صحيفة المثقف

الأخْلاقُ في دَهاليزِ السياسةِ النّفعيّة

اكرم جلاليَشهدُ العالمُ اليومَ انعطافة جريئة في مسار الفكر الفلسفيّ، حدّدت مساره الجديد وَوَضَعَتهُ على سكّة الواقع الإنساني أكثرَ مِنْ أيّ وقتٍ مَضى، ليكونَ الخِطابُ الفكري والمنهج الفَلسفيّ هو حَجَر الزاوية، يَخلَع رِداءَ الوسطيّة وَيُحطّم أبراجَهُ العاجيّة لينزل مرتدياً ثوب الواقعية، حيثُ الإنسانُ والوجود والقِيَم والأحداث والتحولات هي مواضيع الساعة. لقد برزت نظريّة الأخلاق لتكون الشغل الشاغل للعديد من الفلاسفة والمُفكرين، إنطلاقاً من كونها أحد أهم أسرار الوجود الإنساني وجوهر موضوعات الدين والفلسفة في كل العصور، وأنّها طوق النجاة في الأزمات الفكرية الشاذة والتقلّبات الذهنيّة المُردية والتحولات القلبيّة المُهلكة.

الأخلاق ليست فكراً مستقلاً بل هي حضورٌ متميّز في جميع المدارس الفلسفيّة فلم تَكُن يوماُ حِكراً على مذهب دون آخر ولم يجرؤ أحد على إلغائها بالمطلق؛ فالفلسفة شيّدت صرحها وانطَلَقَت بإنتاجها الفكريّ مستندة على أعمدة مبحثيّة ثلاثة: الأول هو فلسفة العلوم أو ما يُدعى بالابستيمولوجيا، والذي يعني علم العلم أو فلسفة العلم، وهو مفهوم يشير الى الدراسة النقديّة والموضوعيّة لنتائج البحث في مبادئ العلوم، ودراسة الفرضيات؛ والمبحث الثاني هو علم الوجود أو الأنطولوجيا، حيث الوجود في ذاته هو الموضوع الأساس بمعزل عن أحواله وظواهره، يُدرَس بشكله الكُليّ وليس الجزئي، ويتناول الموضوعات غير الماديّة ضمن الأبعاد الميتافيزيقيّة الناتجة عن الحقائق العلمية مثل الزمان والمكان، والطاقة، والكم والكيف، من أجل تحديد الكينونات الدنيويّة؛ والمبحث الثالث هو القِيَم أو ما يسمى بالأكسيولوجيا، حيث القِيَم والمُثُل العُليا والبحثُ عن كلّ ما هو قَيّم وثمين من خلالِ الكشف عن الماهيّات الأساسية لمفهوم القِيَم، فقيمةُ الشيء تعني قَدْرَه، ثَمَنَه أو سِعرَه، وقِيَم الأشياء الذاتيَة هي الصفات التي تجعل الأشياء تستحق التقدير ومرغوبة وتشجّع الأخرين لتحقيقها وإدراكها أو العكس.

لقد اتفق أهل الفكر والفلسفة على أنَّ للقيم كذلك أساسيات ثلاثة هي الحق والخير والجمال، وكل واحدة مِن هذهِ القِيَم مُرتبطة بدراسةٍ علميّة مُحددة، فالحقّ مرتبط بعلم المَنطق الذي يَهتَمّ بدراسة قواعد التفكير السليم، بينما الجمال مرتبط بعلم الجمال حيث معايير الجمال والأذواق وتبايناتها من إنسان إلى آخر. أما الخير فمُرتبط بعلم الأخلاق، وهو مجموعة مِنَ النُّظم والقَوانين التي تُقوّم السلوكَ الأخلاقي وتُجَنّب الإنسان من السقوط في وحل اللّاأخلاق، وأنَّ الإنسانَ بِما يَحمل من قِيَمٍ أخلاقيّة هي وحدها الكفيلة بتكوين شكل وماهيّة وجوده، حيثُ لخّص الفيلسوف والحكيم اليوناني سقراط (470 ق.م – 399 ق.م) هذه الحقيقة بكلمات ثلاث: (اعرف نفسك بنفســك)، بينما اعتبرَها الفيلسوف أفلاطون (427 ق.م – 347 ق.م) في كتابه السادس من الجمهورية أنّها مبدأً وحقيقة كونيّة، بل هي في رأيه أعلى من العلم والمعرفة. وأما الفيلسوف أرسطو ( 384 ق.م – 322 ق.م ) فيُعتبر أفضلَ مَن نَظّر وَكَتَبَ في الأخلاق، وقدّمَ العديد من المؤلفات، كان أهمها “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، حيث يرى أنّ الواقعيّة تتجسّد في عالمنا الوجودي هذا، لذلك استدلّ على أنّ المخزون الأخلاقي في الطبيعة الإنسانية هي من تُحدّد إنسانية الإنسان من خلال القِيَم التي يَحمِلها ويُترجمها الى سلوكيّات على أرض الواقع، فالمقاصد الأخلاقية للإنسان إنّما تَهدف بالأساس لتحقيق الخير وإدراك السعادة.

فالأخلاق إذن هي لغة التواصل بين الإنسان والموجودات وهي معيار الرفض والقبول، إنها المخرج من الكوارث والمصائب والأزمات التي تعصف بوجود الإنسان، فلا غَرابَة إذَن حينما يَعتَبر ديــكارت أنَّ كلَّ بَحثٍ أخلاقي إنّما هو طريق إرشادٍ للعقل من أجلِ إدراك الحقيقة وبالتالي بلوغ الحكمة التي هي هدف الفلاسفة والمفكرين.

ثُمَّ إنَّ السياسة والتّقدم التكنولوجي والثراء كلّها فَشلت في إيجاد الحلول وبلوغ الحكمة، لأنها وببساطة شديدة كانت ولا زالت جزءًا مِنَ المُشكلة؛ وَحدَهُ الدين وَما يُقدّمه مِن قِيَمٍ وأخلاق كَفيلٌ بتَحطيم قيود الجهل وبناء منظومة تكامليّة بين الإنسان وباقي الموجودات.

ورغم أنَّ مَبحَثَ الأخلاق قَديمُ بِقِدَم الإنسان وأنَّ المَباحِثَ الفلسفية قَد أتَّسَعَت وَتَشعَّبَت مَعَ بدايات الفَلسفة اليونانية، حَيثُ نَجِد أنَّ التعريفات التي تناولت علم الأخلاق، قد تشابهت في الجوهر والمضمون رغم أنَّها تنوّعت واختلفت في العبارات والتفصيلات، لذلك نرى أنَّ أغلب هذه التعريفات قدّمت عِلمَ الأخلاق على أنّه العلم الذي يَدرس ويُحلّل طبيعة الفضائل والرذائل الروحية التي تغزو النفس الإنسانية، وأنَّه القوانين والنُظم التي تأخذ بيد الإنسان نحو مراتب التكامل الخلقي.

والأخلاقُ بطبيعتها ذاتَ مُعطى وجودي، حيثُ الإنسان وَحده مَن يُجاهد مِن أجل استِحصالها لِتَكون المنهج لتنظيم السلوك وبناء الأفكار والمعتقدات، من هنا يتّضح  حجم الترابط بين القِيَمِ الأخلاقية والنظام الوجودي، وكيفَ أنَّ الموضوعات الأخلاقية تؤسس للمسارات الأونطولوجية، وبالمقابل فإن النُظُمَ والقوانينَ الأنطولوجيّة قد تفرض سلوكاً أخلاقياً منحرفاً يقوم على أساس الأنا والنفعيّة، يُلقي بضلاله لا على الأفراد فحسب بل على المجتمع بأكمله.

إنَّ تَلَمُّسَ نَظريّة الأخلاق إنطلاقاً من كونها ضرورة أنطولوجية أصبح أمراً مُرهقاً ومجازفة مُضنية لما يعتريها من التعقيد والغموض في ظل ما يعيشه العالم اليوم من إنقلاب على الموازين والمعايير الأخلاقية، نَتَجَ عَنه ظلمٌ وتقتيل وحروب وتجهيل، سلطات أتّخَذَت مِنَ المَدرسة الميكيافيلية مَنهَجاً عَمَليّاً أساسه الفصل بين السياسة والأخلاق، حَيثُ النّفعيّة والشَّخصنة والأنا بدأت تطفو على سطح السياسة، وليتحوّل الكذب والخداع والإحتيال إلى فَنٍّ وَعِلمٍ وَشَجاعَة. اليوم نرى المدرسة الواقعيّة قد طَغَت على المَدرسة المثالية، حيث تجلّت وتكاملت صورة الأركان الأربعة والتي رَسَمَها توماس هوبز (1588 – 1679م): السياسة الجماعية، الأنانية، الفوضي، والقوة السياسية.

اليوم أصبح الإنسان فريسة قوىً تُخطّط في دهاليز ومختبرات الظلم والطغيان تحت عناوين سياسية وثقافية واقتصادية، مُستعينة بتَقَنيّات وَبَرمجيّات وأنظمة مُراقبة وَتَوجيه تدار عَن بُعد، تلجأ  فيها إلى الترويع والتجويع والتركيع ثمَّ التطويع، من أجل أن تَغرِسُ أنيابَها في جَسَدِ الكرامة الإنسانيّة، فالقَهر والإذلال وَسَحق الكرامات وَسَرِقة الأقوات وتخدير العقول وسلب الحقوق، جميعها أدوات قد نَحَرَت الأخلاق في وَضحِ النهار وعَلَى مَرْأىً وَمَسْمَعٍ مِنَ الجَمِيعِ.

لقد سَقَطَت الأخلاق بينَ كَمّاشَتَي المَعرفة والسُلطة النّفعيّة ، وَخَضَعَت للإملاء والإلزام، ونحن بحاجة ماسّة إلى فلسفة المِطرقة والهَدم والثورة على أخلاق الانبطاح والإستسلام؟ نحن اليوم بحاجة إلى أيتيقا الأخلاق حيثُ الرغبة في حياةٍ مُكتَمِلَة (كما أسماها بول ريكور – 1930 – 2005م)، أو السعادة كما وصفها أرسطو؛ وهذه الحياة الكريمة وهذه السعادة لا يُمكن إدراك أهدافها إلّا مِن خلال مَدّ جُسور التواصل مع الإنسان الآخر، وَمن خلال مُؤسسات عادلة تَحكم وتُنَظّم هذا التواصل، حيث التسليم بمجموعة من النُظُم التي تُحدّد شَكل العلاقة بين الأفراد وتأخذ بنظر الإعتبار الظروف المُجتمعية.

إنَّه إعلان العصيان والرفض والتمرّد على كل الأخلاق الإلزامية التي أُعِدّت فيِ مختبرات السياسة الرأسماليّة بذريعة الضرورة الكونية من أجل تَكبيل الأفراد بمعايير مُلزمة؛ نحن اليوم بحاجة إلى رفض الأخلاق المُصنَّعة واستبدالها بقواعد أيتيقيّة أفعالية تعتمد على المساوقة بين الذات المُتَجَذّرة في فِطرَةِ الإنسان، والآخر النظير الذي يشاركني في هذا الوجود،  ثُمَّ الطرف الثالث الذي يُمثّلُ القاعدة المؤسساتيّة التي تقدّم وتنظّم قوانين الحقّ والعدل على المستوى القانوني والإجتماعي والسياسي؛ أطرافٌ ثلاثة كفيلة ببناء المنظومة الأيتيقيّة. هذا النَسَق في التواصل ومِنْ أجلِ أنْ يَكون كفيلاً بإحياء المنظومة الأخلاقيّة وأن تَتَبلوَر لديه رؤية صحيحة لمفهوم الحقّ والعدل، لابدّ له من قراءة متأنيّة للشرائع السماويّة وتاريخ الشعوب والفلسفة الأخلاقيّة التي أنتجتها تلك الأمم من أجل إنتقاء النموذج الأصلح لمنظومة أخلاقية تُخرج الإنسان من قفص التضييق والفردانيّة نحو الحرية والشمولية، حيث إنسانيّة الإنسان وحريّته واستقلاله الذاتي ورفضه لكل سلوك إلزامي مؤدلج يُخضِعه ومجتمعه لأخلاقٍ مُصنّعة ستكون يوماً ما سبباً في هلاكهما معا.

 

د. أكرم جلال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم