثاث) التي تعني القلع من الجذور،استهدفت من كان محسوبا على النظام السابق من السنّة،باسلوب همجي متخلف أقرب الى الثأر الجاهلي منه الى التعامل الحضاري أو الشرعي أو المساءلة القانونية .

وعلى وفق المنطق السيكولوجي فأن انتصار " الضحية " على من تعدّه " جلادّها " يدفعها الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما أصابها من ظلم، وشرعنة الاقتصاص حتى ممن كان محسوبا بصفة أو عنوان على الجلاّد،والممارسة المضخّمة لأنماط سلوكية أو طقوسية كان " الجلاّد " قد منعهم منها. فالشيعة ملئوا شوارع المدن والأحياء الشيعية بالمواكب الحسينية وزادوا في اللطم والضرب بالزنجيل،وبالغوا في وسائل التعبير عن أنهم كانوا ضحية. والكورد ايضا ركزوا في تجسيد ما أصابهم من ظلم،حتى صار الأمر بين الشيعة والكورد في حينه أشبه بالمباراة في تصوير ما أصابهما من ظلم،نجم عنها ان شاعت " ثقافة الضحية " عبر صحف ومجلات صدرت بالمئات في 2003. وتولى هذه المهمة مثقفون أو من أخذ دورهم ممن لم تكن لهم علاقة بالثقافة، نجم عنها تهميش الولاء للعراق، وتكريس الولاءات الكبرى: الطائفية والاثنية والدينية.. .والولاءات الصغرى: حزب أو تكتل أو عضو نافذ في مجلس الحكم، أو شخصية اجتماعية مستقلة ومتمكنة ماديا، أو مسنودة خارجيا. وشيوع ثقافات متعددة الأسماء والعناوين مثل (ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة المقاومة ثقافة المحاصصة،وثقافة العشيرة..). وما لا يدركه كثيرون ان هذه الثقافات ما تزال تعمل في وعي ولاوعي العراقيين،وتلك هي من بين اهم التحديات التي تواجهها وزارة الثقافة.. أن تنظف نفسها اولا من هذه الثقافات، وتنظف الشارع العراقي منها بطريقة سيكولوجية.. فالخطوة الأولى في أي بناء (مادي، معنوي).. يبدأ بالتنظيف أولا.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

أمين عام تجمع عقول

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم