صحيفة المثقف

للحضارةِ الغربيةِ أُسُسٌ عربِيةٌ

بشار الزبيديبقلم: هايكو فلوتاو

ترجمة: بشار الزبيدي

لا يكل بعض منُظري ثقافتنا الرائدة أبداً من تكرارِ موضوع إن الحضارة الغربية قائمة على أساس يهودي مسيحي. ولكن ماذا عن الفلسفة اليونانية؟ وماذا عن العُلُوم العربية التي لولاها لبقي أرسطو وأفلاطون مجهولان بالنسبةِ لنا؟

وَلَدَ جيم الخليلي، أُستاذ الفيزياء النووية النظرية في إنجلترا، في بغداد عام ١٩٦٢، وهو ابن أب عراقي وأم إنجليزية. كان مقر الخليليين في الأصلِ في مدينةِ الكوفةِ بالقُربِ من مدينتي النجف وكربلاء المقدسة الشيعِيَتَين. ولا عجب أن يتطرق أيضاً العالم جيم الخليلي الحائز على عدةِ جوائز  إلى مسألة المُساهمة التي قدمتها العُلُوم العربية في تأسيس الثقافة الغربية، التي غالباً ما يُشار إليها باسم الغرب.

العُلُوم العربية ومورِديها:

"بيتُ الحكمةِ" (الذي كان موجودًا في بغداد) هو عنوان كِتاب الخليلي. يقود البحث المُفصل القارِئ إلى استنتاج مفاده أن أُسُس الثقافة الأوروبية غير نابعة فقط من الأساس اليهودي المسيحي، بل إن الحضارة العربية الشرقية والتُراث اليوناني الروماني ساهما على قدم المُساواة تقريباً في أساس ثقافتنا.

يَفهم المُؤلف الخليلي مُصطلح "العلوم العربية" على أنه تلك العلوم التي تمت رعايتها في عهدِ السُلالةِ العربية الإسلامية العباسية، التي حكمت من ٧٥٠ إلى ١٢٥٨. وكان من بين عُلماء ذلك الوقت الفُرس واليهود والعرب والبربر والباحثين المسيحيين، الذين ساهموا جميعاً في ازدهارِ العلومِ الحديثةِ. وكانت مصادر الأبحاث تعتمد على الفلسفةِ اليونانيةِ والطب الفارسي والرياضيات والعُلُوم الطبيعية الهندية.

تراجم عن الفارسيةِ واليونانيةِ:

1579 هايكو فلوتاووقد تم تطوير هذهِ المعرفة في كثير من الأحيان من قبل العرب الذين عاشوا في البداية في عهد الخُلفاء هارون الرشيد (في الفترة ٧٨٦ إلى ٨٠٩) وأبو جعفر عبد الله المأمون (٨١٣ إلى ٨٣٣). استندت هذه العُلُوم على ترجمات من الأعمال الفارسية واليونانية وكذلك الهندية إلى اللُغة العربية، التي كانت اللُغة الرسمية للإمبراطورية العباسية ولُغة التواصل المُشتركة في المنطقة بأسرها.

كانت حركة المُعتزلة بمثابة الأساس الإيديولوجي للمجدِ المعرفي الذي ظهر حديثاً، والذي كان بالكاد واضحاً في عهد السُلالة العربية السابقة من الأمويين المُقيمين في دمشق. ولم يَرَ مُمثلو هذا الخط الفِكري أي تناقض بين الإيمان (الإسلامي) والبحث العلمي العقلاني. وقد عبر الخليفة المأمون عن هذا الموقف أيضاً.

بغداد كمركزٍ للعُلُومِ:

كتب الباحث جيم الخليلي أن "التقدُم المُثِير" يرجع إلى التراجم المُكثفة في حقولِ الطب وعلم الفلك والرياضيات والفلسفة، وصناعة الكيمياء، الذي تجلى لأول مرة في بغداد، ولكن بعد ذلك انتشر في جميع أنحاء الإمبراطُورية العباسية. هذا التطور، حسب الخليلي، "استغرق مائتي عام، وهو الوقت الذي تُرجمت فيه معرفة الحضارات السابقة"، الإغريق والفرس والهنود إلى اللغة العربية,بعد أن أصبح التعلم قائمًا في الإمبراطورية الإسلامية، وسرعان ما حقق نجاحًا مؤكدًا. وأدى ذلك إلى تجميع المعرفة العلمية التي تجاوزت بكثير مجموع ما كان موجودًا في السابقِ.

هُناك العديد من التفسيرات للازدهارِ المُفاجئ للعِلم في بغداد العباسية. يرى جيم الخليلي أن السبب الرئيسي وراء ذلك يكمُن في حقيقةِ تأسيس العباسيين لعاصمتِهِم الجديدة بغداد (التي تأسست عام ٧٦٢) في وسط الإمبراطورية الساسانية الفارسية السابقة، بعد انتصارهم على الأمويين. كان السبب الرئيسي لحركة الترجمة هو "هوسُ العباسيين" بالثقافةِ الفارسية. وبالطبع،قدمت السُلالات الفارسية مُساهمة كبيرة في النصرِ العباسي على الأسرة الأموية السابقة.

الدور الريادي لقُرطبة:

ومع ذلك، لا بد من الإشارةِ هنا إلى أن أحد الأمويين القلائل الباقين، "عبد الرحمن "، الذي وَصَلَ إلى إسبانيا وأَسَسَ الخلافة في قُرطبة، حيث أرتقى بالعلمِ والفنِ في الوقت الذي وصلت فيه بغداد، إلى مستوى مُماثل.

وقد أثبت الخليفة المأمون في بغداد أنه الراعي الأكبر للعُلُوم. كان يدعوا العُلماء والفنانين إلى بلاطهِ أسبوعياً، ويُقدم لهم النبيذ والطعام. كما أرسل مبعوثين حول إمبراطوريتهِ الشاسعةِ لشراء النصوص القديمة. وحسب الكاتب الخليلي أن الخليفة، إذا هزم عدواً في معركةٍ، فإن أحد شروط الاستسلام التي كان على المهزومين تنفيذها هي تسليم النصوص القديمة من أرشيفهم. لقد أسَسَ المأمون قبل كُل شيء "بيت الحكمة"، بيت العلوم (الطبيعية) في بغداد. لا توجد بقايا أثرية لهذه المؤسسة (حيثُ اختفت جميع القصور في ذلك الوقت؛ ومع غياب بناء المحاجر، تم بناء جميع المباني آنذاك من الطوبِ الطيني، الذي لم يَنجْ طوال هذه القرون، ولم ينج لاحقًا من الغزو المغولي).

1580 الحضارة الاسلامية

فن صُنعِ الورقِ الصيني:

في بيتِ الحكمةِ، كما يروي الكاتب، أنشأ الخليفة مع مرورِ الوقتِ أكبر مكتبة في ذلك الوقت (رُبما باستثناءِ تلك الموجودة في قُرطبة). استَفادَ العباسيون من نقلِ فن صناعة الورق عن طريق الصينيين المُنهزمين بعد معركة الانتصار ضدهم، بحيث تم بناء أول مصنع للورق في العالم العربي الفارسي الإسلامي في بغداد.

كتب الخليلي: "نمت المكتبة بسرعة وحصلت على العديد من النصوص من اليونان وبلاد فارس والهند، وكانت هناك أيضًا ترجمات عربية لهذه النصوص،والتي احتل إنتاجها في بغداد قطاع كامل".

الفلسفةُ الأرسطيةُ واللاهوت الإسلامي:

تَمَت ترجمة أعمال  إقليدس وأرسطو وبطليموس عدة مرات. يذكر الخليلي اسم محمد بن موسى الخوارزمي (٧٨٠-٨٥٠) كواحدٍ من عُظماء العصرِ، والذي كان مُترجمًا وعالمًا في الرياضيات والفلك ونشر كتاب الجبر (ومن هنا جاءت كلمة الجبر) ؛ كما قدم الخوارزمي مُساهمة حاسمة في إدخال نظام الأرقام الهندي إلى العالم العباسي.

 المسيحي حنين بن إسحاق (المتوفي عام ٧٦٧) هو عالم عظيم آخر من العصر العباسي،  عمل كطبيب ومُترجم وسافر كثيراً من أجل جمع المخطوطات القديمة، ونقل أعمال أفلاطون وأرسطو إلى اللُغة العربية. وأخيرًا، يُشير المؤلف إلى العالم "أبو يوسف الكندي (٨٠١- ٨٧٣)" في العصرِ العباسي "بصفته" فيلسوف العرب "، إذ كان عالم رياضيات ومُنظر مُوسيقي وفيلسوف، ساهَمَ أيضًا في إدخالِ نظام الترقيم الهندي إلى العالم العباسي. لكن أهمية الكندي تكمن، كما يذكر الخليلي، بالدرجة الأساس في التوفيق بين فلسفة أرسطو واللاهوت الإسلامي. وبهذا الجهد، "أرسى الكندي الأساس الفكري للجدلِ بين الفلاسفة وعلماء اللاهوت" الذي استمر لأكثر من ٤٠٠ عام.

تفسيراتٌ لتراجُعِ "العصر الذهبي":

يتساءل جيم الخليلي: ماذا حدث "للعصر الذهبي الإسلامي"؟ أولئك الذين يبحثون اليوم في العالم الإسلامي عن آثار العظمة القديمة للعصر الذهبي الإسلامي عادةً ما يشعرون بخيبة أمل. وقد ظهرت  تفسيرات كثيرة لهذا الأمر، مثل أن الاجتياحَ المغولي عام ١٢٥٨، الذي دمر بغداد وأنظمة الري الحساسة في بلاد الرافدين والذي أدت إلى نهاية العلوم الإسلامية بشكلٍ مُفاجئ.

لا يتفق المؤلف جيم الخليلي مع هذا التفسير. ويقول إن العثمانيين هم الذين لم يواصلوا التطور المجيد للعباسيين، على سبيل المثال من خلال عدم تشجيع الطباعة. كانت اللغة العربية، أشبه بالخط المائل، وغير مُناسبة في البداية للتقنيات الجديدة، كما عرضت طباعة الكتب أيضًا التقاليد الفنية العظيمة للغة العربية للخطر بسبب اختراع الطباعة. وفقا للخليلي، فقد تمت طباعة النُسخة الأولى للقرآن في عام ١٥٣٧ في مدينة البندقية وليس في اسطنبول.

التأثيرُ على النهضةِ الأوروبيةِ:

مراكز الثقافة العربية الأخرى - مثل القاهرة - كانت ستستمر في الوجودِ بعد سقوط بغداد. ومؤرخ مشهور مثل ابن خلدون (١٣٣٢- ١٤٠٨) من تونس الحالية، عاش عندما كانت بغداد بالفعل في حالة خراب. ومع ذلك: لا يستطيع جيم الخليلي أن يُقدم تفسيراً مرضياً للحالة المؤسفة في العالم العربي الإسلامي اليوم. لكن: ألم يستمر المجد السابق لبغداد، وقُرطبة، وغرناطة، والقاهرة في أوروبا، إذ إن "العلوم العربية" جلبت المعرفة اليونانية والفارسية والهندية إلى أوروبا وبالتالي وَلَدَت عصر النهضة؟

 تمامًا مثلما أدى غزو العرب لبلاد فارس إلى نقل الثقافة الفارسية إلى هُؤلاء العرب، فقد وقع المُنتصرون الكاثوليك الإسبان على إسبانيا المُسلمة في أيدي كنوز قُرطبة الثقافية الغنية.كما تداخلت طُليطلة المسيحية مع الروح العلمية للموريين قبل سقوط إسبانيا المُسلمة عام ١٤٩٢.

وأخيراً، سَعَت حركة المُعتزلة للخليفة المأمون في بغداد إلى التوفيق بين الإيمان والعلم. ومع ذلك، ظل العقلانيون في المُعتزلة مُسلمين مُتدينين. وقد حدث الشيء نفسه في وقت لاحق في عصر النهضة الأوروبية، إذ سعى الإنسانيون أيضًا إلى التناغم بين الإيمان والبحث، ومع ذلك وقفوا إلى جانب إيمانهم الكاثوليكي.

قد ترغب أوروبا الوسطى والشرقية والغربية والشمالية تزيين نفسها بالتُراث اليوناني الروماني، بيد إن الإرث اليهودي المسيحي والإسلامي الشرقي تبقى نواقل ثقافية لأوروبا. وفي ضوءِ الجدل المعرفي الواسع حول الإسلام، الذي يستند على معرفة قليلة في الغالب، لن يكون النقاش مُفيدًا إلا إذا أدرك أبطاله حقيقة أن هُناك وقت كانت فيه الثقافة الإسلامية على وجه الخصوص مُتفوقة كثيرًا على الثقافة الأوروبية.

 

...........................

معلومات عن كاتب المقالة:

"هايكوا فلوتاو Heiko Flottau" هو صحافي ألماني عمل كمراسل اجنبي لصحيفة " Süddeutsche Zeitung" في صربيا وفي بولندا ثم عمل في القاهرة كمراسل وخبير في شؤون الشرق الأوسط لصالح صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية طيلة ١٥ عاما  وله مؤلفات منها كتاب "من النيل إلى الهندوكوش - الشرق الأوسط والنظام العالمي الجديد " (٢٠٠٤) (الطبعة العربية ٢٠٠٦) ثم اختتم مسيرته بكتاب بعنوان "الجدار العازل - فلسطينيون وإسرائيليون على أرض ممزقة" (٢٠٠٩) والذي صدر بنسخة عربية عام ٢٠١٢.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم