صحيفة المثقف

بؤرة شعرية حرّة في زمن الحجر

ياسمينة حسيبي3في زمن الحجر، كتبت فاطمة الزبيدي كي تكسرقيود الروح، تحولت إلى "بؤرة حرية" ،

دخلت إلى نفسها بحرص ودراية ثم خرجت منها بمغامرة إبداعية هيعبارة عن نصوص قصيرة /مكثفة تضيف الكثيرإلى تجربتها الرصينة في الإبداع والتجديد.

ولست أعرف شاعرة كفاطمة الزبيدي- تحث الخطى في مسافات العمر لتمسك بالواقع وتحيله تجربة شعرية جديرة بالثناء؛ لست أعرف شاعرةمثلها تحاور ذاتها بشفافية و تتجلى عبر المفردة الشعرية المنتقاة منخلال ثيمات شعرية متنوعة في استمرارية  إبداعية تُحسد عليها.

في زمن الحجر، استطاعت الشاعرة أن تسبر دواخلها بطريقة"مختلفة"،  إعتمدت على بديهيتها الشاعرية لتشتغل لغويا وشعرياعلى ثيمة "الحجر الصحي" من خلال نصوص سهلة/ممتنعة اخترقتأرواحنا ببساطة مفرداتها وعميق معانيها وكأنّما الشاعرة تستقوي برقيقمشاعرها على واقع مظلم وقاتمِ المعالم.

فالحجر لم يسلُبِ الشاعرة حريتها الإبداعية بل على العكس حولها الى"بؤرة حرية" تسافر في كل مكان بخيالها الشعري الواسع وتلتقط صورًاناضجة في الإيحاء لواقع جديد فرَضه الوباء و"تساوت فيه المخلوقات " بفعل الخوف وبفعل الضعف الإنساني أمام المجهول "العادل" على حدّقولها.

تقول الشاعرة :

في الحظرِ ...

أنا بؤرةُ حرية ...

الهواءُ موبوءٌ  ...

وحمى تعتري لُغتي

قيثارتي مبحوحةُ البوّحِ

كورونا عادلٌ كالليل

تتساوى فيه المخلوقات

ويُلبسهم لونَهُ الموّحد .

فاطمة التي تعي الفرق بين الوجود والتواجد، عوّدتْنا على انتقاء مفرداتهابوعي شعري يُشهد لها ، فهي تشحن لغتها بمقومات جمالية ودلاليةوتكشف لنا -في كل نص- عن تقييمها الشخصي لمفهوم النص المتجددبقوة الواقع ولهذا استطاعت في هذه النصوص "المكثفة/المختلفة" أنترسم لنا صورة شعرية في المفاد الضمني لمشاعرها كامرأة/شاعرة من زمن كورونا .

لقد قررت الشاعرة أن الكتابة في زمن الحجر ستكون "مختلفة" وأنعملية بناء النص ستنطلق من ذاتها الشاعرة "البدائية" في رسم وتلوينحقيقة واقع جعلها تعود أدراج الطفولة وكأنّها تريد أن تؤرخ " لتجربة" جديدة شعريا أو كأن وقْع الوباء جعل روحها الشاعرة تهرب بالنصالشعري إلى منطقة  "غير موبوءة"حيث أطلقت ذاتها لطاقة البوح وجعلتالمسافة تضمحل بينها وبين القارئ -رغما عن الحظر - كي تشاركه  وعبرالشعر أدق التفاصيل من يومياتها المحجورة.

تقول الشاعرة:

في الحظرِ …

أصافحُ الصبحَ ، أكتبُ على شفتيه :

       شكراً  (كورونا )

أجلستني -  وأنا في السبعين  - على خشبةٍ الفصلِ من جديد …

لملمتُ أطرافَ قراطيسي  ، احتضنتُ قلمي ، ممحاتي ، ومبراتي

        الأحضان تخاصمت محظورة

ثم انتزعتُ فتيلَ القبلة ِ ،  ألحقتُ الباء بنون  …

 أمست محظورة هي الأخرى

تراقصت فراشاتُ عشقي ، تقبّلُ ألواني

وعلى وسائدي نقشتْ حقلَ خُزامى

                    أكرعُ عطرها … لأنام .

الشاعرة تعرف دور المفردة  في بناء الصورة الشعرية ولهذا تختارها فقط عندما تتجمع حواسها الخمس حول القلب فتأتي نصوصها تزاوجا جميلا  بين حسّها الإنساني الفريد وحسها الشعريالمتفرد ذلك لأنها -كشاعرة- تتميز بالفطنة أولا وبالمصداقية ثانيا  فينقل  "الحدث اليومي " الى مستوى الشّعر .

تقول سليلة الشعر:

في الحظرِ …

أُسَّرِحُ  جدائلَ المساءِ …

أُرْخي  ستائرَ الذكريات  …

أغرَقُ في بئرِ أحلامي التي سرقها (صينيٌّ) نَهِّمٌ

وأوقَدَ شعلةَ الفايروس  في أركانِ عِشّقي  …

 عِشقي لأحفادي الذين لم أُقَبلْهُم منذُ دَهرٍ وكورونا

مَنْ يُطفيءُ  غَلياني  ، ومطبخي أضاع  ( الشّخاط أبو النجمة)؟

وطفاية الحريق استعارها جاري مُذ كان هناك صلة قُربى  …

ولَمّة الجارات حول صينية ( الچاي وكعك ) …

                         و ……… ( أبو الحليب يابقصَم)

 

وهنا تتجلى قوة الانصهار مع الحدث : مفردات يومية/ومشاهد اجتماعية أثْرت بنائها للنص ونهضت بمكنوناته مع العناية بكثافة الصورة، مفرداتوظفتها الشاعرة في التقاطات شعرية ممهورة بالتجربة الشخصية حيثتشكل الذاتية أهم المصادر الإلهامية.

فــ  "الصيني" في زمن الكورونا - وبعيدا عن التجنيس والتّسْيِيس  - يشكل بالنسبة للشاعرة رمزاً لعوالم سقطت من أعلى البرج وأبانت عنضعف بشري كبير  وعن اختلال في كل المفاهيم وهذا ما دونته الشاعرة عبر تأسيسها لتراجيديا الحدث.

أما " كورونا البشعة" التي أتت على الأخضر من الخيال الشعري عندالكثير من الشعراء؛ فقد تعاملت معها الشاعرة بفطنة وذكاء بُغية التجديد والاستمرارية وسخّرتْها _وبقوة _ لمشاعرها كعراقية، كشاعرة، كأم، كجدة ، وكـجارة في التعبير عن مرحلة حساسة ومختلفة من حياتها اليومية والمجتمعية/الإنسانية.

تقول الشاعرة:

في الحظر

أخاصمُ الوقتَ فهو هاربٌ محتال

أقتنصُ من كواليسِه  ما  أحب …

أُقَيدُ معصميه ،  وأكتبُ نصاً في هجاء  (كوڤيد 19)

ثُمَّ أَتراجعُ …  وأكتبُ :

                    شكراً كورونا .

صديقتي تهاتفُني كلَّ  صباح 

 بعدَ أن تَصمتَ اللغةُ  … تتكلمُ الدموع :

تعاليّ نلتقي مصادفةً على مائدةٍ فكرة …

  سأهديكِ كمامةً من انزياحاتِ قصائدي

وأعلقُ على جيدِكِ بلاغةً ضدَ العدوى

في هذا النص المكثف… نلمس خبرة الشاعرة في التوظيف الشعري.

فحين أصبح الناس يتناقلون سيرة الملل في الحجر، نجد شاعرتنا قد تفاعلت مع الوقت  عبر علاقة حسية/انفعالية تجلت في نصّ نابض، متحرك بحركة مشاعرها حيث أن الشاعرة تمتلك القدرة علىالتعامل معه وتعرف تماما ما يجب ان تفعله تجاه هذا  "الوقت الموبوء" والمحجور عليه فأسقطت عليه مشاعرها المتضاربة بين هجاء ومدح ولاغرابة فالشاعرة تدرك تماما أن "كورونا" التي كشفت ضعف الكائن البشري في مواجهة فيروس لا يُرى بالعين المجردة هي نفسها التي أعادتِ البشر أدراج الانسانية على مستوى العلاقات الاجتماعية.

ومن المدهش حقّا أن نجد نصا قصيراً ومكثفاً يحتوي على هذا الزخم من المشاعر -كمنطقة  تمثّل الروحي- وعلى هذا الكمّ الهائل من المعلومات-كمنطقة  تمثّل المادي في الحدث- كما وأنّ استعمال مفردات من زمن الوباء (كوفيد ١٩،كورونا ، كمامة، عدوى) لم تُفقد النص شاعريته بلأبانت عن مقدرة الشاعرة في الموازنة بين تقارباتها الروحية وبين مايجري حولها من أحداث يومية.

لذا يمكن القول بأن فاطمة الزبيدي الشاعرة لا تحب العزف منفردة، ولاتحب الانسلاخ عن اليومي حين تشتد مرارة الواقع فهي لا تنفكّ تطرح رؤاها ومشاعرها تجاه الأحداث وتجاه حركة الحياة لتبرهن بان الشاعر له القدرة على ابتداع لغته من الواقع -أيضاً- بما يتناسب مع الظروف والأحداث بل وأنّ بناء بعض النصوص الشعرية  يجب أن يأخذ بعين الإعتبار مستويات معينة من الطرح والتلقي.

فالشاعرة، وإن كانت وفيّة لتجربتها الحياتية إلا أنها تعي تمام الوعي بمتطلبات النص الشعري الحديث بل وتبرع فيه بكل العمق والجمال وتجربتها الشعرية في " الحجر الصحي" هي استلهامات تنمّ عن ذكاء شعري في التقاط الفكرة عبر  تقنية الكثافة والتركيز في القول ، ذكاء يؤكد أننا أمام شاعرة متميزة تجعل الشعر طوع موهبتها الشعرية الموسومة بالإبتكار والتجديد. 

فتحايا المحبة والاعجاب لشاعرة الوفاء والتميز فاطمة الزبيدي ومتمنياتي لها بالمزيد من النجاح والابداع.

 

ياسمينة حسيبي

(انطباع شخصي)

١٤/٠٦/٢٠٢٠

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم