صحيفة المثقف

القرآن واللغة (1)

مجدي ابراهيمالقرآن يَمَسُّ الحقيقة الجوهرية للإنسان المؤمن مسّاً مباشراً، ينفذ إلى أسرار النفس البشرية نفاذاً بيناً، يُعوّل عليه في كل شئ، ولا يُعوّل على سواه. والتجربة مع القرآن تقرّر الآتي:

لو تخيلنا في الإنسان وجود دائرتين:

الأولى: دائرة الحياة الدنيا بكل ما فيها، دائرة الوجود الحَسّي المحدود، الوجود الإنساني بكل ما فيه من طعام وشراب ومأوى، ومن تربية وتعليم وتزكية وترقية ونجاح وفشل وأوهام وخزعبلات وأمراض وآفات ومطامع ومصالح وسوءات. باختصار : كل ما في حياة الإنسان من أوهام وحقائق.

يُلاحظ أن هذه الدائرة الأولى هى الطاغية، تستغرق جميع أنشطة الإنسان الفاعلة، وهى لا محالة تنحرف به بعيداً عن حقيقته الأصليّة، الجوهرية، والمطلوب هو اكتشاف هذه الحقيقة الأصليّة.

والدائرة الثانية : دائرة الوجود الروحي المطلق، الوجود الإنساني الأرقى، المفتوح لا المغلق، دائرة القرآن على التحقيق، الدائرتان موجودتان في الإنسان المسلم، إذا طغت الأولى على الثانية ضاقت حياته بما رحُبَتْ، وأصبح عرضة للفناء والضياع والتمزق والأطماع والأوهام والأمراض والبلادة الذهنية والعقلية والروحيّة، وغابت عنه حقيقته الأصليّة فلم يستطع اكتشافها في ذاته.

والقرآن باعتباره علماً وفهماً وحكماً وذكراً هو الأقدر على اكتشاف الحقيقة الأصلية في الإنسان، وهو الفاعل دوماً بترقية الوجود الحسي إلى الوجود الروحي، فبالدائرة الثانية، دائرة القرآن، تضيق الدائرة الأولى؛ لأن العلم يُغذي الفهم، والفهم يقوي الحكم، والذكر هو الأفعل دائماً في نشاطها وحيوتها وارتقاء مطالبها إلى أن تسيطر بالكلية على أنشطة الإنسان الفاعلة المؤثرة.

لا تتأتى هذه السيطرة بين عشية وضحاها .. كلا بل الأمر يحتاج إلى دُربّة وعادة ومران مع الدوام وقلة الفتور، وبخاصّة (الذكر) لأنه الوسيلة الوحيدة لضرب الوهم في مقتل، ولإزالة المخاوف، ولتعلق القلب الذاكر برجاءات المذكور وهو الله تعالى.

وشيئاً فشيئاً مع محاولات النجاح والإخفاق، ومع تكرار المحاولات، والاستعانة الدائمة بالله، يضيق الوجود المحدود وتضيق الدائرة الحسيّة، ويتّسع الأفق القرآني وتتسع الدائرة الروحيّة. والأصل فيها الذكر وتغذية الروح العاقل بالعلم والفهم والحكم بدايات الحركة الروحيّة، ثم يكون الذكر بالكلية العماد الأصيل فيها؛ ليتم اكتشاف حقيقة الإنسان الأصيلة.

تلك كانت معطيات ضرورية لفاعلية القرآن (مع التجربة) في النفس الإنسانية، لكنها معطيات قليلة النفع بالنسبة للجاحد المنكر، بعيدة عن اهتماماته ومتعلقاته؛ مع أنها أقرب ما تكون لكل متجرّد يعمل على الصفاء وحُسن التلقي ويتعامل مع القرآن على الفطرة المستقيمة.

وفي إطار صراع الأديان لا تكاملها ووحدتها، كانت وربما لازالت هنالك دعوات صهيونية على الساحة الثقافية تقرّر أنه بغير القضاء على القرآن الكريم لا يتسنى القضاء على الإسلام، ويوم أن يُقضى على القرآن عن طريق إدراجه في قائمة المحفوظات، وأرشفته في زوايا التاريخ، وإهماله ونسيانه، يكون القضاء على الإسلام شيئاً ميسوراً.

لكن الكيفية التي يتمُّ بها القضاء عليه في زعمهم هى اللغة؛ فلغة القرآن لغة عربية فصيحة مُبينة وقديمة - هكذا تجيءُ حجتهم - لا تساير حاجات العصر ولا تتمشى مع مطالب الحياة اليومية لعصر عسير عليه أن يتعامل بلغة ينطق بها كتاب المسلمين المقدس.

وإذا كانت الدعوات الصهيونية تهجم على اللغة العربية باعتبار قداستها المنظور إليها في ميدان الدين، فإنّ جميع الكتب المُقدّسة لا يفترض فيها الصراع إلا من حيث هذه القداسة للغة؛ كونها دينية. فما يُقال عن القرآن فيما لو صحّ على اعتبار أن اللغة الدينية لا تساير عصور العلم فيجب هجرها واستبدلها؛ فحريٌّ أن ينطبق هذا على سائر الكتب المقدّسة في اليهودية والمسيحية سواء.

ومن الغريب أن اللغة لدى اليهود لم تكن باللغة التي تخرج عن الأفق الديني الذي تدور فيه؛ فكانت توفيقاً وإلهاماً من حيث إنهم نظروا إلى اللغة العبريّة في إطار قداستها مع أن قواعد لغتهم لم تقنن إلا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي من قبل يهود إسبانيا.

ومن المؤكد كما يشير المؤرخون أن قواعدهم النحوية مصبوغة بصبغة نحويّة عربية، وأن أهم الأعمال التي قدّمت لم تظهر إلا بعد اختلاطهم بالعرب، واتصال ثقافتهم بالأمم المجاورة، وخوفهم من اندثار لغتهم لانصراف الناس عنها وتعلمهم اللغة العربية. ولم تشأ الدراسات اللغوية اليهودية المستقبليّة فيما بعد أن تنشط خارج الدين، نشأت من خلاله مرتبطة به في كل مراحل نموها وتطورها خدمة للكتاب المقدس، وفي إطاره، ثم استقلت تباعاً رويداً رويداً.

ولقد كان "سعيد الفيومي" عالماً لغوياً يهوديّاً أنتج أعمالاً نحوية، ومعجميّة على غرار المعاجم العربية ممّا جعل "روبينز" يشير في "موجز تاريخ اللغة" إلى أن أصل المعرفة اللغوية العبرية لتفسير الأدب الديني للعبرانيين بما في ذلك كتب العهد القديم، يرتد إلى الدرس اللغوي العربي فضلاً عن أن تطور المعرفة اللغوية عند اليهود في القرون الوسطى يرجع في الأصل إلى التأثير المباشر باللغة العربية.

وليس يُخفى تأثير اليهود بالدرس اللغوي العربي؛ إذ لا يزال التفكير اليهودي إلى يومنا هذا يعتمد في تطور لغته العبريّة معجمياً على المعجم العربي. وقد ذكر بعضهم أن اللغويين اليهود لجأوا إلى حيلة لإقناع شعبهم بما يفعلون، مضمونها أن لغوييهم يدعون أن هذه الكلمات المأخوذة من المعجم العربي أصلها يهودي وقد أخذها العرب منهم، فليس هناك من غضاضة فيما لو تمّ استرجاعها، جرياً على نهج القاعدة :  تلك كانت بضاعتنا رُدَّت إلينا.

واقعياً؛ لم تكن هذه الدعوات على مَرِّ الزمن تخلو من آثار ملموسة تنعكس على المجتمعات بالإيجاب أو بالسلب بمقدار تحققها وتطبيقها واستقبال الناس لها أو صدّهم وعزفهم عنها؛ وشيئاً فشيئاً نرى تحقيق هذه الدعوات المزعومة بين أبناء العربية من جرّاء إهمال لغة القرآن؛ وأسرار هذه اللغة في استقامة التفكير عندهم، فلولا هذه اللغة العربية المُبينة ما عرفنا شيئاً قط عن جملة العقائد : العقيدة الإلهية، وعقيدة النبوة، وعقيدة الإنسان في الألوهية، ولولا اللغة القرآنية ما وضحت أمامنا معالم الحقوق يؤديها الإنسان المسلم؛ فيكلفه القرآن بتأديتها ثم تنبثق عنها واجبات مفروضة بمقدار الحقوق التي له أو عليه. لولا اللغة القرآنية ما ظهرت أمام العقول أسرار العبادات والمعاملات؛ فمثل هذه الأسرار لا تتجلى بلغة أخرى غير اللغة التي نطق بها البيان الإلهي.

فلهذه اللغة القرآنية أسرارها ممّا يبيّنها القرآن في لغته الفصيحة وأسلوبه المتفرِّد ورمزيته الدالة، فلو كانت لغته لا تتناسب مع حاجات العصر لامتنع وجود الحقوق العامة للإنسانية بل والحقوق والوجبات الإنسانية الخاصّة ووجود المعارف المتعلقة بها، وهى بلا شك معارف تدل عليها لغته. وإنما لغة القرآن أكثر رقياً وتهذيباً فيما لو أنها مَسّت قلوباً مستعدة، فهزت ضمير الإنسان : جوفه وباطنه، وتغلغلت في أعماق طواياه، وأنه كلما رأى منها مثل هذا التغلغل الباطني أو مثل هذا التماس الداخلي؛ رأى من ثمّ حياته الحقة في ظلال القيم العلوية تترقى بارتقاء هذه البواعث الوجودية الضابطة لحركة النوازع السائرة :

لغة أقل ما يُقال في حقها من رقي إنها دليل حياة صالحة للبقاء، بل أقل ما فيها من رقيّ أنها مصدر لخلود الحياة؛ إذْ الدلالة فيها تربط الدنيا بمسائل المصير بمقدار ما تربط الفاني بالباقي، والمحدود بالذي لا حدود فيه، وتصل جهود الأرض بقيم السماء. وإنه؛ كلما نظر القارئ لهذه اللغة بعين الإيمان بخصوصيتها - ولا أقول قداستها - إلى حقائق الحياة، وجد هنالك لغة القرآن خيرَ معين له على الاستبصار في هذه الحياة واستكشاف ما خفىَ منها من وجوه وظلال، في حين تتبدَّى أمام غيره ممَّن لم ينظر مثل نظرته، حقائقها غير واضحة ولا مجلوة؛ لتكون مثالاً صارخاً للتخبط البادي في الظلمة والاضطراب.

وممّا يكشف له هذه الحقائق أن ينظر إلى مقررات اللغة ومقوماتها، تلك التي تضمّنت أسرار الحقائق جميعاً في لفظ يهدي ومعنى يرشد ويبين، ينظر إليها بعين الإيمان لا بعين الجحود والنكران، وأنه كلما داوم النظر لحدّ التعلق بعين الإيمان؛ استطاع أن يتكشف بفضلها أسرار الحقائق الحياتية؛ لأن الإيمان إذ ذاك يستحضره ويربيه؛ فيصقله ويقوّمه ويهديه، ثم يطلعه من بعدُ على الحقائق الجوانيّة الباطنة باللغة التي هى فيه؛ شريطة أن تكون العين الناظرة عين "إيمان" مجرّدة عن التعطيل، كاشفة للسّر الكامن وراء حجب الألفاظ والعبارات، مستجلية للرمز خلف الصور اللغوية، تتبدّى فيها الحقائق وتتكشف في أصل عنصرها الرفيع : الاستجابة للحياة القويمة من دعوة الله ورسوله.

وربمّا كان أقربُ الأدلة على تأثير الدين في اللغة من الزاوية اللفظية والدلالية هو الصيغة الجديدة التي أعطاها الدين (الإسلامي) في القرآن لكلمات مثل : الصراط، الميزان، الحساب، الآخرة، الزكاة، الحج، فتلك مفردات اصطلاحية وجدت في القرآن وحُمِّلت بمعان ودلالات جديدة لم تكن معروفة بالقدر الكافي قبل مجيء الإسلام. وعليه؛ فللدين من ثمَّ معطى لغوي يحفظ اللغة ويحافظ عليها من حيث إنها وسيلة اتصال بالله من خلال القرآن الذي يُتلى والأدعية التي يُتَعبَّدُ بها.

من زاوية أخرى؛ يُلاحظ أن لغة الدين نفسها تفرض على فئات المجتمعات المختلفة ذاتها؛ فالتعابير الدينية لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات؛ كالقسم والسلام والتحية والحوقلة والتهليل والترحُّم على الأموات واستحضار الله في مناسبات شتى إلى آخر هذه التعبيرات التي لا تعدم منها مجتمعات الأديان. ولا يخفى ما للغة من تأثير بالإيجاب في نشر الدين؛ فكما يؤثر الدين في اللغة ويطورها ويضيف إليها دلالات جديدة، كذلك تؤثر اللغة في الدين وتساعد على فهمه بالصحيح المقبول، وبخاصّة حين تكون اللغة هى لغة الدين التي نزل بها كتابه المقدّس.

وأبعدُ من ذلك : أن تؤثر اللغة في صحيح الدين فيما لو استقامت، وإذا هى انحرفت، انحرفت معها لا محالة مقاصده الحيوية على الجملة، وفهمت الدلالات الدينية على غير وجهها الصحيح. ولم يكن بعيداً عن الصواب أن تشترط الدراسات الحديثة لتجديد الخطاب الديني، لزوم تجديد القوالب اللغويّة التي تتضمّنه، لأن اللغة أقرب الموارد لفهم الصحيح من الخطأ، ولمزايلة الفاسد المعطوب من المستقيم الذي لا عطب فيه.

إنمّا اللغة وسيلة اتصال وتفاهم ليس إلا؛ فتجديد قوالبها ليس تجديداً للحقيقة الدينية في ذاتها بمقدار ما هو تجديد للفهم وترقية للوسيلة في رحاب هذه الحقيقة، ضمنها وفي محتواها المعرفي، لا خارجها أو خارج حقائقها الاعتقادية.

(للحديث بقية)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم