صحيفة المثقف

الانساق الفكرية في رواية فضاء ضيق للروائي علي لفتة سعيد

 طارق الكناني(عندما تحوك لي من خيوط معاناتك قلب وفيّ فهذا هو الحب)

 في خضم هذه العبارة التي الزمت الكاتب ان يستحضر كل تداعيات المرحلة العمرية التي وصل اليها، لوصف حالة انسانية أو مرحلةٍ عمريةٍ منصرمةٍ، خالط فيها عدّة مشاعرٍ قد تكون مزيجًا من الحب والرغبة مصحوبة بالنقاء النفسي الذي غالبًا ما يصاحب الإنسان في مرحلةٍ ما، حيث تتنامى لديه هذه المشاعر، تؤجّجها ما يسكن في اللاشعور من ذكرياتٍ يعتقد الإنسان إنها قد انتهت وتخلّص منها في فترةٍ ما، ولكنها تبرز للظهور ضمن نسق حياتي اعتاد عليه خلال مسيرته. وهذا يتطلّب تأجيج حالة الصراع العاطفي بين ما هو مرغوب وبين ما يثير عقدة الشعور بالذنب لدى هذا الإنسان ،لأن هذا الذنب ناتجٌ عن الإيمان بأنساقٍ فكريةٍ قد يعتبرها البعض متأزمة،لأنها تقع ضمن نطاق المثالية المتعالية، ولكنها في الحقيقة مغروسة في النفس البشرية (تؤتي أكلها كلّ حين)، ففي حالة الجدب الروحي والتيبّس العاطفي يستدعي العقل الباطن للإنسان كل هذه المشاعر ليبدأ مرحلةً مختلفة، كما بدأ محسن بطل روايتنا (فضاء ضيق) في مرحلةٍ ما عندما اكتشف أن زوج عشيقته قد أصيب بذكورته مما حرمها من ممارسة حقّها وجاءت عنده تبحث عن هذا الشيء، أنكر عليها حاجتها لممارسة الحب، لا لشيء إلّا لكونها زوجة جريح حرب، حيث قال عبارته (أنا وأنت والحرب على زوجك) فهو يعرف إنها كانت متزوّجةً وترتكب فعل الخيانة الزوجية معه، وهذا لم يحرّك مشاعره المتبلّدة والمشحونة بالشغف الجنسي وعشقه لهذه المخلوقة، ولكن هناك دافعٌ آخر هو ما أوقظ حسّ التعاطف مع الزوج المخدوع، هو كونه جريح حرب. فإيمانه بهذه الحرب هو ما جعله أن يتخلّى عن سلوى . 

1578 فضاء ضيقإن صراع عواطف بطل رواية فضاء ضيق التي جاءت نتيجة حنين لجسد امرأة تركها في لحظةٍ يقظةٍ للضمير، وفي مرحلةٍ تختلف بأنساقها الفكرية عما يعيشه الآن، فحالة الحرب التي يعيشها البلد هي واحدة لم تتغيّر طبيعتها، فالموتى والجرحى والأرامل واليتامى هم أنفسهم عراقيون، ولكن الجهات المتحاربة فقط هي من تغيّرت، وهذا ما استدعى تغيير نوع الثقافة، فبالأمس كان العدو مختلف عن اليوم مما استدعى حالة التعاطف الوجداني مع الزوج، أما وقد أصبح عدو الأمس صديق اليوم، هذا بحدّ ذاته يفرض قيمًا وأخلاقًا جديدةً لما يجب أن نكون عليه، فالكاتب والروائي محسن (بطل الرواية) الذي كان يكتب للحرب الأولى أصبح اليوم في مفترق طرقٍ وتغيّرت لهجة بعض أصدقائه معه، هؤلاء الأصدقاء الذين كانوا يصحبونه الى جلسات الخمر ويسامرهم بالرغم من كونه لا يعاقر الخمرة، إلّا أنه في جلساتهم كانت راحة له، لقد تغيرت بوصلة الصحبة من الجلوس على ساحل بحيرة الرزازة الى الاتجاه الى المعاكس.. إن تواجدهم  في مقرات الأحزاب الدينية واطلاق اللحى والتختّم باليمين، هذا بحدّ ذاته تحوّلٌ كبيرٌ أوضح لدى محسن حالة البراغماتية لدى أصدقائه من الكتّاب ،وهذا يستدعي إعادة النظر بالثقافة المجتمعية التي أفرزتها الحالة الطارئة. فهو قد عرف بوفاة زوج سلوى وهو يعرف تماما استحالة الزواج منها فهو مازال ضمن الرقعة الجغرافية للثقافة المجتمعية لم يستطع مغادرتها ،(فلا يمكن لك الزواج من كانت عشيقتك) والسبب (قد خانت زوجها مهما كانت الأعذار لذا ستخونك).

 إن عملية تسليط الضوء على الأنساق الفكرية والعقدية خلال رحلة البحث عن سلوى، أفرزت حالة شعور بعدم الانتماء، مما أضافت أزمةً نفسيةً أخرى، ملاصقة لما يختزنه، فازدادت حالة التمرّد على واقعٍ لم يألفه سابقا. إن قوة السلطة التي تمتّع بها النظام السابق تمكّنت من إخفاء معالم وقيم وثقافات كثيرة.. ففي مدينة مثل (كربلاء) والتي تدور فيها أحداث الثلاثية ( فرواية  فضاء ضيق هي الجزء الثالث من رواية علي لفتة سعيد بعد روايتي الصورة الثالثة ومزامير المدينة).

 إن محسن لم يستطع  أن يكتشف نوع الثقافة المحلية التي أراد الانتماء إليها في فترةٍ معينة، ففي الجنوب تختلف أنماط الحياة، وباختلافها يتأثّر الناتج الثقافي ونمط التفكير والأنساق المعرفية والفكرية بشكلٍ عام، مهما تظهر لنا الصورة البعيدة من كونها تشابهها كون هذه المدن يجمعها، مكوّن عشائري واحد، ومعتقد واحد، وربما حتى لهجات متعارفة بينهم، إلّا أن الاختلاف يكمن في طريقة العيش، لم يتمكّن الكاتب من الغوص بأعماق المجتمع الذي يعيش فيه بسبب حالة الانغلاق التي يعيشها المجتمع ذاته، فهو لم يطلّع على نمط الحياة وأسرار المجتمع إلّا من خلال صديقه (مجتبى) مما أظهر خللًا في النسق الفكري، ولو كان في ظاهره بسيطًا في البنيوية حيث استطاع أن يخفيه بشكلٍ أو آخر، إنما هناك عملية قلب حقيقية، فالسيمياء التي تحدّث عنها علي لفتة سعيد وأراد من خلالها إنشاء علاقة بينها وبين النموذج اللساني البنيوي هي علامات حدّدها المنحدر الجنوبي للكاتب، ولعلنا نستطيع أن نرى تأثيرًا للمتصوّر اللغوي في اللاوعي الفرويدي  في حالة الكاتب هذه، فلقد كانت مقاربته توفيقية في جوهرها التي مازالت تتعاظم على امتداد السنين .

صراع  ثقافات

في حديث خاص لي مع الروائي الدكتور علاء مشذوب والذي هو احد شخوص هذه الرواية عن طريقة بناء الرواية والامساك بحركة الشخوص ضمن اطار الحبكة الدرامية ،يقول الدكتور علاء: ان الرواية عندي تبدأ برسم شجرة للعائلة اتحرك من خلالها واوزع الادوار فيها حسب الحبكة سواء كانت حبكات مصير مثل: حبكة فعل، او ميلودرامية ،او تراجيدية ،او تهكمية ،او عقوبة ،او عاطفية . أو حبكات الشخصية أو حبكات الفكرة والتي تتضمن حبكة الكشف والحبكة الانفعالية وحبكة الخيبة . فنرى من خلال هذه المشجرة التي يرسمها علاء تمكن من محاكات الواقع في مدينته ،وكذلك علي لفتة عندما كتب (السقشخي) كان متمكّنا في الكشف عن مدى تعلّقه في تراثه الأدبي الأصلي فقد أظهر براعةً غير مسبوقةٍ وهو لم يبرع بنفس القدر عندما غادر الرقعة الجغرافية التي ينتمي اليها.

إن لكل مجتمع أسراره وخفاياه، فما يظهر من أنساق فكرية في مجتمع مثل المجتمع الكربلائي لا يمثل حقيقة الصراع الفكري المتأجج بين ثقافتين إحداهما طارئة حالية اصطبغت بصبغة دينية مطلقة، وأخرى تنطوي عليها البيوت المغلقة وما تمثله من ثقافةٍ متحرّرة هي أبعد ما يكون عما تظهره بعض الجهات التي كانت الى عهدٍ قريب، هي الرائدة في حالة التحرّر. ما يهمنا هي رؤية الكاتب نفسه الى هذا المجتمع فهو يظهر معاناة حقيقية في كيفية فهم مجريات الأمور وطريقة التعامل مع شخوص الرواية والذي استمدّها من شخصيات حقيقية تعيش نفس تناقضات المرحلة، مما جعل (علي لفتة سعيد) يتقمّص دور الضمير للكاتب محسن فهو يعيش ضمن شخصيتين لا يمكننا أن نقول عليهما متناقضتين، فهما يبدوان على توافق كبير ويتمّم أحدهما الآخر.  فهذا الضمير هو من كان يتكلّم باسم الشخص الأول في الرواية، وربما استوقفه معاتبًا ليعكس صراع الذات.. ففي هذا النوع من الروايات يكون الضمير حاضرًا ليردع ويوجه الشخوص لأنه يمثل الوجه الاخر لشخصية بطل الرواية .

 اختلاف في الرؤى الفلسفية

هناك جنبة فلسفية أضفت على الرواية نوع من الحيوية والديناميكية، وعكست تنوع الفكر المجتمعي وحرية إظهاره ،وأخرجت الرواية من رتابة البحث المستمر عن (سلوى)، عندما كان الثلاثة يقفون على أرض محايدة وهي (مصر) فهناك (محسن) الذي يجمع بين طرفي المعادلة وهناك (حليم) الفيلسوف الإسلامي هناك (علاء) الذي تبنى الفلسفة المادية.. لقد انعكست حالة الصراع الفكري والفلسفي بين المقدّس والمدنّس، فهم قد يتّفقون في مرحلة معينة، ولكنهم لا يتّفقون مع  الخطّ الوسطي لهم، وقد اطلقوا عليه اسم (المقندس) وهي كلمة تم مزجها من كلمتي (المقدس والمدنس). ففي كلا الاتجاهين الذي يمثلهما حليم وعلاء هم متّفقون على زيارة الاضرحة والغور في العمق التاريخي للطقوس والإرث الحضاري، وكلاهما يعشقه، ولكن الفرق بالنظرة الموضوعية لهذا الإرث، حيث ينظر له (حليم) على إنه مقدّس ويجب أن يمارس بشكلٍ مميّز ومقنّن لا يمكن المساس بهذه التقاليد.. وكذلك (علاء)  يحب أن يمارس هذه الطقوس والتي يعتبرها إرثًا حضاريًا نتج عن ثقافةٍ مجتمعيةٍ متجذرةٍ في الحزن والبكاء، ولا علاقة لها بالمقدّسات، فهي طقوس موروثة ربما تمتد قبل ظهور الدين..  مثال ذلك (اللطم)*1 وربما تكون مستمدة من شعائر دينية لديانات أخرى.. مثال ذلك (الزنجيل )*2.وهذا دليل آخر على إن اليسار المتطرّف واليمين المتطرّف هما من منبعٍ واحد، وأنا إذ أورد هذا الرأي لا يعني أني أتّهم شخوص الرواية بالتطرّف فهم أكثر اعتدالّا في طرح أفكارهم ..

إن مفهوم الدين وتطوّره يعكس لدى الأطراف الثلاثة مفهومًا حضاريًا ومتّفق عليه وهو مفهوم غير مؤطّر بقيودٍ تفرضها الحالة الإنسانية أو الحاجة لتشريعٍ معيّن، فهو مفهومٌ واسعٌ غير معني بالعبادات وتطوّرها لدى الديانات المختلفة، ويبدو لي أن الحوار كان فيه امتداد لرسائل أخوان الصفا * (مجموعة فلسفية اسلامية). التقى الثلاثة خلال هذا النقاش في الإطار العام، وهو جانب المعاملات وهو ما تؤكّد عليه الديانات الحديثة.

إن الخوض في هكذا موضوعات يتطلب منّا معرفة (بأن النصّ المقدس بطبيعته نص إشكالي، هذه السمة الإشكالية تنطبق على النص الاسلامي مثلما تنطبق على غيره من النصوص المقدسة لأديان الثقافات القديمة)*3. اعتقد ان الروائي علي لفتة سعيد كان موفّقًا في طرح هذه الرؤية الفلسفية على لسان شخوص الرواية .

 فقد استخدم الكاتب  أسلوب التكثيف في طرح كل الانساق الفكرية المعلنة للمرحلة الراهنة، والتي ادّعت الأحزاب الدينية تبنّيها وترسيخ هذه الأفكار لدى النشء الجديد، من خلال تكريس الطقوس واشغال المجتمع بنمطٍ معيشي جديد، لا يعتمد على الكدح والعمل الجاد، بل يأتي من خلال منظمات مجتمع مدني أوجدت لتقديم المعونات والهبات للمعوزين، لهذا جاءت رواية (فضاء ضيق) لتتحدّث عن كلّ الانساق الفكرية المضمرة، التي تعاملت بها أحزاب السلطة وكشفت زيف المعلن منها.

ففي المشهد الأخير الذي صوّر عملية اغتيال الكاتب الروائي علاء، كان بمثابة إعلانٍ عن اللغة الحقيقية لما يجري في البلد، وتذكير لحرية الرأي التي مارسها الأصدقاء الثلاثة، وهم في مصر من خلال طرح أفكارهم بشفّافيةٍ عالية، دون خوفٍ أو وجل، وكشف الزيف الفكري لهذه الأحزاب وما تطرحه من فكرٍ لا يطابق ما تمارسه على أرض الواقع .

 

 طارق الكناني

.........................

 1- وهو (ارث سومري )

 2- وهو (ارث نصراني ) ومارسه الهندوس ونقلوه للشعائر الحسينية مؤخرا.

 3- فراس السواح (طريق اخوان الصفا) ص9.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم