صحيفة المثقف

منظرو الاقتصاد: ليون فالراس

قاسم حسين صالح(1834 – 1910)  Le’on Walras

هو الاقتصادي الفرنسي اللامع الذي لم يدرس الاقتصاد في اي جامعة او معهد اكاديمي لكنه درسه بعمق دراسة ذاتية. وهو ثاني الاقتصاديين الثلاثة الذين تنسب اليهم "الثورة الحدّية"، اضافة الى الانكليزي وليم ستانلي جيفنز والنمساوي كارل منگر. تميز فالراس عن زميليه بمساهمته الكبرى في استنباط وارساء نظرية التوازن الاقتصادي العام   General Equilibrium. فلم يهتم أي اقتصادي سابق لفالراس بسؤال كيف يتم للنظام الاقتصادي الواسع بكل سلعه المتعددة واسواقه المختلفة ان يتوازن فعليا وليس افتراضا كما كان مسلما به ليد آدم سمث الخفية وتلقائية فلسفة "دعه يعمل دعه يمر"  Laissez-Faireالى ان لمعت فكرة الجواب في رأس فالراس فتصدى الى اتخاذ الخطوات الاولى على طريق الحل الذي سيأخذ مراحل عديدة من اجل ان يكتمل. لقد اعتقد فالراس جازما بأن توازن الاقتصاد ككل ممكن ان يتحقق عن طريق المعالجة الرياضية لايجاد اسعار وكميات توازن كل السلع المتداولة في الاسواق. وقد ساعده في الاهتداء الى ذلك اهتمامه وحماسه الاستثنائي للمنهج التكنيكي رغم انه لم يتخصص في الرياضيات لكنه درسها مليا كما انه اعتمد في احايين كثيرة على مساعدة زملاء متخصصين مثل پول بيكارد.  كان فالراس يدرك كل الادراك بأن التوازن المزمع تحقيقه رياضيا على الورق سوف لن يكون بالضرورة دليلا على تحققه الحرفي في الواقع لكن المغامرة جديرة بالخوض وستهئ مفاتيح كثيرة للمضي قدما في ذلك الاتجاه.

1568  فالراسولد فالراس عام 1834 في منطقة ايفرو الفرنسية، وكان والده اقتصاديا يعمل في ادارة التعليم. أنهى فالراس دراسته الابتدائية والثانوية محليا وتقدم للقبول في الكلية البوليتكنيكية التي كانت تشترط امتحانا شاملا في العلوم والرياضيات من اجل القبول.  ولكن بدلا من ان يدرس متطلبات الامتحان المحددة، استهوته مواد اخرى فانكب على دراسة المثلثات التحليلية وحساب التفاضل والتكامل والميكانيك عند ديكارت ونيوتن ولاگرانج، وبذا فقد فشل في اجتياز الامتحان والحصول على القبول في الكلية البوليتكنيكية، لكنه حصل على قبول في كلية اخرى هي كلية هندسة المناجم،  التي ضاق ذرعا بمناهجها وبيئتها بعد شوط قصير فتركها ولم يعد للدراسة في اية كلية اخرى. أمضى فالراس ردحا من عمره  كشاب بوهيمي في باريس متنقلا من عمل لآخر. فقد جرب الصحافة والادب والنقد الفني وعمل في المناجم وادارة البنوك ولم يستطع ان يستقر في أي من هذه المجالات ويتخذها كمهنة احترافية له!  وذات مساء في عام 1858 وعندما كان يرافق والده في فاصل مشيه المعتاد، وبعد محادثة طويلة قرر ان يتجه الى الاقتصاد كأهتمام مركزي. كان متجاوبا مع فلسفة والده ومتحمسا لميوله الاشتراكية ومؤيدا لموقفه باعتباره أحد الحديين الاوائل. كما انه وجد الرغبة لدراسة ابحاث الرياضي أوگستن كورنو   Augustin Cournotالذي كان زميلا لوالده والذي تنسب اليه المحاولات الاولى في ادخال الرياضيات كأداة تحليلية في القضايا الاقتصادية. بعد سنوات كتب فالراس يقول انه وجد في حقل الاقتصاد ضالته التي جعلته يشعر بالمتعة والرضا كما يشعر الرجل المؤمن بدينه. وهكذا كرس نفسه لدراسة الاقتصاد وبدأ يكتب وينشر المقالات التي للاسف لم تلق اي اهتمام من قبل بقية الاقتصاديين. في عام 1860 اشترك ببحث في المؤتمر العالمي للضرائب الذي عقد في لوزان - سويسرا. ولم يثر البحث الانتباه الا عند تقديمه شفهيا من قبل فالراس، فقد حاز على استحسان كبير من قبل بعض المؤتمرين ودعاهم ان يعرضوا عليه وظيفة تدريسية في اكاديمية لوزان. وهكذا فقد بقي في لوزان كتدريسي لمدة عشر سنوات حتى عام 1870 حيث استُحدث قسم الاقتصاد في كلية القانون فكانت فرصة مواتية له ان يقدم طلبه. تألفت لجنة المقابلة من ثلاثة اساتذة في الاقتصاد واربعة اداريين/ سياسيين. اثنان من الاساتذة رفضوه بسبب ميوله الاشتراكية ودعوته آنذاك الى الغاء الضرائب وتأميم الارض، وثلاثة من السياسيين قبلوه بسبب منهجه التكنيكي البعيد عن السياسة. وهكذا فقد حصل على اربعة اصوات من سبعة فحاز بمنصب الرئيس الاول لقسم الاقتصاد في لوزان. 

في عام 1874 نشر كتابه الهام بعنوان "مبادئ الاقتصاد البحت" الذي قدم فيه مساهمته المركزية لعلم الاقتصاد وهي نظرية التوازن الاقتصادي العام. ومن اجل شرح هذه النظرية استنبط فالراس تجربة عملية للاختبار، فبدأ عمله بافتراض اقتصاد مصغر متمثل  في سوق واحدة يتم فيها تبادل سلعتين فقط بين فريقين من المشترين (المستهلكين) والبائعين (المنتجين) الذين يتنافسون بالمزايدة والمناقصة الحرة لحين وصولهم لسعر التوازن الذي يرضي الطرفين، آخذين بنظر الاعتبار ان قيمة كل سلعة انما تتحدد بموجب منفعتها الحدية لكل منهما. تبدأ المنافسة في هذه السوق الافتراضية باعلان سعر اولي لسلعة معينة لاطلاق منافسة المستهلكين على الشراء بأقل مايمكن وكذلك منافسة المنتجين أو التجار على البيع بأعلى مايمكن الى ان يصار الى اتفاق الطرفين على سعر معين. وبذلك تهيأت فرصة مراقبة سلوك المستهلكين وعدد المستعدين منهم لشراء سلعة معينة بسعر معين وكذلك مراقبة ردود فعل البائعين واستعدادهم للبيع بذلك السعر. فكان واضحا انه اذا ازداد عدد اولئك المستهلكين المستعدين للشراء(جانب الطلب)،  ارتفع السعر، واذا ازداد عدد البائعين المستعدين للبيع (جانب العرض)، انخفض السعر. كان فالراس قد استنتج بانه في نهاية المطاف ستتساوى قيمة المصروفات الاجمالية مع قيمة المبيعات الاجمالية في تلك السوق، وهذا ماسمي بعدئذ ب "متطابقة فالراس"  . Walras Identity

بعد ذلك قام فالراس بتوسيع نطاق تجربته لسلع اكثر واسواق اكثر، فاكتشف ان لكل عدد من السلع المتبادلة سيكون هناك معدل سعر تبادل مشترك لايقدم ولايؤخر بحيث يمكن اهماله، ولذلك فان عدد نسب اسعار التبادل Price ratios  سيكون اقل بواحد (n-1)  من عدد السلع المتبادلة ( (n. كما انه ادرك ان القيمة الاجمالية لكل السلع المطلوبة ستساوي القيمة الاجمالية للسلع المعروضة للبيع في كل الاسواق. أي انه لو كان هناك فائض في الطلب على سلعة ما سيكون له بالمقابل فائض في عرض سلعة اخرى، مما يمكن الاستدلال منه بأن القيمة الاجمالية الصافية لفائض الطلب في كل الاسواق ستكون مساوية رياضيا الى صفر، وهذا ماسمي بعدئذ ب "قانون فالراس" Walras Law.  كما يمكن الاستدلال بأن نسبة اسعار المشتريات ستكون مساوية لمعكوس نسبة كمياتها.

ومن اجل الوصول رياضيا الى حالة التوازن العام، صمم فالراس أربع معادلات متزامنة   Simultaneous equations وشرع في حلها:

- المعادلة الاولى لكميات السلع المطلوبة

- المعادلة الثانية لاسعار السلع نسبة الى كلف انتاجها

- المعادلة الثالثة لكميات مدخلات الانتاج المعروضة

- المعادلة الرابعة لكميات مدخلات الانتاج المطلوبة

على ان تحل هذه المعادلات فتسفر عن استخراج قيم المجاهيل الاربعة وهي سعر كل سلعة وكميتها، وسعر كل مدخل انتاجي وكميته. وكان فالراس قد اضاف معادلة خامسة تقضي بأن النقود المتوفرة (الدخل) ينبغي ان تصرف بكاملها. وبهذا يكون قد جعل عدد المعادلات اكثر من عدد المجاهيل خلافا للقانون الرياضي، مما دفعه ان يختلق، افتراضا ، سلعة اعتباطية سماها G1 واختار لها سعرا قياسيا يتم بموجبه مقارنة الاسعار الاخرى، وهذا ما أُطلق عليه ب Walras Numeraire الذي اصبح شائعا بعدئذ كوحدة قياس.

كانت لفالراس مساهمات اخرى غير نظرية التوازن العام. فقد ناقش نطاق علم الاقتصاد ونظرية القيمة ودور الرياضيات في فهم وتقدير وتقييس الظواهر الاقتصادية، ونظرية الانتاج عبر التكنولوجيا الثابتة والمتغيرة، ورأس المال والادخار والائتمان والنقود، والنمو الاقتصادي، والمنافسة والاحتكار. لقد اكد فالراس ان تجاربه التطبيقية كانت من أجل الاختبار العلمي للمسلمات كنظام المنافسة الكاملة وفكر "دعه يعمل دعه يمر"  الذي تبناه الاقتصاديون الكلاسيكيون كمفهوم وفلسفة من دون أي اختبار لمدى صحته ومصداقيته. ومن هنا يأتي طبيعيا ادراك فالراس بأن السلع المختلفة والاسواق المتعددة لابد ان تكون متداخلة الارتباط وشائكة العلاقات خاصة بتعددها وتنوعها لكن تلك العلاقات المعقدة يمكن تمثيلها بمعادلات رياضية واستخراج حلولها. وهذا مايفسر افتتان فالراس بالحلول التكنيكية الرياضية مما جعله رائدا في الاقتصاد الرياضي الذي يستخدم الارقام والبيانات ويهتم بحسابها وتقييمها فيحول طبيعة الاقتصاد من وصفي الى تطبيقي تكنيكي.  وكمكمل لكتابه "مبادئ الاقتصاد البحت"، اصدر فالراس جزئين آخرين احتويا على دراسات سابقة منقحة ومزيدة، كان الجزء الاول منها عام 1896 بعنوان " دراسات في الاقتصاد الاجتماعي" ، والثاني عام 1898 وكان بعنوان"دراسات في الاقتصاد التطبيقي".

لم تلق مساهمات فالراس الهامة الاهتمام المتوقع ولم يأخذ هو المكانة التأريخية التي يستحقها إلا بعد مماته بعقود وخاصة خلال الثلاثينيات من القرن العشرين. كان ذلك لاسباب عديدة منها ان ثقل الفكر الاقتصادي والحراك النظري كان في انكلترا وليس في فرنسا او سويسرا، أضف الى ذلك ان كل كتابات فالراس كانت باللغة الفرنسية ولم تترجم الى الانكليزية أوالى لغات اخرى الا بعد زمن طويل على رحيله. السبب الآخر هو ان عمله كاستاذ ورئيس قسم الاقتصاد كان في كلية القانون حيث تدرس الاغلبية من الطلاب ليتخرجوا كمحامين وقضاة وليس كأقتصاديين، فلم يعير جلهم اي اهتمام للاقتصاد الا بقدر كونه درسا ثانويا. ولهذا فقد اصاب فالراس الاحباط فتقاعد عن العمل بعمر 58 عاما رغم انه استمر في نشاطه الفكري خلال الثمانية عشرعاما اللاحقة. ومما خفف عليه كثيرا هو انه قد وجد ضالته في خلفه كرئيس للقسم، الاقتصادي الايطالي القدير وليفريدو پاريتو  Vilfredo Pareto الذي ترأس القسم عام 1893 وعمل مع فالراس يدا بيد ليشكلا تراثا فكريا متميزا سمي فيما بعد بمدرسة لوزان في الاقتصاد.

كانت السنوات الاخيرة من حياة فالراس كئيبة ومثقلة بالمرارة والخيبة والخذلان رغم وجود شذرات مضيئة قليلة كذيوع شهرته، اخيرا، في سويسرا وحصوله على المواطنة فيها وكذلك قبوله كعضو فخري في جمعية الاقتصاديين الامريكية عام 1892. توفي فالراس عام 1910 بعمر 66 عاما وهو يصارع مرضا عقليا أتلف من عمره عدة سنوات!

 في كتابه " تاريخ التحليل الاقتصادي" الصادر عام 1954 وصف الاقتصادي الشهير جوزيف شومبيتر فالراس بانه "اعظم الاقتصاديين" ووصف نظريته في التوازن الاقتصادي العام بانها "وثيقة الاقتصاد العظمى" Magna Carta of Economics.

أما الاقتصادي يورگ نيهانز فقد وصف فالراس في كتابه "تاريخ النظرية الاقتصادية" قائلا "برغم ان فالراس لم يضيف للاقتصاد أي رؤيا جديدة لكنه قدم مساهمة عملاقة على طريق بناء الموديلات الاقتصادية الرياضية.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم