صحيفة المثقف

كورونا والعالم.. أطول مباراة دولية!

عبد السلام فاروقبالمقارنة مع سائر الأوبئة عبر التاريخ، لم يكن كورونا هو الأسوأ ولا الأكثر فتكاً .. لكنه يظل الأعجب والأشهر والأشد تأثيراً على العالَم ..

الأسباب هنا بعيدة عما كان مأثوراً فى علوم الوبائيات والوثائقيات والرسميات؛ حيث استطاع كورونا أن يلعب أقوى مباراة خاطفة بقوانين استثنائية خاصة، وأن يكسب جولته الأولى بالضربة القاضية . فهل يستعد العالم جيداً لجولة ثانية محتملة؟

استطاع كورونا استغلال وسائل الإعلام لصالحه، بحيث تصدَّر الأنباء عالمياً لمدة تقترب من نصف عام . إنها المرة الأولى فى التاريخ الإنسانى أن يحظَى وباء بمثل هذا الترصد اليومى منذ ظهوره حتى يبيت نجماً من نجوم الصحافة والإعلام، أو بالأحرَى "بعبع" الفضائيات لشهور متعاقبة .. لقد عبث الوباء بالجميع خلال مباراة كبري أدارها بنجاح ..

اللاعبون الأساسيون فى تلك المباراة كثيرون .. الشعوب، والحكام، والإعلاميون، والسياسيون، ورجال المال والأعمال، والعلماء، والأطباء، وأجهزة الأمن والمخابرات .. جميعهم باتوا لاعبين حتميين شاءوا أم أبوا ..

عنصر المفاجأة كان هو العامل الحاسم فى تلك المباراة الطويلة، والتوقيت هو المفتاح لتلك الهجمة المباغتة للجائحة . إن مرض سارس أو كورونا المستحدث هو وباء قديم حدث عدة مرات خلال الألفية الحالية، وكانت هناك تحذيرات من احتمالية عودته بصورة أشد وأخطر، فلماذا لم ينتبه الحكام وأصحاب القرار مبكراً لمثل هذا التحذير؟

إنهم كانوا يتوقعون حدوث الوباء فى موسمه المعتاد، وهو فصل الربيع .. ففاجأهم الوباء مبكراً فى أول الشتاء حيث المناخ الأنسب له، وعلى غير المعتاد طالت موجة الطقس البارد لأسابيع أخرى وأتاح امتدادها انتشاراً واسعاً للجائحة .. إنه وباء يلعب بقوانينه الخاصة ولا يعبأ بتصنيفات علم الوبائيات .. فماذا لو حدثت موجة أخرى للوباء فى الخريف القادم كما يتوقع بعض المتشائمين من الخبراء والمراقبين؟ هذا يعنى 3 شهور إضافية .. فهل سيتحمل العالم موجة أخرى بهذا الطول؟

إن الخاسرين فى تلك المباراة كان أكثرهم من السياسيين والقادة ورجال الاقتصاد، بينما أبطال اللعبة الأساسيون كانوا هم العلماء والأطباء ورجال الأمن والإعلاميون .. هؤلاء الذين وقفوا فى مواجهة الوباء بسلاح العلم والكلمة والإخلاص لقضايا الإنسانية المجردة من الأغراض والأهواء..

المتفرجون والمشجعون فى هذا المشهد انحسروا وانسحبوا داخل الثكنات والمنازل والبيوت يتابعون صمت الشوارع ويترقبون زحف السفاح الصموت . لقد باتت الشوارع نفسها والطبيعة شواهد لا على الوباء وحده، وإنما على ما أحدثه الإنسان من ضرر جسيم على البيئة عبر أزمنة التطور الصناعى والاختناق بالعوادم والأدخنة ومخلفات الفحم والبترول والوقود النووى.

الحيوانات كانوا فى المشهد من البداية .. وكانوا هم أبطال الظل، أو اللاعبون الاحتياطيون .. بدايةً من الخفاش الذى نشر الوباء إلى المئات من فئران التجارب ضحايا المعامل التى نشطت فى كل العالَم، وقتلت فى تجاربها آلاف الفئران..

وفى شوارع المدن الخالية ظهر مشهد طريف وغير مألوف فى عدة بلدان بالعالم، هو مشهد تدفق قطعان من الحيوانات لنهر الطريق الصامت الخاوى من تزاحم البشر! كأن الحيوانات تستطلع الأمر الغريب عليها : أين ذهب الناس؟ .. لقد رصد البعض لقطات كثيرة كهذه فى كل أنحاء العالَم، والنتيجة أن الناس أصابها هلع غير مفهوم، خاصةً بعد انتشار شائعات بأن الحيوانات الأليفة قد تنقل المرض للإنسان . وبدأ كثيرون فى التخلى عن حيواناتهم وإطلاق سراحها لتهيم على وجهها فى الشوارع .. واضطرت منظمة الصحة العالمية للتأكيد على أن الحيوانات الأليفة لا تنقل المرض للإنسان حتى ولو كانت مصابة بالفيروس، وأن الانتقال قاصر على البشر بينهم وبين بعضهم البعض.

الراعى الرئيسي لمباراة كورونا كان هو "التاريخ" .. ذلك الذى لن ينسي جائحة كورونا 2020 وما أحدثته فى العالَم الذى بدا ضعيفاً معدوم الحيلة أمام اختبار وبائى لجرثومة قد تكون انتشرت بالخطأ على الأرجح .. فماذا لو أن قادة العالَم قرروا التصعيد واصطدمت القوى الكبري فى حرب عالمية أخيرة مهلكة للجميع ؟ هل تتحمل البشرية مثل تلك الخيارات المدمرة لقادة فاقدين للعقل والحكمة ؟

كما وقفت البشرية مبهورة بما أحدثه وباء كورونا فى الطبيعة والمناخ ..

مشاهد رآها الناس لأول مرة منذ عقود، لشمس تظهر فى بلدان معدومة الشمس .. وأدخنة تنقشع وغبار ينجلى فى مدن لا ينقطع عنها الضباب .. ورغم الشتاء وما يحدثه من شبورة هائلة .. استيقظ الناس على أجواء رائقة صافية وأفق شفاف بارع المنظر فتساءلوا فى دهشة: أين ذهبت الشبورة ؟

كأن المتهم الأول بالغمام الذى ظلَّل العالَم هو الإنسان ..

السائرون فى الشوارع الخالية ممن خالفوا الحظر، أو كان مسموحاً لهم بالتجوال رغم الحظر قالوا : أنهم لم يشهدوا أجواءً بمثل هذا الجمال الساكن الصموت منذ عهود بعيدة . كأنهم عادوا بالزمن عشرات السنين للوراء .

ولأول مرة تعلن الأرصاد العالمية اختفاء ثقب الأوزون الذى أعيا قادة العالَم نقاشاً فى مؤتمرات بيئية متعاقبة فشلت جميها فى القضاء على الثقب .. فإذا عصا كورونا السحرية تأتى لترتق الثقب فى أقل من نصف عام من صمت المصانع!

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم