صحيفة المثقف

في ظلال آية المحارب (2)

ولازال الكلام عن مفهوم - الفساد في الأرض -، وفي سياقه المتصل نقول: يتحدث المنطق الأرسطي عن وجوب التمييز بين الفعل والأمر به، أي إن التمييز يجري في الحكم كما يجري في الموضوع، وبناءاً على هذا يمكننا القول إنه: أبداً لا تصح المساواة بين من فعل الفساد وبين من أمر به، إذ لكل منهما حكمه المعين المستقل بذاته، ويدفعنا هذا الإستنتاج للإيمان بأن موضوعة القتل المادي شيء والقتل المعنوي شيئ أخر .

طبعاً هذا يقودنا للإعتراف بصحة موضوعة - تحديد العناوين -، فالتحديد سيسهل علينا فهم وإدراك الأولويات، وكذلك يسهل علينا طرق المعرفة، ويسهل علينا معرفة المواقف الصحيحة من الأحكام في الأشياء والقضايا، وفي هذا الصدد تذكرنا الأحداث والتاريخ بنمط من الحكام المستبدين والدكتاتورين الذين فاقت جرائمهم حدود الوصف أو متعلقات الحدود الممكنة للعقوبات الدنيوية، ولذلك تبدو الإحالة إلى العذاب الأخروي عاملا نفسياً مساعدا و مضافاً للعذاب الدنيوي، وجدلية الجريمة والعقاب جدلية موضوعية تحدث عنها ديستوفيسكي ذات مرة بروايته الشهيرة ولكن من وجهة نظر مغايرة، لكن الإحالة للعذاب الأخروي ضابطها الإيمان باليوم الآخر وبانه المستقر الأبدي، والإيمان بذلك من لوازم و عناصر القوة لدى المؤمنين، وبما أن الأمر يتعلق بالإيمان فهناك ثقة معنوية إذن: وبإن الأشخاص المستبدين الظلمه لا بد لهم من نهايات سود، وهذه الآمال العريضة نسقها حكماً على مستبدين طغاة في التاريخ القديم والحديث، منهم الوالي الأموي الحجاج بن يوسف الثقفي و الزعيم النازي أدولف هتلر و ملك المغول جنكيزخان وأخرين تُبع، وهؤلاء تاريخيا تسببوا في قتل المئات بل الألوف من الأبرياء، والموت لهم توكيد ورجاء وأمل من المؤمنين بأن ينالهم العذاب العظيم الذين توعدهم الله به، وهو عذاب أخروي شديد وطويل وخالد، قال تعالى: (ولهم في الآخرة عذاب عظيم)، والإستغراق اللفظي في وصف العذاب بالعظيم يوحي لنا بمحدودية العذاب الدنيوي، نعم لا يجب التقليل من أهمية ذلك، ولا الإدعاء بإن المهم هو إقامة العدل في الدنيا، بل هما معاً يكملان بعضهما البعض الأخر، ولقد قدم لنا الله مجموعة من الأمثلة في صيغة بيانات توضيحية على ذلك .

وللتذكير:

وسنعود لصلب الموضوع بعد تلك المقدمة ونقول: - إن مبدأ التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب ضرورياً في كل الحالات -، وهذا التوكيد العملي يوجهنا للتساؤل الشفوي: ماذا لو أرعب أحدهم وأخاف الناس ولكن دون ان يقتلهم أو يسلب ممتلكاتهم؟، فهل تكون عقوبته الدنيوية كافية في رفع العقوبة الأخروية؟، أم إنه يظل مشمولاً بقوله تعالى: (ولهم في الأخرة عذاب عظيم)؟، وفي هذه بالذات يلزمنا المراجعة والتثبت لما قلناه عن: إن - آية المحارب - وحكمها ومفهومها مطلقين عامين، ولكن هل لهذا الإطلاق أو لهذا العموم أثرا على الحكم في الأخرة بعد عقوبة الدنيا؟، التصريحات في الكتاب المجيد تقول: إن الملاك في رفع العقوبة أو إبقائها هو - بالتوبة -، والتوبة الخالصة بحسب تلك التصريحات رافعة للعقوبة في الدنيا والأخرة، أي أنها الشرط الموضوعي في رفع العقوبة في الدنيا وكذلك في الأخرة، والتلازم بين التوبة والرحمة من موجبات صفات الله الإيجابية، ومن متطلبات الرحمة التجاوز عن الأخطاء بعد الإعتراف بها والتبرؤ منها، وقد شاع في الأثر - إن مغفرته سبقت عذابه - وعلى هذا أكد النص التالي: (إن الله يغفر الذنوب جميعاً) .

قاعدة التعارض:

التعارض من عرض تعارضاً معارضة، وهو المخالفة وقيل بل هو التناقض و التقابل إن كان ذلك مصدرا، قيل: ولا يكون التعارض إلاَّ بين دليلين أو بين حجيتين، و معارضة على وزن مفاعلة والتي تكون في المواقف العامة أو الخاصة، وعن التعارض في مسألتنا إليكم المثال التالي:

1 - سئُل الإمام الصادق عن كيفية تطبيق العقوبات، قال: - ذلك إلى الإمام إن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب، وإن شاء قتل - وسائل الشيعة ج18 ص 533، أي ان الامام هو من يختار نوع العقوبة ومن دون النظر الى نوع الجريمة !! .

2 - وفي خبر أخر عن عُبيدة إنه لما سئُل الإمام الصادق عن شرط التناسب بين الجريمة والعقاب، قال: - ليس أي شيء صنع، ولكنه يصنع بهم على قدر جناياتهم، فمن قطع الطريق قتل، ومن أخذ المال قُطعت يده ورجله وصُلب، ومن قطع الطريق فقتل ولم يأخذ المال قُتل، ومن قطع الطريق فأخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، ومن قطع الطريق فلم يأخذ مالاً ولم يقتل نُفي من الأرض - وسائل الشيعة

ج18 ص 534، يعني ان الامام ليس مخيراً في العقوبات، وإنما العقوبات تجري وفقاً لنظام التناسب بين الجريمة والعقاب .

ولكن قد يتوهم المرء فيظن للوهلة الأولى إن هناك ثمة تعارض بين الخبرين، ولكن مع التدقيق يتبين أن ليس بينهما أية تعارض، وإنما هناك ترجيح في المقام لبعض الأخبار على بعض، وفي هذا الباب

 تطالعنا صحيحة بُريد بن معاوية حيث يقول: - سألت أبا عبدالله عن قول الله عزوجل (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ..)، قال: ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء، قلت: فموفض ذلك إليه؟، قال: لا، ولكن نحو الجناية - الوسائل ج 18 ص 533، وفي هذا الخبر هناك أحتمالين متغايرين:

الأول: يقول ان الإمام أو القاضي هو صاحب الإختيار في تطبيق أحكام العقوبات .

والثاني: يقول ان الإمام ليس هو صاحب الإختيار في تطبيق أحكام العقوبات و على نحو مطلق، بل إنه مكلف باختيار نوع العقوبة المناسبة لنوع الجريمة، وهذا يعني ان المفهوم الثاني يكون شارحاً ومقيداً للمفهوم الأول، ولا معنى للقول بالتعارض بين المفهومين وذلك بسبب وجود القرينة الدالة و المتصلة بالمفهوم الأول، وفي حال وجدت (القرينة المتصلة) بين هذين المفهومين أنتفت الحاجة للتعارض من رأس، وهذه الحالة يطلق عليها الأصولي أو يُشبهها بالقول الآتي: - بالتعارض الأبتدائي الذي هو كالتعارض بين العموم والخصوص -، ولا يُعد التعارض الأبتدائي تعارضاً في الأصل .

وإذا ثبت التعارض بين الأخبار فلازم ذلك العمل بمبدأ الترجيح بينهما لرفع ذلك التعارض، وان كان ذلك ولا بد، فيجب ترجيح الأخبار الدالة على التناسب بين الجريمة والعقاب على تلك التي لا تقول بذلك، ودليلنا على ذلك مايلي:

أ - إن نسبة الأخبار الدالة على التناسب بين الجريمة والعقاب أكثر عدداً وأقوى حجة، على عكس تلك الأخبار التي لا تشترط التناسب بين الجريمة والعقاب والتي هي أقل عددا وأضعف حجة، ومن بين أخبار التناسب هذه لدينا خبر بُريد بن معاوية وخبر عبيدة وخبر داوود الطائي وخبر أحمد بن فضل الخاقاني، وأما الأخبار التي لا تقول بالتناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب فهي:

أولاً: لم تنف التناسب في الأصل .

 وثانياً: إنها لم توضح معنى الإختيار على نحو دقيق، بل جعلته مبهماً.

ب - كذلك و يرجح مبدأ التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب العدل و مقتضاه، الوارد في قوله تعالى: - إن الله يأمر بالعدل - النحل 90، على سبيل الندب والإحاطة والأستحباب، فالجرائم ان لم تطبق عليها العقوبات وبشكل صارم بتناسب فيها بين العقوبة و الجريمة من حيث الحجم والنوع والكيفية والطبيعة، تتعرض المجتمعات والأمم إلى تجاوزات متعمدة وصريحة عمدية من قبل المجرمين وعلى نطاق واسع، وقديماً قيل: (من أمن العقوبة أساء الأدب)، فالعقوبة رادعة وفيها صيانة وحماية للمجتمع، و خوف المجرمين من العقوبة ضمانة أكيدة لحماية المجتمع وحقوقه .

ج - كذلك ومن لوازم العقل الفطري الطبيعي السليم التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب، وقد عُرف العقل الفطري السليم:

 بأنه ذلك العقل الذي يستجيب للفعل الصالح والعمل به، وكذا هو من يستمع للقول الحسن، قال تعالى: - فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه - الزمر 18 .

د - إن عدم إعتبار التناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب وترجيحه و تبنيه، عملية سلبية جرت على يد بعض التابعين تمشياً مع روح السياسة التي كانت سائدة آنئذاك، ومن بين هؤلاء: أبي ثور، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والحسن البصري، والضحاك والنخعي وابوا الزناد وداوود - المغني لأبن قُدامه ج 10 ص

305، وتبعهم على ذلك نفر من الفقهاء منهم: الشيخ الصدوق في المقنع والهداية - الجوامع الفقهية ص 62، والشيخ المفيد في المقنعة ص 129، وسالار عبد العزيز في المراسم، وأبن أدريس في السرائر ج 3 ص 507، والمحقق الحلي في الشرائع ص 356، والعلامة الحلي في المختلف ص 779، و هؤلاء جميعاً لم يلتزموا بالتناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب، وهم في ذلك قد خالفوا صريح الكتاب والعقل .

وأما دليلنا على الإلتزام بالتناسب في الحكم بين الجريمة والعقاب فهو مايلي:

1 - ما ورد في صحيح بُريد بن معاوية و عُبيدة وداوود الطائي وأحمد بن فضل الخاقاني وغيرهم، ممن نفوا صراحة الإختيار و قالوا بالتناسب، وهذا يدل على أن الإختيار حجته ضعيفه ودليله ركيك، أو إنهم لم يقفوا عند هذه الأخبار ويدققوا في معناها، ولم يؤلوها كثير أهتمام .

2 - والعقل الفطري يحكم بالتناسب، وهو في ذلك ينفي الإختيار االذي تترك فيه الأحكام تبعاً لرأي القاضي يفعل بهه ما يشاء و وفقاً للمؤثرات الخارجية والثانوية .

3 - ثم إن الأصل الأولي من تشريع العقوبات هو من أجل حماية المجتمع والنظام، وتلك هي الأولوية بالنسبة للعدالة وقيمها، والعدل صفة إيجاب دعانا الله للتمسك بها حيث قال: - إن الله يأمر بالعدل - .

4 - والقيمة المعيارية في تطبيق الأحكام هو الحجة الغالبة فيها، وليس هو المؤثر الثانوي وليس قول الأكثرية مهما علا هنا وفي كل مقام، قال تعالى في نبذ التمسك بالأكثرية (وأكثرهم للحق كارهون)، وما يعول عليه في هذا الشأن هو الدليل المحكم الثابت الموافق للكتاب والعقل .

ملاحظة

في باب التعارض يذهب البعض تبريرا، للقول عن كيفيات إفتراضية لرفعه، كقولهم: إنما يرفع التعارض بين الأدلة حين يُترك الإختيار للقاضي، مع شرط إختيار الخبر أو الدليل أو الحجة المناسبة في تطبيق الحكم ..، وهذا يعني الإعتماد على رأي القاضي في إنتخاب الحكم المناسب، ولكن إعتبار رأي القاضي حجة من غير مجوز شرعي وعقلي يُعد مخاطرة، ذلك إن الأصل في الأحكام ليس

 تابعاً لإختيارات القاضي، بل المعول عليه هو في كون الحكم في الأصل قائم على الدليل الثابت المحكم، والدليل هو الحجة وليس الرأي المجرد أو المبني على الرغبة الوقتية، وخلاصة الكلام

 في أصل التعارض هذ هو: (عدم صحة القول بالإطلاق في اعتماد اختيار القاضي كنوع للحكم دون مراعاة لنوع الجريمة، ولأن ذلك مخالفاً للأخبار الصحيحة كما ان الإعتماد على طرفاً من الأخبار دون الأخذ بعين الإعتبار الطرف الثاني، ترجيح بلا مرجح وهو مخالفة لصريح الكتاب وصريح العقل، وبالتدقيق والنظر: يظهر إن بعض الأخبار كُتبت في ظل الخوف و الخشية أو من باب التقية، وفي هذه الحالة تسقط من الإعتبار والحجية) .

تنبيه:

وفي هذه الحالة إذن لندع المراوحة جانبأ، ولندع تحميل النصوص إفرازات الزمان والمكان غير المنطقية، ولندقق في الخبر من حيث الصدور، ثم نحكم عليه وفقا للمعايير والضوابط المقررة، وليس تبعاً لواقع الحال أوغضاً للطرف !!!، ويجب التنويه على أصالة إرادة الإختلاف في المسائل الفقهية وإن كلف ذلك الدخول في الممنوع، ذلك أن الإختلاف أساسي في بناء القضايا الفقهية إلاَّ ما خالف الدليل والفهم، و لا ضرر في ذلك ولا ضرار طالما يريد الفقيه الصواب و مرضاة الله، والقضية المختلفة من حيث المبدأ: هي القضية المختلف فيها في معظم العلوم و الفقه خارجا عن تلك القاعدة، وهذه القاعدة طبيعية لا تثير الفتنة والفزع والمناكفة، وبالتتبع في تاريخ الفتاوى والأحكام نجد في قراءتنا لكثير من فتاوى الإمام أبي حنيفه أنها تختلف مع فتاوى الشافعي في المسألة الواحدة، وهكذا الحال بالنسبة للشافعي مع المالكي ومع أبن حنبل لا ضير في ذلك ولا ضر ر، وفي مجال الضبط والتوكيد ورد مرويا عن الامام الصادق قوله - خذ بما وافق الكتاب -، وهو في ذلك إنما يريد تحقيق الصحة والموافقة التامة للدليل .

التوبة:

التوبة: من فعل تاب إذا رجع وأناب عن الخطأ والذنب ولا تصح التوبة من غير الإعتراف، ولا تصح التوبة إلاَّ عن وعي وعن إدراك وعن عقل، ولكن هل تترتب على التائب عن الخطأ أحكام العقوبات أم لا؟، هذه القضية جدلية أعني قضية التوبة، إذ فيها تتداخل المواضيع من جهة (الحقوق العامة والحقوق الخاصة)، ولكل من هذه الحقوق متعلقات لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها، فهناك مثلاً:

المتعلق الأول: والذي يُطرح بصيغة سؤال إنكاري وعلى هذا النحو التالي: هل التوبة تُقبل من قبل التمكن من المجرم والإمساك به أم لا تُقبل؟، ولكن هذا السؤال يمكننا طرحه على نحو ثاني: ما هي الجرائم التي يتم العفو عنها عند التوبة؟، هل هي تلك الجرائم التي تتعلق بالحق العام أم تلك التي تتعلق بالحق الخاص؟، فمثلاً المجرم الذي يروع الناس ويخيفهم ويبيع الممنوعات والمخدرات على الناس، فهل التوبة تقبل منه مثلا؟، مع ان الكتاب المجيد يعتبر هذا الشخص داخلاً في العنوان العام لمعنى - المفسدون في الأرض -، ولكن الكتاب المجيد في الوقت نفسه أعتبر التوبة تخصيصاً للعموم:

فقال: - من تاب قبل التمكن منه والقدرة عليه فإن الله يتوب عليه

 - !!، ولكن ماذا عن الأثر الموضوعي الذي يُحدثه الفساد في المجتمع؟ بحسب المنطق الطبيعي يعتبر تطبيق الأحكام والقانون ضرورة من أجل حماية المجتمع هذا أولاً، وثانياً يجب ان ينظر إلى تطبيق القانون كحد وكفاصل وكعبرة لمن يحاول الإفلات من العقاب، ولكن أليس في ذلك توهينا لمهمة التوبة التي تكون مجزية عن تطبيق القانون؟، فالتوبة إجراء عملي لتشجيع المجرمين الأخرين والمترددين للإسراع والرجوع إلى المجتمع والإنصهار فيه من جديد، والرأي الراجح عندي هو في النظر بعمق لما يحقق المصلحة والفائدة العامة للمجتمع، لأن ذلك الأصل الأولي في تأسيس القانون والعقوبات والجزاءات:

المتعلق الثاني: ورد بصيغة سؤال أفتراضي: ماذا لو أن شخصاً تاب من قبل ان يقدروا عليه ولكن ثبت بذمته الحق العام والحق الخاص؟ !!، يعني أن هذا الشخص قد مارس الإرهاب والقتل والسلب والنهب وقطع الطرقات، فهل يسقط عنه الحق العام أم يظل معلقاً بذمته؟، وماهو الموقف من قوله تعالى: - إلاَّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا إن الله غفور رحيم -، فهل إن هذا النص قد أخذ بعين الإعتبار الحق العام؟، ومع ذلك أسقط العقوبة لبراءة الذمة مع التوبة مما علق بها من جرم أو ذنب !!، في القانون المدني يعتبر ممثل الإدعاء هو الحكومة نيابة عن الشعب بإعتبارها هي الولي عنه في المرافعة والدفاع عن الحق العام، واذا سقطت العقوبة مع التوبة سقط الحق العام كذلك، طبعاً هذا مع فرض سقوط الحق الخاص بالتنازل أو بالهبة أو بالدية، وفي هذه الحالة تسقط العقوبة من رأس أي لا عقوبة أصلاً، مع التأكيد على إرجاع ما في الذمة من جهة المجرم لمن أرتكب بحقهم الجرم، فالمال يجب إعادته بطريق ما، والقتل إن لم يطبق بالقصاص فتكون الدية عوضاً لذلك وهكذا .

المتعلق الثالث: في حال عدم توبة المجرم قبل التمكن منه، والجريمة لا تتعلق بالحق الخاص وإنما تتعلق بالحق العام، فهل يجب في هذه الحالة تطبيق العقوبات أم لا؟، وهل يجب التمسك بالقول الدارج إنه مادامت الجريمة لا تتعلق بالحق الخاص فلا يجب تطبيق الأحكام والعقوبات؟، منطلقين في هذا من التمسك بروح العدالة وأحكام الرحمة !!، وهذا كله كما أفترضنا أن التوبة تمت بعد الإمساك به والتمكن منه، ونقول: إن التوبة اللاحقة لا تغير من الحكم شيئا، وإنها في الأصل لا قيمة لها من الناحية القانونية والشرعية، ومع ذلك نقول: إن رعاية المصلحة العامة مهمة في كل حال، والنظر لذلك يحدده الواقع وما يترتب عليه من أثار ونتائج .

المتعلق الرابع: وهو كذلك في حال عدم توبة المجرم قبل الإمساك به والتمكن منه، ولكن الجريمة التي قام بها لها أثراً من الناحيتين العامة والخاصة، وفي هذه الحالة نقول كذلك بوجوب تطبيق العقوبة، ونقول أيضاً: التوبة لا أثر لها في تطبيق العقوبة على الحق الخاص وسواء أكانت قبل التمكن من المجرم أو بعد التمكن منه، وقد قلنا: إن كانت الجريمة تتعلق بالمال والغصب فيجب أرجاع الحقوق لمستحقيها، وإن كانت الجريمة هي القتل فالقصاص أو الدية هي التي تسقط الحق الشخصي ..

مثال:

يُحكى أن شخصاً أسمه - الحارثة بن زيد - عاش في زمن الإمام علي، وكان هذا الشخص ممن يصدق عليه معنى - المفسدون في الأرض -، فلم يترك عملاً قبيحاً إلاَّ وفعله، ويروى إنه مر بالإمام الحسن طالباً التوسط منه لدى الإمام علي بعد أن أعلن توبته والبراءة من أفعاله القديمة، ولكن الإمام الحسن رفض التوسط فيه لدى أبيه أمير المؤمنين، ولكن هذا الرجل لم يكل ولم يمل فذهب عند سعيد بن قيس الهمداني (كان من كبار رجال التابعين وصاحب رآية همدان في معركتي الجمل وصفين)، الذي آواه وسمع منه مقالته، وعزم التوسط إليه عند أمير المؤمنين، فذهب سعيد بن قيس عند أمير المؤمنين وسأله:

يا أمير المؤمنين: ما حكم من حارب الله ورسوله؟ .

فقال الإمام إنما حكمه، قول الله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا ... إلى أن وصل إلى قوله تعالى: - إلاَّ الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم) .

فقال سعيد: وهل يشمل ذلك أيضاً الحارثة بن زيد؟ فقال الإمام: نعم حتى الحارثة بن زيد إن تاب توبة نصوحا .

فقال سعيد: فهل توبة الحارثة من قبل التمكن منه دافعة للعقوبة؟ قال الإمام: نعم هي كذلك .

فذهب سعيد بن قيس إلى الحارثة بن زيد، وأتى به عند امير المؤمنين فبايعه على السمع والطاعة، وكتب له الإمام عهداً فيه الأمان والعفو

..- تفسير الطبري ج6 ص 221 .

وهنا نسأل: هل عهد أميرالمؤمنين للحارثة هذا قد أخذ بعين الإعتبار الحق الشخصي الخاص أم لا؟، لأن عهد الأمان براءة للذمة من العقوبة وتنزيه للمجرم من الجناية، ولا يصح إعطاء مثل هكذا عهد من دون النظر في الحقوق الخاصة، وهذا الأمر فيه إحتمالين:

الأول: إما ان لا يكون الحارثة قد أرتكب شيئا من الجرائم الخاصة مطلقاً .

والثاني: وإما إن يكون أصحاب الحق الخاص الشخصي قد تنازلوا عن حقهم بالصلح أو بغيره، مما يكون قد رفع عنه متعلق الحقوق التي في ذمته .

وفي هذه الحالة يكون المتبقي هو الحق العام الذي يحق فيه للإمام بإعتباره الحاكم أن يعفو طالما يجد في ذلك مصلحة وضرورة عامة .

في ظلال أخبار آية المحارب:

يُطالعنا الكُليني في الكافي، والطوسي في التهذيب، بخبر مروي على هذا النحو: - عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن يحيى وفي التهذيب عن عبدالله بن المغيرة، عن طلحة بن زيد قال:

سمعت أبا عبدالله الصادق يقول: (كان أبي يقول: - إن للحرب حكمين:

الأول: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ولم يُثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال، فإن الإمام فيه بالخيار إن ّ شاء ضرب عنقه، وإنّ شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم (قطع)، وتركه يتشحط في دمه حتى يموت، وهو قول الله عز وجل: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً، أن يُقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) المائدة 33، ألاَّ ترى إن المُخير الذي خير الله الإمام على شيء واحد وهو القتل، وليس هو على أشياء مختلفة، فقلت لأبي عبدالله: قول الله عزَ وجلّ: - أو ينفوا من الأرض -، قال: ذلك الطلب، ان تطلبه الخيل حتى يهرب، فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك) .

والثاني: (إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها فكل أسير أخذ في تلك الحال، فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار، إن شاء منَّ عليهم فارسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء أستعبدهم، فصاروا عبيداً) - الكافي ج5 ص32، والتهذيب ج 6 ص 143 ..

هذا الخبر يتحدث عن المحارب كمقاتل في ساحة المعركة، وظاهر كلامه إنه قتال بين مسلمين وكفار، مع إن الخبر لم يذكر الكفار بشكل واضح وصريح، ولكن هذا ما فهمه الفقهاء من الخبر ورتبوا عليه أثار وتبعات، منهم الشيخ الطوسي في المبسوط ج2 ص20، وأبن أدريس الحلي في السرائر ص 158، والمحقق الحلي في الشرائع ص 90، وبناءا على ذلك كتبوا وأفتوا حول الأسرى واحكامهم، فقد أعتبروا ان التقسيم الأولي لأحكام الأسرى إلى نوعين ناتج عن قوله (إن للحرب حكمين) من قبل أن تضع الحرب أوزارها ومن بعد ذلك، ففي الحالة الأولى كان الحكم عندهم هو قتل الأسرى جميعاً، وأما بعد أن تضع الحرب أوزارها فهناك سلة من التطبيقات مررنا عليها في الخبر، ومع الإستدراك حول معنى (أو ينفوا من الأرض)، قال يطاردهم الإمام بالخيل ثم يرى فيهم رأيه !! .

ملاحظة

من المبادئ الأولية في عملية إثبات الحكم الفقهي التحقق من صحة السند وخلوه من الشوائب، حتى يكون الخبر مقبولاً ويمكن النظر فيه والإستئناس به، وبحسب معلوماتنا في علم الرجال يظهر أن:

1 - الراوي الأول للخبر: - محمد بن يحيى العطار القمي كان ثقة - .

2 - الراوي الثاني للخبر: - أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي كان ثقة كذلك - .

3 – الراوي الثالث للخبر: - مشترك بين محمد بن يحيى الخثعمي أو محمد بن يحيى الخزاز وكلاهما كانا من الثقات - .

4 – االراوي الرابع للخبر بحسب رواية الطوسي هو عبدالله بن المغيرة وهو من أصحاب الإجماع كان ثقة معتبرا .

كل هؤلاء رووا عن طلحة بن زيد النهدي الشامي الذي قال فيه وعنه أصحاب التراجم والرجال مايلي:

أ - قال عنه أبن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل: - إنه ضعيف الحديث منكر القول - الجرح والتعديل ج 4 ص 480 .

ب – وقال عنه ابن حبان في المجروحين: - منكر الحديث لا يحتج به - .

ج - وقال عنه محمد بن اسماعيل البخاري: - منكر الحديث - التاريخ الكبير ج4 ص351 البخاري - .

د - وقال عنه الدارقطني صاحب السنن: - إنه ضعيف - تهذيب التهذيب للعسقلاني ج5 ص 16 - .

ه - وقال عنه النسائي صاحب السنن: - لا يعتمد عليه - تهذيب التهذيب ج5 ص 16 - .

و – وقال عنه أحمد بن حنبل: - لا يعتد به - تهذيب التهذيب ج 5 ص 16 - .

ومع كل هذه التهم لم نجد فيما نعلم أحداً قد أتهمه بالتشيع أو بالرفض أو بالباطنية أو الغنوصية أو ...، بحيث يظن الظان إن كل هذه التهم منشأها تشيع الرجل مثلاً، ولطلحة بن زيد كتاباً ذكره النجاشي في الفهرست ص 155، وكذا الطوسي في الفهرست ص 112، وقيل عن الكتاب إن فيه أخبارا مروية عن ثقات، ولكن لم يقولوا إن طلحة بن زيد كان ثقة، والفرق كبير بين ان يكون كتابه فيه من الأخبار الصحيحة وبين ان يكون هو نفسه من الثقاة !!، ولا يعني ان لفظ فيه من الأخبار الصحيحة يعني: إن كل ما فيه صحيحا ويمكن الإعتماد عليه !!، أعني أن ليس كل الكتاب موضع قبول وإعتماد، ونفهم ذلك من كلام للشيخ الصدوق إنه قال: - الروايات التي أخذتها عن كتاب طلحة بن زيد، وجدتها في بعض الكتب المعتبرة، و يعني هذا ان كل خبر او رواية اخذتها من كتاب طلحة بن زيد، إنما دققت فيها ونظرت في الكتب المعتبرة ذات الإختصاص في شأنها فوجدت بعضاً منها قابل للقبول، وطبعاً هذا القول يعني بعض الأخبار لا جميع من ورد في كتاب طلحة بن زيد، ومن باب أولى القول: أن ليس كل ما في كتاب طلحة بن زيد يصح الإعتماد عليه وروايته، والكتاب المعتبر يعني ذلك الكتاب الذي يصح الرجوع إليه في كل حال، وكتاب طلحة بن زيد ليس من الكتب المعتبرة في كل حال، وإنما يُنظر فيه ويحقق فما كان صحيحاً أعتبرناه وما كان غير ذلك رددناه، ولكم أن تعلموا أن كتاب طلحة بن زيد مختلف فيه من جهة المصادر التي أعتمدها، فتارةً يروي عن الأوزاعي وهشام بن عروة، وتارةً أخرى يروي عن الإمام الصادق .

ولم أجد فيما أعلم أن أحدا من علماء الرجال من الشيعة أو السنة قد وثق الرجل أو أشار إلى ذلك، بل أن صريح أقوالهم فيه تقول: - إنه كذاب يضع الحديث أو فاسد الرواية منكر -، وبناءاً على ما مر من وصف عام لشخصية طلحة بن زيد نقول: إن روايته للأخبار لا يعتد فيها ولا يعتمد عليها، ولهذا لا يصح إعتماد مروياته في أستنباط الأحكام الفقهية أو التأسيس عليها في المسائل المعتبرة ..

هذا كان وصفاً عاماً لحال خبر طلحة بن زيد من جهة السند، والآن حان الوقت لنناقش متن الخبر ودلالته ومدى صحته وموافقته للكتاب والعقل، ونقول:

أولاً: يزعم خبر طلحة أن للأسرى في المعركة - حكمين -، [ الأول من قبل ان تضع الحرب اوزارها وحكمهم في هذه الحالة القتل، والثاني من بعد ان تضع الحرب أوزارها وهو التخيير الذي يرى فيه الإمام رأيه ] !!، والحكم الذي تبناه في هذا المجال يُعد مخالفا مخالفة صريحة لسيرة النبي في المعارك وحكمه العام في الاسرى، فلم يقتل النبي أحداً من الأسرى لا من قبل نهاية المعركة ولا من بعدها، وشاهدنا على ذلك معركة بدر التي أسر فيها المسلمون 80 رجلاً من المشركين، وقد أطلق سراح أكثرهم إلاَّ 8 بفدية، و قتل منهم أثنين قصاصاً لا بإعتبارهم أسرى، وإنما بسبب ما فعلوه بجثث المسلمين والتمثيل بها - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 37 -، ونفس الشيء يُقال في معركة بني المصطلق (المريسع) التي تمكن فيها المسلمون من أخذ الكثير من أسرى المشركين، ولم يقتل النبي واحداً منهم بل أطلق سراحهم جميعاً - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 44 -، وحدث هذا أيضاً في معركة حنين (هوازن) حيث أطلق النبي جميع الأسرى منهم - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 53 -، وهذه الشواهد تدل على أن ما ذكره طلحة بن زيد ليس صحيحاً بل مخالفاً لما عليه السيرة الصحيحة للنبي في المعارك .

الثاني: يزعم طلحة بن زيد: أن آية المحارب نزلت في شأن معارك المسلمين مع الكفار والمشركين أو إنها ترتبط بذلك، مع انه كان يجب عليه التمهل وهو يقرأ قوله - يحاربون - بدلاً عن - يقاتلون -، ومفهوم يحاربون بعيد عن ساحة القتال في المعركة على نحو خاص، وإنما ساحته جميع مفردات الحياة، والمتعلق بلفظ يحاربون هو الجملة التي تقول - ويسعون في الأرض فسادا -، وليس بالذي يسعون في الأرض قتالا، المتعلق هو بهذا الفساد المتنوع في الحياة وفي إشاعته بين الناس، والأصل في آية المحارب هي الدعوة لتطبيق القانون والعدل بين الناس وحماية حقوق المجتمع من التعديات والجرائم، وليس في النص ما يدل على أن آية المحارب تعني ملاحقة أسرى المعارك أو المقاتلين في المعركة، نعم كان لرواية طلحة بن زيد أثراً عند الطبري الذي جعل من شأن نزول الآية مرتبطاً بالمشركين من المقاتلين - تفسير الطبري ج 6 ص 206 -، ولهذا تابعه في ذلك حيث قال: بان حكمهم القتل إن لم تضع الحرب أوزارها، ربما لا يثيرنا هذا كثيرا حين يكون قد صدر عن الطبري، لكنه يثيرنا جداً حين ينسب ذلك للامام الصادق، طبعاً نحن نعلم المُراد من ذلك والغاية فهي ليست حسنة في كل حال ..

الثالث: ورد في خبر طلحة بن زيد لفظ - بغير حسم - أو تركه يتشحط بدمه حتى يموت، هذا اللفظ في هذه الجملة يحمل معاني سيئة تتنافى اصلا مع روح الاسلام ومبادئ الكتاب المجيد، التي تعطي مساحة واسعة للرحمة كي تتسلل إلى قلوب الناس فتنتزع محبتهم، وتدخلهم في دين الله أفواجا، هذا اللفظ الغريب لم نجده فقط هنا في هذا الخبر، ولم نجد له من مؤيد لدى فرق المسلمين وعامة فقهائهم، كما لم يذكر هذه الوحشية والسادية أياً من الأديان السماوية، نعم وجدنا هذا هنا، ونجده في تعليمات المنظمات الارهابية التي تنشط في العالم الاسلامي هذه السنوات، نجده عندهم في كيفية تعذيب من يقع بين أيديهم من المخالفين، والظاهر إن هذه النسخة السيئة الفاسدة لها وجود في تاريخ أدب المسلمين وثقافتهم المتعجرفة ضد من يخالفهم، وشواهد هذا اللفظ وفضاضته نجده في معنى من - قُتل صبرا - وهم كثير تدل على ذلك صور ومشاهد تعرض على الناس دون استحياء، وقد وردت تحت بند جئناكم بالذبح !!! .

[يتبنى المذهب الفقهي عند المسلمين، مفهوم قطع اليد لكل من سرق، ومفهوم قطع الرجل لكل من أشاع الفوضى واللانظام في المجتمع، ويمكن إجتماع العقوبتين في الآن معاً إن كان ما يسببه المجرم من معانات للمجتمع داعية إلى ذلك، هذه العقوبة مع تلك الجريمة تدخل في مضمار وحدود معنى - السعي في الأرض فسادا -، ولا تتعلق بالقتال في المعركة بين المسلمين والكفار ولا ترتبط بهم، ومن هنا فالتصور الذي ذهب إليه طلحة بن زيد تنقصه المقاربة الصحيحة] .

الرابع: ورد في خبر طلحة بن زيد جملة تقول: - ذلك الطلب ان تطلبه الخيل حتى يهرب، فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك -، هذه الجملة هي بيان لمعنى - أو ينفوا من الأرض -، ولا ندري كيف فهم طلحة بن زيد معنى - ينفوا - على أنهم يهربوا، ولهذا اشترط الخيل في طلبهم والامساك بهم، مع ان المفهوم من الفعل المضارع ينفوا كونه جزء من الاحكام التي يصدرها الامام على من ارتكب فسادا في الارض، وليس من فر من المعركة، النفي هنا هو تنفيذا لحكم الإمام وليس إرادة ذاتية من المحارب، حتى يتم طلبه بالخيل واللحاق به، إذن مفهوم الفعل لا يدل على إرادة ذاتية من قبل المجرم بل هو تنفيذاً لحكم يجريه الإمام على المفسد في الأرض ..

الخامس: يظهر أن طلحة بن زيد ذهب على عكس ما يرآه عامة الفقهاء من المسلمين في شأن آية المحارب، إذ ربط الآية بالمقاتل وأسير القتال لا دليل عليه، ثم أن خبر طلحة لا يذكر القتال مع الكفار على نحو صريح، وهنا يحق لنا القول: ماذا لو تقاتل المؤمنون فيما بينهم؟ فهل يصح تطبيق الحكم بقتل جميع الأسرى المؤمنين لدى كل طرف؟، أم إن التحفظ عليهم حتى تضع الحرب أوزارها ثم يطلق سراحهم؟، ثم لماذا الاصرار على قتلهم؟ هل بسبب الخوف من اطلاق سراحهم وعودتهم من جديد للقتال؟ أم إن التحفظ عليهم يكلف المقاتلين جهدا وحماية ورعاية ومواد غذائية مكلفة؟ فهل من أجل ذلك يجب قتلهم أم ماذا؟، طبعاً هذه التساؤلات لم تأخذ بعين الإعتبار جانب الرحمة والتسامح ومبدأ خذ العفو وأعرض عن الجاهلين، والإيمان بمبدأ الخطأ وإمكانية التوبة عنه، كذلك لم تأخذ بعين الاعتبار مفهوم العدل الإلهي وحقوق الإنسان وحمايته وقت المعارك والأزمات ..

السادس: الملاحظ ان رواية طلحة بن زيد سقط منها لفظ (أو يصلبوا)، فهل إن ذلك السقوط منه قد وقع سهواً؟، أم إنه سقط بداعي إعتبارات ثانوية أخرى؟، ولا نعلم بالضبط ماهي، لذلك لم نجد فيما بين أيدينا من مصادر تدلنا لماذا تم إسقاط وحذف لفظ - أو يصلبوا - من بين الأحكام، ولكن الذي نفهمه أن هناك ثمة مجازفة عمل عليها طلحة بن زيد، ويمكننا قرأتها من وحي وضعه للأخبار وتزييفها، وفي هذه الحالة حتماً يقع السقط، وتقع الهفوات من دون النظر لما حول أو عن طبيعة الأحكام، وعلى كل حال يبدو ان طلحة بن زيد لم يتثبت من روايته ولهذا أفتى وأسقط من دون رعاية للموضوعية وللدقة .

تنبيه:

في السجال المعرفي يميز أهل الله بين مفهوم نهاية المعركة وبين وضعت الحرب أوزارها، والصيغة الصحيحة لهذا اللفظ حين - تضع الحرب أوزارها -، فما الذي تعنية جملة نهاية المعركة أو وضعت الحرب أوزارها؟، المفروض من التبادر ان تكون الجملة دالة على إنتهاء المعارك والجنوح للسلم أو للهدنة المؤقتة أو الدائمة،، لكن عامة الحروب في العالم وخاصة الكبيرة منها، تجري فيها فترات من الهدنة المؤقتة لعدد من الأسباب، لكن هل يصح قتل الأسرى وقت المعركة وقبل هذه النهايات المتقطعة؟ بحسب خبر طلحة بن زيد الجواب: نعم قتل الأسرى يدور في فلك دوران المعركة ولا ينظر إلى هذه النهايات المتقطعة أو الدائمة !!، إن هذه الفكرة السمجة  التي تبناها خبر طلحة بن زيد سببها فهم خاطئ لقوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض)، أي إنه أعتبر (ما) أداة نفي، أي ان لا يكون للنبي أسرى وهو مشغول في المعركة !!، طبعاً مضافاً إلى ذلك تسويق فكرة الإثخان على إنها إستقرار وهيمنة في المعركة، وهذا التركيب في فهم النص ينقصه الإنفتاح على مجمل قضية الأسر في الكتاب المجيد، بدليل إن هذا النص لا يرتب حكماً ولكنه يتحدث عن موضوعة ثانية، وهي أهمية الإنشغال في المعركة وإدارتها والتركيز فيما يمكنه تحقيق الفوز فيها، والنهي المعلن عملي يتوجه لهذا المعنى الذي ذكرناه، وليس هو حكم أو مبادرة وتوجيه للنبي بقتل كل أسير يقع بين يديه !!، إذن فحصر مفهوم النص بمعنى أفتراضي غير صحيح، يؤكد لنا ويُضيف بأن خبر طلحة بن زيد لا يجب أعتماده ولا الأخذ به تحت أي مسوغ، وهو مردود في الجملة والتفصيل وقد مر بنا ضعفه وتهالك سنده ولهذا فما يؤوسسه ساقط من الإعتبار أكيداً.

تنويه:

ومن بعد هذا الذي ذكرناه، هل يصح الإعتماد على الخبر المذكور والتأسيس عليه؟، وفي الجواب: لا بد من القول إن مجموعة من الفقهاء ممن لا يستهان بهم، أعتمدوا وتبنوا في فتاواهم خبر طلحة بن زيد، من دون مراجعة أو نظر وتحقيق تامين، ومن بين هؤلاء:

1 - الشيخ الطوسي حيث قال: - الأسير على ضربين، ضرب يؤسر قبل ان تضع الحرب أوزارها، فالإمام مخير بين شيئين، إما ان يقتله أو يقطع يديه ورجليه ويتركه ينزف (حتى يموت)، وأسير يؤخذ بعد ان تضع الحرب أوزارها فهو مخير بين ثلاثة أشياء: - ألمنّ، والإسترقاق، والمفاداة -، وقال الشافعي: - هو مخير بين أربعة أشياء، القتل وألمن والمفاداة والإسترقاق (ولم يّفصل)، وقال أبو حنيفة: - هو مخير بين القتل والإسترقاق دون ألمن والمفاداة ..، قال الطوسي: - وأما دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير (يعني تهذيب التهذيب) - الخلاف ج2 ص 332، وفي المبسوط ج 2 ص 20، وفي النهاية ص 296، وفي الجمل والعقود ص 158، وفي الإقتصاد ص 315 ..

2 - والقاضي أبن البراج حيث قال: - الأسارى على ضربين، أحدهما ما يجوز أستبقائه، والآخر لا يُستبقى .. والذي لا يُستبقى هو كل أسير أخذ قبل تقضي الحرب والفراغ منها .. - المهذب ج 1 ص 316 .

3 - وقال أبن حمزة في الوسيلة: - الرجل ضربان، إما أسر قبل إنقضاء القتال أو بعده، فالأول: إن لم يُسلم كان الإمام مخيراً بين شيئين قتله وقطع يديه ورجليه وتركه حتى ينزف .... - الجوامع الفقهية ص 695 .

4 - وقال كاشف الغطاء: - أما البالغون العاقلون فإن أستولى عليهم والحرب قائمة قتلوا .. - كشف الغطاء ص 406 .

5 - وقال صاحب الجواهر: - الذكور البالغون يتعين عليهم القتل، إن أُسروا وقد كانت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها .. - الجواهر ج 21 ص

122 .

6 - وقال أستاذنا المنتظري المعظم: - لا خلاف بيننا في القسم الأول، في تعين القتل وحرمة الإبقاء .. - الحكومة الإسلامية ج 3 ص

263 .

هذه أقوال منتخبة لمجموعة من المتقدمين والمتأخرين ورأيهم في هذه المسألة المعتمد على خبر طلحة بن زيد، ولا يخفى أن هناك علماء كبار ممن سبقوا هؤلاء قالوا بعدم قتل الأسرى، ومن بين هؤلاء:

أبن أبي عقيل العُماني الذي قال: - إذا ظهر المؤمنون على المشركين فاستأسروهم، فالإمام في رجالهم البالغين بالخياران إن شاء أسترقهم وإن شاء فاداهم، وإن شاء مَنّ عليهم .. قال تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى غذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) - المختلف ص 331، ولم نجد فيما قاله أبن أبي عقيل عن قتل للأسرى لا من قبل ان تضع الحرب أوزارها ولا من بعد ذلك، وقد ذكر ذلك صاحب الجواهر نقلاً عن أبن الجنيد الإسكافي ج 21 ص 122، ولو أفترضنا جدلاً إن حجة القائلين بالقتل هو - الإجماع - الذي ذكره الطوسي وأستاذنا المعظم، لكننا في الوقت نفسه نرفض فكرة الإجماع هنا من الأصل، طالما كان مستند الإجماع لدى الطوسي ومن تبعه هو خبر طلحة بن زيد الذي مر بنا وقد فصلنا في حاله فلا نعيد، والظن الغالب إن الطوسي كغيره من الفقهاء يذهب أحياناً للإعتماد على التسامح، مع إنها فكرة لا تصح هنا، ربما تكون معتبرة في أدلة السنن والأخلاق، ولكنها لا تصح البتة في المسائل الفقهية والكلامية قطعاً، ثم ان الشيخ الطوسي من عوائده انه يميل إلى التسامح كثيراً، وهاكم أنظروا إلى كلامه في كتابه عدة الأصول حيث يقول: - ما يرويه المتهمون والمضعفون، إن كان هناك ما يعضد روايتهم ويدل على صحتها وجب العمل به، وإن لم يكن هناك ما يشهد لروايتهم بالصحة وجب التوقف في أخبارهم - عدة الأصول ص 382، وإن أعتبرنا ما قاله الطوسي هذا وتمسكنا به، فيلزم بناءاً عليه عدم الأخذ برواية طلحة بن زيد أو البناء عليها، لضعفها وتهالكها ومخالفتها للكتاب المجيد والعقل الفطري الصحيح ولا حتى مع السنن المعتبرة الصحيحة، وهذا من باب أولى ان يكون الطوسي أول الرادين على طلحة بن زيد بدل ان يتبنى إنعقاد الإجماع على خبره الفاسد .

ثم إن الشيخ الطوسي وبحسب ما ذكره في الخلاف قال (يقطع يديه ورجليه) مع إن النص يقول (يقطع من خلاف ..) ومعنى ذلك أن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، لا كلا اليدين والرجلين معاً، لأن ذلك نوع من التشفي والغلظة المستقبحة، والتي تسمى في أدب الكتابة - القتل صبرا -، وهذا ممنوع حتى في البهائم والعجماوات، ثم إن القتل لم يأت على نحو لازم وتعبدي حتى لا يجوز الفرار منه إلى غيره من الأحكام .

وبالختام: تبدو عملية فهم النصوص والتأسيس عليها مسألة شاقة، وتحتاج للكثير من التأني وضبط النفس والتحلي بروح المسؤولية، وليس هناك ثمة إجازة فيما نعلم تبيح الأخذ او التساهل أو التسامح من غير دليل ثابت محكم ورصين، وآية المُحارب كما غيرها أصابها ما أصابها من فهم نَزَلَ من قيمتها وحددها وحصرها في معنى ليس هو المعنى المطلوب، ولعلنا في بحثنا هذا قمنا بما نعتبره جزءا من مسؤوليتنا الدينية والأخلاقية، في البحث والتحقيق راجين الفائدة التي هي مطلبنا بعد رضا الله، كما نرجوا ان نجد فيما كتبنا ودونا آذان واعيه وعقول تستمع القول فتتبع أحسنه ..

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم