صحيفة المثقف

إلتباس مفهوم مدنية الدولة

عبد الجبار الرفاعيالتفكيرُ في الدولة الحديثة لدى الجماعاتِ الدينية يستوحي البنى القديمة لمرحلة ما قبل الدولة في تاريخنا، ويحيل إلى ميراث دولة الخلافة وغيرها في عالَم الإسلام، لذلك افتقرت أدبياتُ هذه الجماعاتِ إلى مفاهيم ومصطلحاتِ ولغة الدولة الحديثة.

لا أتذكرُ في ما أطلعتُ عليه من كتاباتٍ سرّية ومُعلَنة لهذه الجماعات لغةً تتكلّمُ مفاهيمَ ومصطلحاتِ دولة حديثة. وكنتُ أظنّ بأنهم أعادوا النظرَ بلغتهم بعد أن تسلّموا السلطةَ في دول عدّة، لكني راقبتُ كتاباتِ وأحاديثَ بعض قادة العراق من الإسلام السياسي بعد 2003، التي تُنشر وتُبثّ على الهواء مباشرة، فقلما أقرأ أو أسمع فيها تكرّر كلمات: الوطن، الوطنية، المسؤولية الوطنية، الدولة، بلاد ما بين النهرين، حضارة الرافدين، العراق، حضارة عراقية، وغيرها.

وما كنتُ أقرأه وأسمعه لغةً تغرقها مصطلحاتُ كلامية وفقهية: واجب شرعي، تكليف شرعي، مسؤولية شرعية، وظيفة شرعية، حرام، وجوب، أمر بمعروف ونهي عن منكر، بيعة، وغيرها من كلمات تحيل إلى مصطلحات المتكلّمين والفقهاء ومؤلّفات الأحكام السلطانية.

وقد أثار استغرابي حديثٌ سمعته لأحد هؤلاء الزعماء مع مجموعة من الأساتذة الجامعيين ببغداد بهذه اللغة، فتكلّمتُ مع مستشار مقرّب منه، وقلت له: من الضروري أن يعيدَ صاحبُك النظرَ في لغته، لأنه اليوم ليس واعظًا يلقي عظتَه بمسجد او قارئ تعزية، بل هو قائدٌ يمثّلُ كلَّ العراقيين بمختلف معتقداتهم وانتماءاتهم وإثنياتهم.

إن ثقافةَ الوعظ غير فكر الدولة الحديثة. فكرُ الدولة يبتني على نظريات الدولة وآراء المفكرين السياسيين في أسسها وأنواعها ونظمها، وكيفية بنائها في سياق معطيات الواقع، ونسيجِ شبكات المصالح المعقّد والمتحرّك، ومهاراتِ التسويات البراغماتية، بينما ثقافة الوعظ تبتني على مُثُلٍ وقيمٍ وأخلاقياتٍ عامة، وأحكامٍ فقهية تقوم على نظرية التكليف.

إن العملَ بموجب منطقِ التكليف بمفهومه في علم الكلام في المجال السياسي لا يبني دولةً حديثة، بل غالبًا ما ينتهي إلى نتائج تُخرّب الحياةَ السياسية، وتهدم الدولةَ الحديثة، ذلك أن للفعلِ المكلف به العبد، على وفق منطق التكليف، نتائجَ تنتهي أحيانًا إلى الضدّ من مصلحة الوطن والمواطن، ولا تسهم في بناء الدولة. المكلفُ بالتكليف الشرعي مسؤول أن يبرئ ذمتَه من التكليف، بقطع النظر عن نتائجِ الفعل وآثارِه. لذلك نجد أكثرَ قادة الإسلام السياسي في السلطة يكرّر هذه المقولة: يهمني إداءُ التكليف الشرعي، وابراءُ الذمة أمامَ الله من الفعل المكلف به، لأنه يعتقد أنه مسؤولٌ أمام الله، ومن ينوب عنه من الخلفاء. وقلما نسمع من يقول: مسؤوليتي حيالَ الوطن والمواطن تفرض عليّ العملَ من أجل مصلحة الوطن والمواطن، والسعيَ لاستثمار كلّ الامكانات والفرص المتاحة من أجل بناءِ الدولة واسعادِ المواطن. أما في الدولة الحديثة فكلُّ من هو في السلطة يعتقدُ أنه مسؤولٌ أمام المواطن والوطن، لذلك ينهضُ بوظيفته في تأمين متطلبات المواطن والوطن المسؤولِ عنها.

الهروبُ من تسميةِ الاشياءِ بأسمائها إحدى المشكلات العميقة في الإسلام السياسي في العصر الحديث، فهناك تسمياتٌ متنوّعة للدولة التي ينشدونها اليوم تستعمل كلمات براغماتية ملتبسة، على الرغم من إيمان كلِّ هؤلاء بأن الدينَ يهدف إلى بناءِ دولةٍ في سياق مدوّنتِه الفقهية وأحكامِها. ويختلف دعاةُ هذه الدولة، فمنهم من يتبنّى النموذجَ الذي ظهر في تاريخ الإسلام على شكل: خلافة إسلامية، دولة إمامة، سلطنة إسلامية، دولة إسلامية، إمارة إسلامية. وربما نفى بعضُهم مشروعيةَ تمثيل هذه الدول للدين، فخصَّ بذلك الخلافةَ الراشدةَ مُلحِقًا مدّةَ خلافة عمر ابن عبدالعزيز في العصر الأموي أيضًا، أو رأى بعضٌ آخر أن دولةَ الإسلام مثّلتها دول خلافة وسلطنة أخرى. كما تشير إلى ذلك أدبياتُ الجماعات الدينية، على اختلافٍ بينها في ضيق وسعة صدق هذه العناوين على كلِّ هذه الأمثلة أو بعضها، لذلك يدخل بعضُهم كلَّ هذه الدول فيما يقتصر آخرون على بعضها.

لكن بعد تحدّي الدولة الحديثة وكلِّ ما تعدُ به، من تمثيلٍ شعبي وانتخاباتٍ وتداولٍ سلمي للسلطة، وفصلٍ بين السلطات، وغيرِ ذلك من مكاسب مهمّة في الحقول المختلفة، اضطر الإسلام السياسي للانتقال منذ ربع قرن تقريبًا الى اقتراح أسماء بديلة، مثل: دولة الإنسان، الدولة الحضارية، الدولة المدنية... وغير ذلك. وأكثر هذه التسميات شيوعًا في خطابات وكتابات الجماعات الدينية أخيرًا هو "الدولة المدنية"، ولعل معظمَ من يتداولون هذه التسمية لم يدركوا مغزاها، ولم يتعرّفوا على سياقات ولادة مفهوم "المدنية" وتشكّله كمصطلح، ومتى وُصِفت الدولة به. الدولة لم توصف في أدبيات الفكر السياسي الحديث بالمدنية، ولا ينتمي هذا المصطلح إلى (مصطلحات الفلسفة السياسية القديمة أو الحديثة، فباستثناء ما نقرأه في عنوان كتاب الفيلسوف الانجليزي جون لوك: "مقالتان في الحكم المدني"، فإن كلَّ ما نقرأه في اللغات الغربية، الفرنسية والإنجليزية خاصة، هو الألفاظ الآتية: "الحالة المدنية"، ويقصد منها حالة المواطن المدنية، من حيث تاريخ الميلاد، ونسبه "الاسم واللقب"، والوضع العائلي. كما نجد استعمالًا لصفة المدني في أربع حالات، هي: المجتمع المدني أو المنظمات والجمعيات التي يشكّلها المواطنون في استقلال عن مؤسّسات الدولة. والقانون المدني الخاص بالحالات المدنية للأفراد. والأخلاق المدنية التي تقوم على مجموعةٍ من القيم التي يجب أن يتحلّى بها المواطنون في المجال العام. وأخيرًا التصنيف القائم على التمييز بين المدني والعسكري... إن الفكرَ السياسي الأوروبي قد استعمل هذا المفهوم في سياق الصراع بين التسامح والتعصّب، وبين الحرية والاضطهاد الذي عرفته الامبراطورية الرومانية في مرحلة اعتمادها للعقيدة المسيحية عقيدة رسمية)1 .

إن تسميات مثل: "دولة الإنسان، الدولة الحضارية، الدولة المدنية..." في خطابات وكتابات الجماعات الدينية اليوم ملتبسةٌ غامضةٌ، تشوّش فهمَ المتلقّي، وتصعّب عليه أن يتعرّف على دلالةِ كلِّ تسميةٍ وتوصيفِها بوضوح، وما الذي يحيل إليه الفرقُ بين النموذجين، فإن كان مقصودُ بعض الإسلاميين من مضامين هذه التسمياتِ: أن الدولةَ ظاهرةٌ إلهيةٌ وحيانيةٌ نبويةٌ، تبتني على الرؤية التوحيدية لعلم الكلام وأحكام المدونة الفقهية، ويقترح أمثلةً تاريخية لشرح هذا النموذج تمثّلت بالخلافة الراشدة والأموية والعباسية، والسلطنة العثمانية، ودولة الإمامة الزيدية، والإمامة الاباضية العمانية، فمن الواضح أن هذه التسميات لا تنطبق على الدول التي ظهرت قبل الدولة الحديثة.

وإن كان مقصودُ بعضٍ آخر من الإسلاميين من تسميات: "دولة الإنسان، الدولة الحضارية، الدولة المدنية..." هي الدولة الحديثة بكلِّ رؤيتها الفلسفية للإنسانِ والعالَم، ومرتكزاتِها النظرية، وهياكلِها التنظيمية والإدارية، فلماذا الاختباء خلف أسماء مبهمة، لا تعبّر عن الدولة الحديثة بصراحة، خاصة وان بعضَ الكتّاب والمتحدّثين من الجماعات الدينية يحشد كلَّ شيء يظنّه سببًا لبناء دولةٍ حديثةٍ تحت مظلة المسمّى الذي يستعمله، وغالبًا ما يطعّمه بشيءٍ من التوابل الدينية، كانتقاء بعض النصوص والفتاوى الملتقطة من المدوّنة الفقهية، وشيءٍ مما تحكية تمثّلاتُ السلطة في السياقات الإسلامية.

على الرغم من أن الذي يُفهَم من مضامين توصيفات النموذج الثاني أن الدولةَ ظاهرةٌ بشرية أنتجها الإنسانُ ولا علاقةَ لها بالوحي والأنبياء، وكلُّ ما هو بشري في السياسة والحكم لا علاقةَ له بالوحي. وهو ما لا يريده الكثيرُون ممن يتداولون هذه التسميات من كتّاب الأدبيات الدينية السياسية، كما تؤشّر إليه كلماتُهم. وهذه مفارقةٌ يقع فيها بعضُ دعاة الدولة الدينية، ممن يختبئون خلف تسميات تحظى بقبول أكثر المواطنين، بغية تسويقها، وفي محاولةٍ منهم للفرار من تركة النماذج الأولى للأسماء التي أفشلتها تجاربُ التطبيق اليوم، مضافًا إلى البراءة من تشوّهات أمثلتها في التاريخ.

وأود الإشارة إلى أن حديثي هنا هو بصدد الكشف عن الاستعمال الملتبس والفوضوي والمبتذل أحيانًا لمصطلح "مدنية الدولة"، الذي شاع لدى الجماعات الدينية أخيرًا، ولم أنشد التعريف بمعناه اللغوي، أو بحث تاريخ ظهور مصطلح "مدنية"، والسياقات التي اكتنفت نشأة وتطور دلالته في التراث الاسلامي، لذلك لم أتعرض لحضوره في التراث، لأنه خارج مقام البحث. وعلى الرغم من أن مصطلح "مدنية" مستعمل في مؤلفات الفيلسوف الفارابي وغيره من فلاسفة الاسلام، لكنه مشترك لفظي، إذ كان يستعمل في التراث بمعنى غير المعنى المستعمل فيه اليوم في أدبيات الإسلاميين.

علومُ الدين حقلٌ من حقول المعرفة العامة، وهي محكومةٌ بمنطق الخطأ والصواب وتطوّر الوعي البشري المحكومةِ بها المعارفُ والعلومُ كلّها. علومُ الدين التي تضعنا في أفق العصر وأسئلته ومتطلباته تبتني على مُسلّمات معرفية، مضمونها: لا نهائية المعرفة الدينية ولا أبديتها، وعدم بلوغ هذه المعرفة مدياتِها القصوى في أيّ زمان، وليس هناك أصولٌ وقواعد أبدية يمكن استعمالها لكلّ زمان في فهمِ الدين وقراءةِ نصوصه، فكلُّ عصر ينتج أصولَ فهمه للدين وقواعدَ تفسيره لنصوصه في سياق تطوّر علوم الإنسان ومعارفه.

لم يدرك أكثر دعاة الإسلام السياسي أن حركةَ التاريخ وتطورَ الوعي البشري تكفلان نسيانَ مفاهيم ونسخَ أحكام لبثت راسخةً لقرون. على الرغم من أنها على وفق منطق أصول الفقه وقواعد استنباط الأحكام وعلوم القرآن أحكامٌ أبديةٌ وليست منسوخة، تتسع لكل الحالات والأزمان. كما حدث مع الرقّ مثلًا، إذ كانت ظاهرةُ الرقّ متفشيةً في مجتمعات عالَم الإسلام، وما زالت أحكامُها ماثلةً في الآيات والأحاديث، ومنبثةً في مختلف أبواب كتب الفقه، لكن التاريخَ ألغى هذه الظاهرةَ ونسخ أحكامَها عمليًا. أي تعطلت دلالات أدلتها عمليًا، ولم تعد تطبق عليها قواعد استنباط الأحكام وأصول الفقه وعلوم القرآن، التي تثبت انها أبدية وليست مختصة بزمان أو حالة.

لاحظت أن أكثر الجماعات الدينية في السلطة تؤكد على مظلوميتها واضطهادها والتعسف في معاملتها من كل الأنظمة السياسية، وتتخذ من ذلك ذريعة لكل أشكال التمييز بين المواطنين، والسطو على المال العام، والانتهاكات الواسعة لحق المواطنة. وكأنها تطلب من الوطن تعويضًا لما تعرضت له، وإن كان لا مشروعًا، وإن كان يؤدي إلى انتهاكات شنيعة للقوانين وتخريبًا لأسس بناء الدولة وتبديدًا للموارد الاقتصادية وغيرها الضرورية للتنمية الشاملة والمستدامة. وكأنه مثلما يحتاجُ بعضُ الأشخاصِ لتمثيلِ دورِ الضحيةِ تعويضًا لما فاته من الاعتراف، بسبب ما تعرّضَ له من تهميشٍ واضطهادٍ في حياته، كذلك تحتاجُ بعضُ الجماعاتِ لتمثيل دور الضحية لتعويض ما فاتها من اعتراف، بسبب ما تعرضتْ له من تهميشٍ واضطهادٍ في تاريخها، ومثلُ هذه الجماعات غالبًا ما تتعاطى مع الوطن بوصفه غنيمةً، تجهز عليها وتفترسها، عندما تستحوذ على السلطةِ السياسيةِ.

 

د. عبدالجبار الرفاعي

..................

د. الزواوي بغورة: "في مفهوم الدولة المدنية"، مقال في مجلة العربي "الكويت"، ع 708 "نوفمبر، 2017".

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم