صحيفة المثقف

ليفناس وفلسفة الحضور الأخلاقي للوجه

ملخص: مع ثورة الأخلاق ضد الأنطولوجيا، لم تعد مسألة أكون أو لا أكون هي المهمة، بل ثمة مسألة أكثر عمقا وأهمية من سؤال الكينونة  وصراعها مع العدم أو النسيان، إنها مسألة المسؤولية عن الآخر، ومسألة أن أكون إنسانا أخلاقيا أو لا أكون، لذلك علينا أن نهجر مخدع الكينونة ونمضي صوب الأخلاقي، ليبقى الهّم الأكثر للإنسان هو المسألة الأخلاقية التي تربط بين بني البشر وليس كينونة الوجود. فالانهمام الإيتيقي يسبق كل انهمام أنطولوجي. "الأخلاق سابقة عن الأنطولوجيا، فخلف حضور الإنسان هناك أسبقية التعامل مع الآخر. فالأنا المتعالي في تجرّده يعود ويستنهض عن طريق  ومن أجل الآخر"(1)

يعبّر ليفناس عن "الآخر" وعن تأثيراته على "الأنا" في تفاعلاته معها بمصطلح "الوجه" (VISAGE) إنه أثر الإله والموضع الذي تتجسد فيه كلمته." لا يمكنني تحديد أي شيء عن طريق الإله. لأنه هو الإنساني من أعرفه. وإنه الإله الذي يمكنني تحديده من خلال العلاقات الإنسانية وليس العكس (...) إنه من مفردات العلاقة مع الغير، أستطيع التحدث عن الإله"(2)

و"الوجه" ترجمة أصيلة عن المسؤولية، لكن ليس كما يفهمها سارتر، حيث يجعلها تقيّد "الأنا"  وتهدده  وتعبّر عن جحيم "للأنا" في تحديد حرياته من طرف "الآخر" الذي يراقبه، بل يصرّح ليفناس بأن "الوجه" يمثل نمط المسؤولية الأكثر أساسية، فوجه الآخر باعتباره كذلك يمثل الاستقامة فهو يعني علاقة بالنزاهة،  وفي العلاقة الناشئة بين "الأنا" و"الآخر" من خلال واسطة لغة الوجه، المتمثلة في تقاسيمه وتعابيره تنتج " محادثات عبر فهم الرسائل التي يوجهها الوجه"(3)

كما لا ينبغي النظر إلى "الوجه" (الآخر) على أنه طرف مقابلة تحتكم بقانون التحدي والاستجابة أو الفعل ورد الفعل، الذي يرجّح في الأخير كفة على الأخرى. فحسب ليفناس "الوجه" يمثل "عينان، أنف فم (...)، الوجه عند ليفناس هو أول شيء يرى للآخر وهذا الوجه ليس بريء. من خلال ضعفه الذي يذكرنا بالضعف الملازم للطبيعة الإنسانية، هذا الوجه ينادينا. إنه يمنحنا مسؤولية  اتجاه الآخر. إنها أول خطوة للأخلاق التي تتجنب إقصاء الغير، وفي نفس الوقت الاعتراف به في غيريته. إنها إذن أول مرحلة للفلسفة التي تموضع "الغير" في قلب علاقاتنا مع العالم.(4)

إن تأويل لفيناس للوجه، باعتباره  تعبيرا عن "الآخر" الذي يتفاعل معي ضمن العديد من الضروريات الحياتية التي تجمعنا، يظهر "الآخر" في حاجة إلى "الأنا" وكأنه يطلب منها المساعدة أو الإشراك في أمر ما حيث أن إقصاء الأنا للآخر يجعله مسؤولا عن موته، بل ويجعله مسؤولا عن قتله، لأنه رفض التفاعل معه ليتركه يموت في وحدته. "إن "الأنا" مذنب اتجاه "الآخر" وملزّم به، ومسؤول عنه، في علاقة أسأل فيها نفسي من هو الأولى؟!".(5)

إنها رؤية رومنسية محضة عن "الآخر"، بحيث من خلال النظرة (Le Regard)، يمكن أن نقرأ في وجه "الآخر" العديد من التعابير، فإما استدراج واستدعاء، أو التماس واستنجاد.. وكأن وجه الآخر يخاطب الأنا بقوله:  أرجوك لا تتركني أموت في وحدتي، وإن أردت أن تقتلني بفعل ذلك، فأنظر إلى وجهي، فإنك لن تفعل. إن الوجه يستدعيني دون أن أستطيع تجاهل نداءه أو نسيانه.

وإنني هنا لأستحضر وجه الطفل الذي يتوّسل شيئا ما من أمه أو والده، يتوّسل وملامح وجهه تقول للمخاطب أنت لن تستطيع بتأثير تقاسيم ومعاني هذا الوجه أن ترفض لي طلبا،" الأنا لا يمتلك فقط الوعي بالإجابة، وإنما يتعلق الأمر بإلزامية وواجب خاص، الذي من خلاله يقرر الاستجابة"(6)

فتستجيب "الأنا" أمام مغريات ّالآخرّ أو لالتماساته فيوّلد لدى "الأنا" مشاعر الحب أو الشفقة. وإما على العكس، تعابير وجه طفل يعنفه والده أو آخر قريب كان أم غريب، وكأنه يقول له: أرجوك لا تضربني أو لا تؤذيني، لا تقتلني.

ويؤكد ليفناس على ذلك بقوله:"(...) هكذا فإن "الوجه" يخاطبني قائلا: لن تقوم بالقتل أبدا، ففي العلاقة بالوجه يتم التنديد بي كمغتصب لمكان الآخر (...) وبالتالي، فإن واجبي المتمثّل في الاستجابة للآخر يعلّق حقي الطبيعي في البقاء كحق حيوي".(7)

إن اللقاء مع "الآخر" يتحدد من خلال حضور الوجه وزيارته "إن زيارة (Visitation) "الوجه" ليست إذن انكشاف العالم في محسوساته، الوجه مجرّد أو متعّر، لقد تجرّد من صورته الخاصة من خلال عراء الوجه(...) إن دلالة الوجه في تجرّده، بالمعنى الحرفي للكلمة، خارق للعادة، خارج عن كل نظام، وعن كل أحد (...) وتجلّي الآخر مطلق الآخرية في غيريته  وعرائه وتجرّده وهو يناديني ويأمرني بأن استجيب له".(8)

هذا يعني تقبّل وقبول النداء والاستدعاء والائتمار بأمر الآخر، كوجه متجرّد ضعيف وذلك بالإجابة بنعم كبرى !. وليس ذلك التجرّد، بالتجرد الذي يظهر عند كشفنا الحجاب أو النقاب عن شيء متخّفي، بل إن التجرّد الحقيقي هو وجه الآخر كظهور يتوّسل إلينا. إنه ذلك الوجه الذي يأتي إلينا من الخارج.(9)

كما يمثل "الوجه هوّية خاصة، تحمل خصوصيات ذاتها للأنا والآخر من خلال الجلد، تقاسيمه وخطوطه الآثار المحفورة فيه، أي أنه يمثل كل لحظات الحضور للآخر".(10)

إن المسؤولية اتجاه "الآخر" عند ليفناس، ليست رهينة تجربة الوعي أو وعي التجربة، كما هو الشأن عند سارتر، إنها مسؤولية مطلقة لانهائية وتجربة أخلاقية، والوعي بالحاجة إلى الآخر، ينكشف من خلالها كوجيتو جديد، هو "كوجيتو الوجه". إنه في الحقيقة كوجيتو عاطفي أخلاقي: أنا أعاني، أنا أتمتع.. إذن أنا موجود".(11)

إن تعابير هذا الوجه ومساءلته تجعل الأنا يشعر بالمسؤولية عن كل ما يحدث للآخر، بل ويكون أكثر مسؤولية من غيره، بحيث لا يلزم الآخرين ولا يلق عليهم اللوم، إذ أنه وحده المسؤول ووحده الملام. إلا أنه، حسب ليفناس، قبل الكوجيتو هناك تحية عند اللقاء (Avant le cogito, il y a bonjour). ذلك لأن الأخلاق في فكر ليفناس تمثل حدث (Evènement)، إنه حدث لقاء مع الآخر الإنساني، الذي نبادره بالقول: بعدك سيدي.(12)

وهذا ما جعل ليفناس يتبنى فكرة  دستويفسكي*(1821ـ 1881) التي تقول "كلنا مسؤولون أمام الكل عن كل شيء وعن الجميع، وأنا أكثر من الجميع مسؤولية".(13)

" إن وجه الغير(Autrui) يضعني موضع مساءلة، يفرغني من ذاتي نفسها، كاشفا لي دائما عن مصادر جديدة(...) إنني أجد نفسي أمام الآخر الذي لا يمثل: لا دلالة ثقافية، ولا معطى بسيط، إنه معنى أولي مستعد للتعبير عن نفسه، إنه عن طريقه فقط كظاهرة، دلالة ما ستنتج عن الأنا في الوجود".(14)

وما يجعل الأخلاق سابقة على الأنطولوجيا ومنفتحة عليها، كونها تحتكم للإمكان وممكنات التحقق لا الوجوب، وبعيدة عن ضرورة الأنطولوجيا، بل قد تتحول إلى ضرورة أخلاقية اقتصادية أيضا، حيث "سيصبح الذهاب إلى الغير بأيد فارغة بخلا. هذا ما يجعل الأنا تضطلع بمسؤولية لا مشروطة أمام الآخر دون أن تكون تبادلية أو تماثلية "أنا كريم اتجاه الآخر، ولا يلزم أن يكون ذلك الكرم خاضعا للمبادلة"(15)

بينما الضرورة والإلزام في الأخلاق مصوّبان نحو "الأنا" دون مطالبة للآخر ودون انتظار أي مقابل منه أو شكر. أي أن المسؤولية عن الآخر ليست مشروطة البتة بمبادلة الإنسان الآخر للمسؤولية حيالي، إذ أن مسؤولية الآخر حيالي، إنما هي من شأنه الخاص الذي لا شأن لي به، فأنا دائما أكثر مسؤولية عن الآخرين من جميع الآخرين دون أدنى استثناء، أي أن هناك تعالي لمسؤوليتي عن كل مسؤولية للآخرين.(16)

ومن منطلق هذه الفلسفة الأخلاقية تظهر ملامح الروح الرومنسية، إذ لا يمكن "للأنا" العيش بمعزل عن الآخر، كما يتجلى فكر اجتماعي أيضا، فالإنسان حيوان اجتماعي بطبعه. إلا أن هذا الاجتماع يجب أن تؤطره قيم أخلاقية تضمن العدالة " مسؤولية الأنا اتجاه الآخر هي مسؤولية لامتناهية، تبدأ مع الإنسان الآخر متمثلا في الوجه الذي يقابلني وجها لوجه، والذي يطالبني بالعدالة من أجل الآخرين جميعا ومن أجل جميع أشكال الإنسانية.

إن اللمسة النهائية لتلك الطيبة التي تتعمق برغبة لامتناهية، تقوم على عدم ترك الغير يتأوّه ويموت وحده، حتى لو لم يستطع الغير أن يفعل شيئا بالمقابل".(17)

إذا كان الأنا في حاجة للآخر ولا يمكنه العيش دونه، إذ لا معنى لحياته دونه، فإن الأنا في علاقته الأخلاقية مع الآخر، لن يفكر في تهديد وجود الآخر، ولن يسمح بتعريضه للخطر. وبالتالي نتجاوز نظرية تشارلز داروين (C.R.Darwin)(1882 ـ 1809) حول "البقاء للأقوى" ذلك لأن الصيرورة الأنطولوجية قد تفضي بقتل الآخرين من خلال فرز الأكثر نجاعة وقوة وإبداعا على حساب من هم دونهم بلا حول ولا قوة .

" تنبثق علاقتي الأخلاقية بحب الآخر، من واقع كون الأنا لا يمكنه ضمان بقائه لوحده، ولا يمكنه أن يجد المعنى في وجوده الخاص بالعالم، في أنطولوجيا الذات عينا".(18)

إننا نحاول التغلب على غريزة الأنانية الطبيعية، فلا مجال للهيمنة في هذه العلاقة، بل المجال، كل المجال للتفاعل والتعايش، وهكذا ينتشر نظام أخلاقي لما هو إنساني بالإعلان عن الحكم الجازم التالي:" لن تقوم بالقتل أبدا !"(19)

وبمقتضى ذلك تستعاض العلاقة الصراعية بين "الأنا" و"الآخر" بعلاقة حب متحرر من كل أطر عائلية قومية أو دينية، إنه حب الغريب للغريب، حب لغربته، فرديته وغيريته، حيث يكون "الأنا "رهين ومرتهن لنداء الآخر، حيث "لم تكن العلاقة والاختلاف بين الذوات في الفلسفات السابقة تمثل إلا التعارض  والتخاصم".(20)

إنها علاقة علو خارج كل  وساطة وكل دافع منشأه جماعة نوعية، خارج كل علاقة عائلية سابقة  وكل تأليف ماقبلي، حب أجنبي لأجنبي، هو أفضل من أخوة داخل الأخوة ذاتها.(21). أي أن "الآخر" لا يدخل في علاقة مع "الأنا"، ولا يمكن أن تعرف غيريته إلا بحضور "الوجه" بكل تعابيره  ومعانيه.

ويمكن فهم الوجه على طريقتين:

1ـ الوجه العاري، لأنه منكشف ولأنه جزء من شكل، أو أنه في سياق وتساوق مع الأشكال المحيطة به. هذا ما يمكن تسميته "بسيميائية الوجه".

2ـ الوجه اللاشكلي _أي ما وراء الوجه كشكل _ حيث لا يمكن التفكير فيه انطلاقا من علاقته مع الأشياء كعلاقته مع الآخر.(22)

إننا نحاول أن نفهم معاني ومقاصد الوجه في حالة عريّه وتجرده، من خلال العينين، اللون والتغيرات الفيزيولوجية. فإن كان الوجه يتقنّع خلف قناع ما، رغبة في خداعنا، سوف تفضحه تلك العلامات والعوارض. شأن الكاذب مثلا: قد يفضح في تلوّن وجهه خجلا، أو في نظرته وجحوظ عينيه."فلقاء الأنا بالآخر الأجنبي الذي يكون تحت إمرته وندائه، هو لقاء بين الأجانب دونما أن يكونوا من الأقارب، فكل فكرة يجب أن ترتبط بالعلاقة الأخلاقية".(23)

ـ رمزية مفهوم الظهر:

على غرار مفهوم "الوجه" الذي اعتبره ليفناس الوسيط الذي يربط بين "الأنا" و"الأنت" في علاقة أخلاقية، يتناول أيضا مفهوم " الظهر" الذي يقول بأنه يمكن أن يكون بالنسبة للإنسان، معبّرا بنفس درجة تعبير الوجه إن لم يكن أكثر.(24)

الوجه يذكرني بإلزاماتي، فالعلاقة مع الإنسان الآخر، هي علاقة وجه لوجه، (Face a face) (visage au visage) كعلاقة أخوية، حيث هناك وحدة إنسانية ومجموع إنساني، وكل الأفراد هم إلى جانب الآخرين ومعهم، وهم ملتزمون داخل مجتمع مشترك.(25)

فبالنسبة للإنسان الوجه والظهر هما مكمن الدلالة بالذات، وقد يقوم أحدهما مقام الآخر ويؤدي نفس الرمزية أو الدلالة التي يوحي بها الجسد أو الإنسان، كونهما وجهين لعملة واحدة، لذلك كان ليفناس يقرأ الكتاب من نهايته، من أجل أن يكشف هذه الخاصية للجسد. وإذا كانت الدلالة ستتراءى أم ستتوارى إذا ما قلبنا منطلق الاستقراء أم لا.

وكذلك فعل ليفناس عندما قرأ رواية "حياة ومصير" (لفروسمان فاسيلي)، حيث استشهد بمشهد تلك المرأة التي تقف في طابور سجن من أجل الاستعلام عن زوجها المعتقل السياسي فيصفها الكاتب:" لم تكن تعتقد من قبل، بأن الظهر يمكن أن يكون معبّرا إلى هذا الحد، وأن يبلّغ بطريقة نافذة حالات النفس، لقد كان الأشخاص الذين يقتربون من البوابة يمددون أعناقهم وظهورهم بشكل خاص، وكانت أكتافهم مرفوعة وكذلك عظام الأكتاف وكأنها مستندة على نصب، وتبدو وكأنها تصرخ وتبكي وتنتحب".(26) 

إيتيقا الإلزام والحرية:

إن أخلاق "الأنا" كما يريدها ليفناس، تجعل الذات تابعة لمعطيات الآخر ومنشغلة بمتطلباته دون إقصاء لا للأنا ولا للآخر، لكن هذه الإلزامية الخلقية، تجعل "الأنا" يتصرّف ويتعامل بحذر نتيجة لحضور وجود آخر، إذن عوضا عن الحرية المستقلة هناك مسؤولية تابعة "وحتى لو تنكرت لمسؤوليتي الأساسية تجاه "الآخر"  بتأكيدي على أن حريتي الخاصة سابقة على كل شيء، فإنني لا أستطيع التخلّص من واقع كون "الآخر" قد طلب مني الإجابة، حتى قبل أن أمارس حريتي بعدم الإجابة على طلبه. فالحرية الأخلاقية هي حرية صعبة.(27)

إن الحرية الأخلاقية صعبة، لأنه يفترض بها أن تكون ملتزمة دائما بتبعيتها للآخر، وكما يفترض أيضا بها أن تبقى تحت مراقبة الإلزامية الأخلاقية، تلك التي توجب على "الأنا" الاستجابة لمتطلبات "الآخر"  ويقدم ردة فعل مناسبة لطبيعة الذات الأخلاقية. لابد من "احترام الآخر في ذاته وفي غيريته، والمحافظة على حريته ".(28)

إننا حتى عندما نفترض أن حرية "الأنا" سابقة على طلب "الآخر"، نعود ونمتحن هذا الافتراض على قانون التحدي  والاستجابة الذي وظفّه أرنولد توينبي(A. Toynbee)(1889 ـ 1975)، أو الفعل ورد الفعل إلى كون الفعل سابقا عن ردة الفعل، أو التحدي سابق على الاستجابة فكذلك طلب الآخر سابق على استجابة الأنا، وبالتالي فهو سابق أيضا على حريتها.

ذلك ما جعل ليفناس يقول: " أن نتفلسف هو أن نصعد إلى ما قبل الحرية (...) إلى ما يحرر الحرية من الاعتباط، بحيث تصبح الحرية نفسها بمثابة الحرية من "أجل ــ الآخر" مشاكلة للمسؤولية "عن ــ الآخر"، وهذا يعني أنه: مثلما أن الإيتيقا تسبق الأنطولوجيا، فإن المسؤولية أيضا تسبق الحرية  وتشترطها فتحوّلها إلى حرية انفتاح على الآخر. أي حرية لاأنطولوجية بخلاف الحرية السارترية التي ظلت أسيرة الإكراهات النظرية للأنطولوجيا الفينومينولوجية لكتاب "الوجود والعدم".(29)

إذن يتميّز "الآخر" بقوة التحريك والاستثارة أخلاقيا، لأنه يفتعل وضعية تستوجب من "الأنا" التعامل معها أخلاقيا والاستجابة لها، كون هذا "الآخر"، وفي نفس الوقت، يتميّز بالضعف إلى جانب القوة، فلولا خصوصية الضعف، لما استجاب "الأنا" أخلاقيا، إما من باب الشفقة، أو من باب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية والإلزام اتجاه مساعدة "الآخر"، هذا الأخير الذي يسبق الأنا أخلاقيا وهنا مكمّن قوته، بينما حاجته لـ"لأنا" تظهره أضعف المخلوقات التي تلزم الاستجابة لها.

" إن الآخر هو أغنى وأفقر الكائنات: فهو أغنى على مستوى أخلاقي، لأنه يسبقني دائما. فحقه في الوجود يسبق حقي، وهو أفقر الكائنات على مستوى أنطولوجي أو سياسي، لأنه لا يمكن أن يقوم بأي شيء دون مساعدتي(...)".(30)

ولذلك فالأسبقية الأخلاقية للآخر، تجعل "الأنا" في حالة من القلق والحذر، وإن كنا غير ملزمين أنطولوجيا في الاستجابة له، بصفتنا أحرار في رفضه والتنّكر له. إلا أن الوعي الأخلاقي يسبق الوعي الأنطولوجي، لتبقى الذوات في تخبّطها بين الدنو إلى صفة الملائكة بالاستجابة للوعي الأخلاقي، والتدّني إلى صفة الشياطين بالاستجابة للوعي الأنطولوجي.

إن الذات التي يقصدها ليفناس هي ذات أخلاقية مستعدة للتضحية بحقوقها وحرياتها أمام نداءات الآخر وحاجاته، ليشعر "الأنا" بإلزام نحو "الآخر" فيقوّم سلوكه ومعاملاته، بمقتضى ما يتناسب ومستلزمات الآخرين. لتظهر الحرية الذاتية، مسألة ثانوية بالمقارنة مع أسبقيتهم.

"إن حرية الذات ليست هي القيمة الأسمى أو الأسبق، فتبعية استجابتنا للآخر الإنساني أو الإلهي كالآخر مطلق، تسبق استقلالية حريتنا الذاتية في اللحظة التي أعترف فيها بأنني أنا المسؤول أقبل بأن تكون حريتي مسبوقة بإلزام  يأتيني من الآخر".(31) إنها مسألة الحرية والمسؤولية وطبيعة تفاعلهما في إطار الأنا الأخلاقي، حيث الوعي بمسؤولية الأنا يجعله في موضع إلزامي أخلاقي اتجاه "الآخر"، إلى درجة تسبيق هذا الإلزام نحو الآخرين على الحرية الذاتية، وما يرغب الأنا في إشباعه من حقوق وحتى رغبات. إنها لحظات من تعالي الذات الأخلاقية التي تروّض وتكبح رغبات الأنا عند تقاطعها مع إلزامات الآخر.

وفي إحالة إلى روح المسرح وتوظيفا له يقول ليفناس:"إنه في الحين الذي أكون فيه متفرّجا، أنا أيضا أكون مسؤولا، معناه أيضا، أن أكون متكلّما، فلا شيء هو مجرد مسرح بحد ذاته للتفرّج، والدراما ليست مجرد لعبة. إن كل شيء فضيع".(32)

إن الوعي بالمسؤولية يستدعي مباشرة تدخل الأنا الأخلاقي الإلزامي، وكأننا نتحدث هنا عن جدلية إثنية كثيرا ما أشادت بها الفلسفات القديمة إنها: جدلية الخير والشر والصراع المتبادل بينها، الذي حينا يرجّح كفة الأول، وحينا آخر، يغلّب كفة الآخر، على حسب حركية التحدّي والاستجابة. فحضور الأول يستدعي الثاني والعكس صحيح، لكن في صيرورة غير ثابتة بل متحوّلة ومتحركّة، كأننا أيضا نتحدث عن أساس المعتقدات الدينية الذي يتمحور حول جدلية التحريض الشيطاني والنصح الملائكي.

إنها مسألة "زمنية النداء والاستدعاء، وبما أن هناك استجابة وإجابة، إذن فهذا يدل على أن هناك على الدوام تأخير. وبما أن النداء يسبق دائما الإجابة، فإن النداء يسبقني على الدوام".(33)

فقد يظهر "الأنا" الالتزام الأخلاقي ويكظم الحرية الذاتية الأنطولوجية، فتتغلّب لغة الأخلاقي على لغة الأنطولوجي."فالعلاقة بين "الأنا" و"الأنت" هي علاقة داخل مجتمع، نحن فيه متساوون الواحد بالمقارنة مع الآخر. أنا للآخر كما أن الآخر لي"(34))

ولا ينبغي ـ من منظور أخلاقي أن تكون تلك العلاقة  متماثلة أو متقابلة "نحن مسؤولون جميعا من أجل الآخرين، لكني أكثر مسؤولية من الآخرين" وهو لا يعني هنا بأن كل " أنا" أكثر مسؤولية من كل الآخرين، لأن مطالبة "الآخر" بنفس ما أطالب به نفسي، معناه تعميم هذا القانون على الجميع، إن هذا اللاتماثل الجوهري هو أساس الإيتيقا، إذ لست أكثر مسؤولية من "الآخر" فقط، بل إنني مسؤول من أجل مسؤولية الجميع".(35)

عندما يخدم "الأنا" "الآخر" من أجل مقابل ما ينتظره منه، أو أن يضعه داخل إلزام من أجل الآخرين إنه في هذه الحالة نوع من الاستغلال، حيث انطلاقا من مسؤوليتي نحوه، أجعله هو أيضا مسؤولا اتجاهي واتجاه الغير، فعلى الذات أن تطالب ذاتها بالإلزام والاستجابة للمسؤوليات دون الانطلاق من مبدأ المساواة في الإلزاميات، فعلى الأنا مطالبة نفسه دون الأخذ بعين الاعتبار ردة فعل مماثلة.

يوظف ليفناس هنا قول ألان جانكيليفتش (A.Jankélévitch) ويمتدح قوله إذ قال:" ليس لنا الحق، إنه دائما الآخر من لديه الحقوق".(36)

فأنا حينما أقول بأن: "الفضيلة تكافئ ذاتها بذاتها" لا أقول ذلك إلا لنفسي، إذ في الوقت الذي أجعل من هذا القول معيارا بالنسبة لـ"لآخر"، فإنني سأكون مستغّلا له. لأن ما سأقوله سيكون هو: كن فاضلا من أجلي، اشتغل من أجلي، أحبني...لكن لا تنتظر مني أي شيء بالمقابل".(37) ولهذا يختلف ليفناس مع مارتن بوبر (Martin Buber) في موقفه من العلاقة الأخلاقية بين " الأنا والأنت" التي يراها كحضور مشترك ومماثل.

على الأنا أن يعمل من أجل الآخر"إن الفرد_ من أجل_ الآخر، هو بمثابة الفرد_ الحارس_ لأخيه وبمثابة الفرد_ المسؤول_ عن الآخر(...)، إنها علاقة بين الشخص الذي أكونه، وبين الآخر الذي عليّ الاستجابة له(...)، من حيث تشكل وحدة وثيقة بين "الأنا" و"الآخر"، إنها وحدة النوع الإنساني الممنونة للأخوة بين بني الإنسانية".(38)

 

د.بن عودة أمينة

..........................

الهوامش:

1)    Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, p 109.

2)    Yasuhiko Murakami, Affection d’appel-Lévinas et la psychopathologie du regard chez les autistes (Cahiers D’Etudes Lévinassiennes), p283.

3)    Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p 04.

4)    Solenn Carof, A-t-on besoin d’autrui (Magazine Les grandes questions de la philosophie, Les grands dossiers des Sciences Humaines), p25

5)    .Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, p112.

6)    Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, biblio essais,1987,p 53.

7)    رتشارد كيرني، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس، من الفينومينولوجيا إلى الإتيقا، حوار مع ليفيناس، ص 18.

8)    Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p, p51, 52.

9)    جون ليتشه، خمسون مفكرا أساسيا معاصرا، من البنيوية إلى ما بعد البنيوية، تر. فاتن البستاني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ط1، 2008، ص 246.

10)  Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p12.

11)  بن عمر، سواريت، الحوار بين الذات والآخر في فلسفة ليفناس، ص 378.

12)  Alain Finkielkaut, Actualité d’un Inactuel, p38.

(*) فيودو ميخايلوفتش دوستويفسكي، كاتب وروائي روسي، ألّف روايات تترجم الحالة النفسية السياسية، والاجتماعية الروحية للمجتمع الروسي، وعادة ما ينسب إليه تأسيس المذهب الوجودي، صاحب الرواية المشهورة "الإخوة كارامازوف"(1880) والقائل على لسان أحد شخصيات الرواية " كلنا مذنبون بذنب الجميع، وأنا أكثر الناس ذنبا"، من رواياته أيضا: الجريمة والعقاب (1866)، المساكين(1846)، الشياطين(1872).

13)  Richard A. Cohen, Chooing and the chosen: Sartre and Lévinas) Cahiers

D’Etudes Lévinassiennes, Lévinas-Sarter), p 64.

14)  Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p, p 49,50

15)  Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, p111.

16)  فرحات، مصطفى كمال، صروف "الكينونة" بين ليفيناص وهيدغر، حرب الإيتيقا ضدّ الأنطولوجيا، ص 145.

17)  روجر بورغرايف، "الملك المعزول" طريق تحليل الأنا بالغير ( كتاب جماعي. ليفناس من الموجود إلى الغير)، تر. علي بوملحم ، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1428ه، 2008م، ص70.

18)    رتشارد كيرني، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس، من الفينومينولوجيا إلى الإتيقا، حوار مع ليفيناس، ص 18.

19)  Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, p 114.

20)  Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme ,p 10.

*)) في حب الآخر على الرغم من غيريته وخصائصه الفيزيولوجية، تقول الروائية الانجليزية "إيميلي برونتي": إن كنت أحبه، فليس ذلك لأنه جميل(...) بل لأنه أنا ذاتي أكثر مني"، أنظر: نور الدين، بلعز، الوجه والإنسانية في الفلسفة الليفيناسية، (مجلة أوراق فلسفية)، ص401.

21)  فرحات، مصطفى كمال، صروف "الكينونة" بين ليفيناص وهيدغر، حرب الإيتيقا ضدّ الأنطولوجيا، ص149.

22)  بن عمر، سواريت،الحوار بين الذات والآخر في فلسفة ليفناس، ص، ص، 380، 381.

23)  Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, p108.

24)  جاك رولان، إنسانية الإنسانية، تر. إدريس كثير، عز الدين الخطابي، ص35.

25)  Philippe Huneman, Estelle Kulich, Introduction à la phénoménologie, p, 134.

26)  جاك رولان، إنسانية الإنسانية، ص ، ص 37 ، 38 .

27)  رتشارد كيرني، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس، من الفينومينولوجيا إلى الإتيقا، حوار مع ليفيناس، ص 22 .

28)  Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p04.

29)  فرحات، مصطفى كمال، صروف "الكينونة" بين ليفيناص وهيدغر، حرب الإيتيقا ضدّ الأنطولوجيا ص 146.

30)  رتشارد كيرني، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس، من الفينومينولوجيا إلى الإتيقا، حوار مع ليفيناس،  ص 22.

31)  المرجع نفسه: ص 22.

32)  Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p02.

33)  فرحات، مصطفى كمال، صروف "الكينونة" بين ليفيناص وهيدغر، حرب الإيتيقا ضدّ الأنطولوجيا، ص 146.

34)  Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance, p111.

(*) قول لأليوشا في رواية "الأخوة كرامزوف" لدوستوفسكي.

35)  رتشارد كيرني، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس، من الفينومينولوجيا إلى الإتيقا، حوار مع ليفيناس، ص 25.

(**)كاتب فرنسي من مجموعة الكتّاب والمفكرين الفرنسيين الذين يسمون انفسهم بـ" الفلاسفة الجدد" معروف عليه توصيفاته العنصرية ضد الأجانب من السود وعرب المغاربة داخل المجتمع الفرنسي، وتمجيده للاستعمار باعتباره حقبة تنويرية.

36)  Emmanuel Lévinas, Altérité et transcendance,113.

37)  رتشارد كيرني، مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس، من الفينومينولوجيا إلى الإتيقا، حوار مع ليفيناس، ص 25.

38)  Emmanuel Lévinas, Humanisme De L’Autre Homme, p, p 10, 11.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم