صحيفة المثقف

أزمة في قصور الثقافة.. بسبب "كورونا يحكم العالم"؟!

عبد السلام فاروققبل الاسترسال فى الرد على التقرير الخاص بكتاب (كورونا يحكم العالم) .. من الضرورى الإشارة للهدف والمغزى والباعث المنشئ لمثل هذا الكتاب، بالإضافة للصعوبات التى واجهتنا فى كتابته .

إن الكتابة فى مجملها خطاب جماهيري يهدف للتوعية من ناحية،وللتوثيق التاريخى من ناحية أخرى . وفيما يخص وباء كورونا، نحن أمام لحظة تاريخية فريدة كما أننا أمام مشهد وقف العالم أمامه فى ذهول وفضول واهتمام، وسيقف أمامه كثيراً لسنوات قادمة محللاً وفاحصاً . وكان لا بد من توثيق تلك اللحظة والحديث عنها من جميع جوانبها "العلمية، والاجتماعية، والإعلامية، وحتى السياسية أحياناً"  ونحن لا نزعم أن كتابنا هو الكتاب الأكمل، لكننا نستطيع أن نزعم أنه الكتاب الأول،حتى يثبت العكس، وهناك فيما يبدو مَن يريد تعطيل هذه الصفة لهذا الكتاب.

أعود لمسألة المغزى لأواصل القول بأن ما كُتب عن كورونا حتى اليوم "من مقالات ودراسات وتحليلات وتقارير " باستطاعته أن يتحول إلى عشرات الكتب كلها أكبر من كتابنا . هذه حقيقة يمكن أن يدركها أى صحفى أو مثقف مهتم بالمتابعة اليومية لوباء كورونا . لكن وقت القارئ من الأشياء التى ينبغى أن تُراعَى فيما يُكتَب للجمهور، هذا أمر بديهى . لقد كان من السهل الاستطراد والإطالة إلى حد الإملال والمبالغة إذا شئنا، لكن هذا بعيد تماماً عن الهدف من أى كتاب مهما كانت مادته. ونحن وضعنا الكتاب ليُقرأ لا ليُهجَر أو يُطرَح.

أقول نحن بصيغة الجمع؛ لأن الكتاب تمت صياغته بشكل مشترك بينى كصحفى وأديب، وبين الطبيب والناقد د/محمود نبيل . وكان الهدف من البداية هو الجمع بين الرؤية الصحفية الإعلامية للحدث الحالى الأشهر- "جائحة كورونا"- وبين المعلومة الطبية الصحيحة بشكلها المبسط المناسب لجميع القراء . فالمخاطَبون بهذا الكتاب هم عموم القراء، وليس المثقفون بصفة استثنائية حصرية .

هنا تبرز صعوبة هذا الكتاب .. أولاً: أن الاختصار لهذا الخضم اليومى الهائل للمعلومات سيكون أصعب كثيراً من الإسهاب والإطالة . وهو أمر يدركه من يخوضون مثل هذا الأمر، وقد يمر على الذهنية الناقدة المتمسكة بالشكل التقليدى الروتينى للكتاب العلمى الجاف، وهو الأسهل بالمناسبة . وقد قال أحد الحكماء عندما طُلب منه اختصار رسالة طويلة فى عدة أسطر بليغة فقال: "ليس عندى وقت لاختصارها" . فالاختصار والبلاغة يتطلبان جهداً أكبر من الإسهاب والإطالة . وقد كان من المفترض أن هذا من البديهيات لدى الناقد الموضوعى المدرك للفروق الدقيقة بين ما كُتب بشكل فيه شئٌ من تعجل، وبين ما كُتب بهدف الاختصار والتبسيط.

الصعوبة الثانية: تمثلت فى كيفية التوفيق والتنسيق لما يتم جمعه من معلومات لدى اثنين من المؤلفين . والعمل الكتابى الجماعى أو الثنائى من أصعب أنواع الأعمال الكتابية، بسبب ضرورة وجود حد أدنى من التنظيم والتدقيق والمراجعة وإعادة الصياغة والترتيب بحيث يبدو الكتاب فى صورته النهائية مكتمل البناء دقيق الاختيار خفيف الأسلوب جزل العبارة قوى التأثير .

وبعد هذا التمهيد الذى حاولت ألا أطيل فيه، وإن كان هناك الكثير مما ينبغى قوله، لكن أكتفى بهذه المقدمة البسيطة، للانتقال للرد على التقرير وأرجو أن تتسع الصدور لبعض الإطالة، حتى يمكن تفنيد أهم ما جاء به ..

1- جاء فى أول التقرير فى الفقرة التى بدايتها: (يتكون المقترح من مقدمة وخمسة رؤوس لموضوعات يمكن أن يُطلق عليها خمسة فصول ...) ما يمكن استشفافه من لهجة شبه تهكمية يريد بها كاتب التقرير الإشارة لما أسماه "الأسلوب الصحفى" وهو يقصد هنا "السرعة أو التسرع " أو على حد تعبيره: "تناول وباء كورونا بطريقة سريعة أقرب إلى التحقيقات الصحافية" . وبعيداً عن مثل لهجة الاتهام الغريبة، فإن مجرد سوق تلك الجملة فى شكلها هذا يشير إلى التسرع والخلط الذى يتميز به كاتب التقرير. فمما لا يدركه أن التحقيقات الصحافية (بخلاف أنواع الكتابة الصحافية الأخرى كالحوار والمقال والتحليل والاستقصاء) هى من أكثر أنواع الكتابة عمقاً واهتماماً بالتوثيق، فهى لا تتحلى أبداً بالتسرع، بخلاف بعض الأنواع الأخرى التى ربما تنسحب عليها تلك الصفة أحياناً . ثم أن الكتابة الصحافية فى ذاتها لا يمكن اتهامها بالتسرع والتعجل . وإنما بالقدرة على استيعاب المعلومات المكثفة فى زمن قليل . والاختلاف بين الأمرين كالبعد بين السماء والأرض، أو بين الحمار والأسد، أو بين أى نقيضين .

الأمر الآخر العجيب، أنه لم يقرر بعد إن كان من الممكن تسمية "رؤوس الموضوعات" فصولاً أم لا؟ " فى إشارة تهكمية أخرى لصغر حجم الفصل عما يتمناه". وهو إذا بذل أقل جهد لفتح أى معجم من معاجم اللغة سيدرك أن الفصل إذا قصد به "فصل من كتاب" فهو نوع من أنواع التبويب لا يهم فيه حجم الفصل . وقد يضيق الفصل ليصير بضع صفحات، كما قد يتسع لمئات الصفحات، طبقاً لنوع الكتاب ومحتواه ورسالته .

2- فى نفس الفقرة السابقة المشار إليها، ذكر كاتب التقرير رؤوس الموضوعات التى نقلها من الفهرس، دون أن يتكلف عناء ذكر ولو بعض الفقرات الاستشهادية أو حتى العناوين الفرعية التى تؤيد اتهاماته ولو حتى من باب السرد الموضوعى المنصف . لكن كان واضحاً أن التقرير "شديد القصر والقصور" كُتب على عجل بحيث أغفل كثيراً مما ينبغى لأى تقرير حقيقي محايد أن يتضمنه .

3- فى ذات الفقرة جاء ما يلى: (ليأتى بعد ذلك الموضوع الرابع ..... حتى يقول: التف خيط المؤامرة حول عنق الولايات المتحدة ممسكاً بتلابيبها على طريقة "امسك حرامى"، ودون وقائع أو مستندات دامغة، ساق المؤلفان أمريكا إلى قفص الاتهام ..).

تلك الفقرة بالذات اشتملت على جملة ضخمة من المغالطات والدلالات الهامة: أولاً: أن مجرد القراءة العابرة لعناوين الكتاب (ولن أقول المحتوى تنسف هذا الاتهام من الأساس) ففى نفس الصفحة التى جاء بها عنوان جانبى: "أمريكا فى قفص الاتهام" عنوان آخر يقول: "الصين أيضاً متهمة"، والإشارة هنا إلى الحرب الإعلامية التى دارت رحاها بين أمريكا والصين، وهى ليست سراً بل دارت بشكل علنى وصريح . وأى قارئ عادى لبعض السطور من هذا الفصل سيدرك تماماً أن الكتاب يسجل فقط ما دار ولا ينحاز لأى جانب ضد أى جانب آخر، وتتم الإشارة لكل معلومة من مصدرها داخل الفقرات نفسها. والعناوين القوية ليست إلا أسلوباً لغوياً يراد به قوة التأثير، ويبدو أننا نجحنا فى بث هذا التأثير والدليل أن أول المتأثرين هو كاتب التقرير الذى لم يستطِع إخفاء انحيازاته غير المفهومة، ودفاعه المستميت عن أقل ما قد يمس أمريكا رغم أننا لم نمسها، ونحبها كحبنا لأى دولة أخرى.

ثم أن كاتب التقرير وقع فى تناقض عجيب عندما استخدم أسلوباً صحفياً لتهويل الأمر(رغم سابق تحقيره للأسلوب الصحفى) بألفاظ مثل:("امسك حرامى"، والتفّ حبل الاتهام حول عنق أمريكا، وممسكاً بتلابيبها). رغم أننا لم ننصب محاكمة لأمريكا ولا لغيرها . وهذا يشير بوضوح للتناقض فى كلام صاحب التقرير . ناهيك عن التحيز ولهجة التهكم التى لا تغيب عن أى فقرة من فقرات التقرير بمناسبة وبلا مناسبة. كأن الهدف هو إفشال الكتاب بأى طريقة وإن لم يكن هناك داعٍ حقيقي لهذا سوى الانحيازات غير المفهومة لكاتب التقرير .

4- التناقضات فى التقرير "رغم قصره الشديد"  كثيرة: منها مثلاً أنه يقول عن الكتاب أنه من مقدمة وخمسة فصول، ثم يعود فيقسمه على طريقته إلى قسمين رئيسيين (فمن أين جاء بهذا التقسيم الدخيل المغرِض؟) .

أيضاً يقول متحدثاً عن الفصل الأخير متهماً إياه بأنه "سياسي بامتياز" -وهو اتهام أبعد ما يكون عن الواقع – يقول: (.. تم فيه تحليل نتائج الجائحة فى دول العالم المختلفة، وذلك باستعراض آراء سياسيين ومفكرين لا تربطهم بالوباء صلة ..) ثم يناقض نفسه فى فقرة تالية فيقول: (قد أدلى بهذه التصريحات قادة وساسة ومفكرين من أمثال الرئيس السابق جيمى كارتر، والمؤرخ المعروف تيودوروف والمؤرخ بول كينيدى وروبين نيبليت). أما عن صلة هؤلاء بالجائحة فأمر آخر يحفز القارئ للتشوق لفهم تلك الصلة، وهو مما يضاف للكتاب مدحاً لا قدحاً .

ومن الغريب أن هناك فقرة يستهلها بقوله: (تتمثل خلاصة القراءة المدققة .. فى أنه ينقسم قسمين ..) أى أنه يعتبر التناقض فى الرؤية أساساً لقراءته "المدققة" !!

5- هناك مشكلة التعميم التى تظهر بوضوح فى آراء التقرير .. ومن تجليات تلك السمة: أولاً: قوله:(ليمسك المؤلفان بخيط المؤامرة الذى رأوه تالياً للنبوءات) وهو تعميم أقل ما يمكن أن يشير إليه أن كاتب التقرير لم يقرأ الكتاب أصلاً، أو على الأقل قرأه "قراءة إطّلاع وفضول". فالفصل المشار إليه لم يكن يحوى كلاماً عن النبوءة والمؤامرة باعتبارهما فرضية محققة، بل فرضية محتملة بين عدة افتراضات كثيرة أخرى كالخطأ البشرى أو العدالة الإلهية أو بوادر حرب جرثومية أو الفوضى الخلاقة، وغيرها من الافتراضات . ثم أن هذا الفصل بالذات يحوى الكثير من الموضوعات الأخرى التى ربطت بين الجائحة والعاطفة والدراما والعلاقات الإنسانية . فى محاولة لفهم تشابكات العلاقة الإنسانية فى علاقتها بالوباء قديماً وحديثاً . وهو أمر لا يقدح فى محتوى الكتاب لا من قريب ولا من بعيد.

ثانياً: الاتهام بأن الفصل الخامس (مصير كورونا .. مصير العالم) سياسي بامتياز . هو من قبيل التعميم الفادح المفضوح. ولو أن أى عين عابرة قرأت عناوين هذا الفصل الجانبية لأدركت أن الاهتمام الأكبر فى هذا الفصل كانت بالجانب الإنسانى والبيئى للوبائيات . كأن كاتب التقرير لم يقرأ الكتاب، بل قرأ بعض العناوين التى استهوته فقط! ولنستعرض بعض العناوين الجانبية من هذا الفصل لإدراك كيفية لىَ عنق الحقيقة أو التعميم الذى تعمده الرجل، فمن عناوين الفصل: (عودة الضمير – اقتصاديات الفقر والثراء- بول كينيدى وتحذيرات تحققت) فأين السياسة فى هذا . وحتى الآراء السياسية المدرجة فى الفصل هى من قبيل تجميع آراء أهم المؤرخين فى أمريكا والعالم قديماً وحديثاً . وما (روبين نيبليت) الذى أشار له التقرير إلا واحد من 12 خبيرا استعانت بهم صحيفة فورين بوليسي للتنبؤ بمصير العالم بعد كورونا، وهو تقرير شهير جداً، ولا أعلم كيف لا يعرفه كاتب التقرير؟! أو لماذا ذكر روبين نيبليت وأهمل ذكر الإحدى عشر خبيراً الآخرين، اللهم إلا لأنه بريطانى!

ولا أدرى سر الانحياز الغريب لبريطانيا وأمريكا لدى هذا الرجل؟! وأنا شخصياً ليس عندى أى تحيز لأى دولة سوى وطنى مصر .. وإن كنت أحب كل البلاد الأخرى ما دامت لها مصلحة مع مصر شعباً وحكومة. بل وعلى المستوى الإنسانى الذى لا يفرق بين الناس على أساس الحدود الديموجرافية.

6- أما أشد ما أثار حفيظتى واستيائى حول هذا التقرير: مبرراته التى اتخذها ذريعة لرفض الكتاب . هناك الشعور بالظلم الشديد والحزن ربما .. أن يأتى كاتب التقرير فى أقل من نصف صفحة ليسجل أسباب رفض الكتاب الذى بُذل فيه كل هذا الجهد، وهى مبررات أقل ما يمكن أن توصف بها أنها ظالمة أشد الظلم . ولن أفيض فى وصفها بما تستحق من أوصاف أخرى أشد قسوة وتعبيراً عن شعورى الحقيقي نحوها ..

وجملة المبررات التى ساقها صاحب التقرير: 1- ضَعف الجانب العلمى، فى مقابل الإسهاب فى الجزء التاريخى. 2- أن الكتاب يخرج عن الهدف المعلَن لسلسلة الثقافة العلمية . 3- القصور الواضح فى توثيق ما يرد به من أحداث ومعلومات.

ولأهمية تلك المبررات .. أرجو ألا يكون من المزعج الإسهاب قليلاً فى الرد عليها ..

1- ضعف الجانب العلمى فى مقابل التاريخى ..

* الحق أن الجزء العلمى المشار إليه يستغرق أكثر أجزاء الكتاب بما فيها الفصلين الأخيرين المشار لكونهما يمتان إلى السياسة . بل إن الجزء الذى يصفه كاتب التقرير بأنه "تاريخى" هو أصلاً عن تاريخ الوبائيات، أى أنها تراثيات تنتمى لعلم الوبائيات، إنها علم محض. وأغلب فقرات الفصول الأولى من الكتاب مكدسة بكمية ضخمة من الأرقام رغم قصرها . فالهدف من الكتاب كما أسلفنا هو الإحاطة بالمعلومات وإجمالها فى فقرات مختصرة بعيدة عن الإملال . وهو هدف صعب التحقيق، وأزعم أنه تحقق بدرجة كبيرة .

* كاتب التقرير لم يستشهد أبداً بأى قرينة أو دليل على اتهاماته التى تتابعت فى التقرير ومنها اتهامه بضعف الجانب العلمى ـ إنه مجرد الرأى المرسَل الذى ينم عن رأى مسبَق. والسؤال: هل هناك ما هو ليس علمى فيما يخص وباء كورونا ؟ إن كل الكتاب بالضرورة هو كتاب علمى، لأنه يتناول موضوعاً علمياً بطبيعته.

* أن كاتب التقرير يبرر القصور بعدم الحديث عن (الفيروسات) – "غير صحيح، هناك حديث عن الوبائيات الفيروسية والبكتيرية الأخرى" . و(الجهاز المناعى) – "غير صحيح أيضاً، فقد تطرق الكتاب للأساليب الغذائية لتحسين المناعة الذاتية لدى القارئ طبقاً لتعليمات وزارة الصحة المصرية . أما الحديث عن تفاصيل الجهاز المناعى من حيث التركيب وعلم وظائف الأعضاء فلم نجده مما يهم القارئ كثيراً وإن كان مهماً كمعلومة تصلح لكتاب آخر فى ذهن كاتب التقرير ربما ..!"

ثم يقول كاتب التقرير فى استطراده لتبرير رفض الكتاب "لقصوره العلمى": (أنه لم يتحدث عن المادة الجينية الدنا DND) . والحقيقة أننى صُدمت لكمية الجهل فى هذه العبارة! ولا أدرى عن صفة كاتب التقرير، ولا عن أهليته لتلك المكانة التى حازها . لكن فلندع الحقائق تتحدث:

1- أن المادة الجينية للفيروسات هى (RNA) وهى الشريط المفرَد من شريط (DNA) المزدوج. وهذه معلومة معروفة لأى قارئ عادى، ناهيك عن المتخصص.

2- أن الدنا هو (DNA) وليس (DND) كما جاء فى التقرير. وهى مختصر لكلمة (Deoxyribonucleic acid) . وهو ما يجعلنا نتساءل عن التخصص "الدقيق" لكاتب التقرير والذى أهَّله دون غيره لإبداء رأيه العلمى فى كتاب ربما ليس من تخصصه!

3- أن أى قراءة عابرة للكتاب سوف تدرك أن الكتاب تطرَّق بالتفصيل لتركيب فيروس كورونا . لكن ليس من شأن الكتاب أن يتطرق أبداً للخارطة الجينية للفيروس إن كان صاحب التقرير يدرك الفرق! وعنوان كتابنا هو (كورونا يحكم العالم) يشير بوضوح للرسالة الكامنة فى طيات عنوان الكتاب ومغزاه. والحديث المسترسل عن التفاصيل المتعلقة بالتركيب الكامل لفيروس كورونا ليست من أهداف كتاب له مثل هذا العنوان.

2- أن الكتاب يخرج عن الهدف المعلَن للسلسلة ..

تعجبت كثيراً من منطوق هذا التبرير بطريقته تلك ..

فمن ناحية أن صاحب الهدف المعلَن هذا، من باب أولَى أن يذكر هذا الهدف المعلن فى تقريره . وهو ما لم يحدث!

ولقد جئت بكتب خاصة بهذه السلسلة- الصادرة عن هيئة قصور الثقافة المصرية - بحثاً عن هذا الهدف المعلَن . فلم أجد إلا فقرة فى أعلى ترويسة الكتب تقول: (تختلف الثقافة العلمية عن تلقى العلوم فى قاعات الدرس التقليدية . فهى سعى ذاتى للمعرفة العلمية).

وإذا كان هذا هو الهدف المعلَن فلن يجد صاحب التقرير كتاباً ينطبق على هذا الهدف تمام التطابق ككتاب (كورونا يحكم العالم)، وهناك ألف دليل لهذا لو شاء.

3- مسألة التوثيق (القصور الواضح فى توثيق ما يرد به من أحداث ومعلومات)

والحق أنى لم أدرِ من أين أبدأ، ولا كيف أنتهى للرد على مثل هذا الاتهام الفظيع.

فأنا صحفى، ومن أولويات عملى الإعلامى، قبل أن يكون الأدبى، هو التوثيق. والكاتب الثانى للكتاب ينتمى للشطر الآخَر من الضفة .. شطر العِلم . وأثق أنه يهتم بالتوثيق اهتمامى به وربما أكثر .

وكان من السهل جداً أن يتم إحالة كل فقرة من فقرات الكتاب "ماعدا المقدمة" إلى مصادرها، لكننا اخترنا أن نكتفى بذكر المصادر بشكل تفصيلى فى نهاية الكتاب لسببين هما: أن حجم الكتاب متوسط فلا حاجة لإطالته بالهوامش الكثيرة . ثانياً أن الهوامش قد تعيق سهولة القراءة لدى القراء العاديين وهم مستهدفنا الأساسي.

لكن بعيداً عن هذا . هناك نقاط أهم فى اتهامه المجحف هذا .. وهى:

1- الاستشهاد الذى استشهد به كدليل قاطع على انعدام التوثيق . وعلى حد قوله أن الواقعة كالتالى: (.. فإن هذا المقترح ينطوى على قصور واضح فى توثيق ما يرد به من أحداث ومعلومات . ومن ذلك – على سبيل المثال- ما ورَدَ بالصفحة التاسعة والستين من قيام بريطانيا وأمريكا فى خطة – لم توضَع فى إطار التنفيذ- إلقاء قنبلة بوزن 200 كجم على قطعان المواشى فى البلدان المعادية، حتى تتولى الماشية عنهم مهمة القتل العشوائى للأعداء سواءً محاربين أو مدنيين!) .. وقد جاءت هذه الفقرة فى إطار واقعة (جزيرة جرينارد) الأسكتلندية . وهى واقعة موثقة ومذكورة فى عدد من المصادر. ومن السهل الحصول على تفاصيل الواقعتين لو أن كاتب التقرير أتعب نفسه فكتب على محرك بحث جوجل (واقعة جزيرة جرينارد)، ومنها مواقع لويكيبيديا، وموقع المرصد المصرى (المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية) . أو لو بحث فى كتب ومصادر تتحدث عن الوقائع الصادمة فيما يخص تجارب الأوبئة ومنها كتاب (الأمراض الفتاكة والأوبئة والجمرة الخبيثة) لجانيت ديكر –هاوس للنشر 2003. وغيره من الكتب والمجلات المتخصصة.

لكن الغريب أن هذا الاستشهاد أصلاً لا يصلح للحكم بانعدام التوثيق . فهى واقعة عابرة.  قيل (طبقاً لكاتب التقرير نفسه) أنها واقعة لم توضع فى إطار التنفيذ. أى لم تجرى أصلاً . فلماذا الاحتياج لتوثيق واقعة لم تحدث؟ إلا من باب التصيد، والتعلق بأهداب التوافه من معلومات غير مؤثرة فى سرديات الكتاب !!

ولماذا الدفاع مرة أخرى عن أمريكا وبريطانيا بهذا الحماس الغريب؟

- وإذا كانت مسألة توثيق المعلومات على طريقة الأبحاث العلمية (أى بهوامش الكتاب أو فى نهايات الفصول)، فإن المؤكد أن إصدارات السلسلة بها كثير من المؤلفات التى تكتفى بالمصادر فى نهاية الكتاب . وهذه حقيقة يمكن التأكد منها بالرجوع لإصدارات الهيئة.

- ثم أن الكتاب ملئ بالإحالات المرجعية للمصادر داخل الفقرات نفسها . وهناك عشرات الاستشهادات من داخل الكتاب لتأكيد هذه المعلومة.

فى النهاية ..

لا يسعنى إلا إبداء أسفى ودهشتى لمثل هذا التقرير، مهما كان مآل الأمور..

يجدر الذكر بأن كاتب التقرير، وهو أستاذ فى كلية الهندسة، لا تربطنى به أى صلة من أى نوع . فلا أعرفه ولا يعرفنى . ومن الغريب أن أرى موقفاً يبدو كأنه موقف شخصى مسبَق من شخص لا أعرفه .. وهو ما يدعونى للتساؤل حول التقرير نفسه ..

ولا أستطيع إخفاء تساؤلاتى المشروعة حول عدة نقاط هامة:

1- لماذا الاستعانة فى كتابة التقرير بكاتب واحد فقط؟

إن المعهود فى مثل هذه الحالات أن تكون هناك لجنة على الأقل من اثنين عدول .. إن التقرير هنا يُعامَل معاملة الشهادة . التى من الضرورى أن تأتى محايدة موضوعية . فما السر فى الاكتفاء بشخص واحد فقط؟

2- بخبرتى الصحفية الطويلة .. أستطيع التعرف من أول نظرة على التقرير المعيوب . ولو أننى مسئول وجاءنى مثل هذا التقرير ذى اللهجة المتحاملة، لابد وأن ينتابَنى الشك فوراً حول دوافعه . وإنى أتساءل وأتعجب كيف مرَّ مثل هذا التقرير مرور الكرام على مسئول الهيئة . هذا تساؤل صحفى بالمناسبة، لا باعتبارى الطرَف المتضرر. ولو أن كل التقارير تُكتَب بهذا الطريقة المتسرعة، فمن الضرورى مراجعة الأمر للتأكد من مدى تفشى مثل هذا القصور.

3- التقرير قصير جداً، ولا يحتوى على أى نقد موضوعى، ولا يلمس النقاط التى اعتادت التقارير الاهتمام بها كالأسلوب البلاغى والمحتوى الفكرى وغيرها .. فلماذا؟

لا أرى فى هذا التقرير إلا ظلماً كبيراً لكتاب أثنَى عليه عدد ممن عرضت عليهم الكتاب وأثق فى آرائهم النقدية . والتقرير يغفل كونى صحفى يستطيع التمييز بين الكتاب الجيد من الكتاب الأقل جودة .. والحق أن أكبر ظلم فى طيات هذا التقرير أنه يغفل رأيي عن الكتاب . لأنني أول ناقد لما أكتبه . وأعلم أن الكتاب كان ثمرة مجهود كان ينبغى تقديره أكثر من هذا قليلاً ..

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم