صحيفة المثقف

الآيديولوجية بين مفهوم الدولة والبعد السياسي

الآيديولوجيا من "علم اللغة الفرنسية، إلى اللغة اليونانية القديمة"، مفهوم مركب من كلمتين "إيديا" idéa، بمعنى "فكرة" وكلمة "لوجوس"  logos التي تعني "علوم التدريس"، الدارج بالعربية "منطق" ووفقاً للرؤية العالمية المعاصرة بـ "نظرية الأفكار". لكن مفهوم الأيديولوجيا كمصطلح حديث في علوم السياسة المعاصرة كما يبدو، قد استقى تعريفات عديدة، ألا أنه، الشكل الأكثر تكاملاً للافكار والمعتقدات والاتجاهات السياسية الكامنة في أنماط سلوكية معينة. كما يفترض كارل ماركس، بالإشارة إلى "الوعي الساذج" للمجتمع. ومن ناحية أخرى، يشير علم الإجتماع إلى أن التعريف الدارج في الولايات المتحدة، يُطلق على كل نظام معايير أيديولوجية تستخدمها مجموعات أصحاب القرار لتبرير وتقييم أفعالهم وأفعال الآخرين على النحو الذي يتطابق مع أفكارهم. ألا أن هذه الإيديولوجيا، وفقاً لماركس وإنجلز، تعكس: الأفكار ووجهات النظر العالمية التي لا تستند إلى أدلة وحجج جيدة، إنما تجسد العنف للهيمنة على الحكم.. اذن الأيديولوجية، لها مجموعة غير ثابتة من المفاهيم والمعاني، بعضها حصرية، يمكن للمرء أن يصفها على أنها نص منسوج من مفاهيم مختلفة، ومختلفة بخطوط تقليدية متباينة. طالما يتم ضخها بقوة في مفهوم نظري. 

ويبدو ان مصطلح "أيديولوجيا" أو "أيديولوجيات" هو مفهوم مركزي، ولكنه في نفس الوقت مفهوم مثير للجدل ومتعدد الأوجه في علم السياسة، إنما محمل أيضاً بالعديد من الدلالات التي تم تطويرها في فرنسا ما بعد الثورة في 1789 لتبرير الأفكار السياسية تاريخياً. تحت تأثير كارل ماركس وفريدريش إنجلز، أصبح مصطلحاً دلاليا للنضال السياسي الذي يستهدف في المقام الأول وظيفة استقرار الفلسفات السياسية الراسخة. فقط في القرن العشرين، نتيجة ترابط وسائل وقوى الإنتاج، وجد في مصنع "كارل مانهايم" Karl Mannheim's الألماني، ظهور مفهوم محايد جديد "للإيديولوجية"، مرتبط بعلم الاجتماع. تحت تأثير الديكتاتوريات الشمولية، سرعان ما ارتبطت مرة أخرى بشكل أساسي بالقوى الشريرة التي ترسم صورة مشوهة للعالم من أجل التأثير على الناس من حيث السياسة وإضفاء الشرعية على نظام الحكم. عندما تم الإعلان عن "نهاية الإيديولوجيات" في أوائل الستينيات، نظرا للاحداث السياسية ـ المجتمعية والحروب التي عصفت في العديد من الأماكن، كان لابد للمصطلح أن يثبت نفسه من جديد في العلوم الاجتماعية كمصطلح عام للتيارات السياسية الرئيسية في العديد من الدول المتطورة.   

أدى تباين الأفكار والعقائد والثقافات السياسية، بشكل أساسي، من خلال انعدام حرية التعبير واستقلالية المعتقد او عدم التجانس الديني والعرقي، إلى العنف الآيديولوجي، وبالتالي إفراغ الفكر السياسي من محتواه المجتمعي بإتجاه التوجيه نحو الصراع بين مصطلحي "يسار" و "يمين"، اللذان أديا الى محدودية أسس السيادة وبناء الدولة الوطنية وضمان مصالح المجتمع وتطورة.. السؤال اذن، ما العقيدة المناسبة لتعريف مفهوم الأيديولوجيا فيما يتعلق الامر بمفهوم الدولة؟ ومركزيتها. في بلد كالعراق مثلاً، يفتقر الى الإنتاج العملي للمعاني والعلامات والقيم في الحياة الاجتماعية، وإلى العديد من الأفكار المميزة لطبقة اجتماعية ذات دوافع وطنية واجتماعية معينة، تقف حائلاً لصعود قوى لا تستطيع الفرز بين الآيدلوجيا والسياسة فيما يتعلق بمسألتي السلطة ونظام الحكم، بعيداً عن وهم المفاهيم الخاطئة.الأمر الذي أدى بالوسط الذي يختبر فيه الأفراد من الواقع اللغوي للظواهر، علاقاتهم كبنية اجتماعية عملية تحول الحياة الاجتماعية إلى واقع طبيعي يتصرف فيه الأشخاص اجتماعيا وفقاً لمعتقدات موجهة نحو العمل بوسائل وهدف ذا معنى، داخل ـ أو مع الدولة، إلى الجمود واللاأبالية أزاء ما يحدث سياسياً.  

إن النقاشات الأيديولوجية حول مفهوم الدولة بالنسبة لبعض المراقبين للسياسة الدولية لم تنته أبدا. فقد ورد وفقا للمتخصص في إدارة الأعمال والمؤلف الياباني أوما كينيشي Ohmae Kenichi، أن الدولة كشكل "سياسي" أخذ منذ فترة طويلة حقه التاريخي في الوجود. فيما أعتبرته، العالمة الاجتماعية والباحثة في مجال الاقتصاد السياسي الدولي، البريطانية سوزان سترانجSusan Strange  إنقاذا من الانجراف المتسارع، بعيدا عن التماسك الاجتماعي، لهجوم عالمي "نيوليبرالي" للتحرر من دولة النظام السياسي. آخرون لا يؤمنون بنهايتها، لكنهم يرونها فقط كممثل من بين العديد، وأيضا كجهاز لا يستطيع المرء الاعتماد عليه وحده. فهم يعتقدون من وجهة نظر ميشائيل تسورن Michael Zürn أستاذ الشؤون الدولية ومدير قسم "الحوكمة العالمية" في مركز برلين للعلوم والبحوث الاجتماعية: إن حكم الدولة يتطلب الاحتواء والسيطرة من قبل المجتمع المدني، وإلغاء نفوذ الآيديولوجيا الدولية. حتى الآن، كانت الدول هي الأساس المحدد لما نسميه بالعلاقات السياسة العامة، كالسياسة الدولية أو النظام الدولي أو العلاقات الدولية. ومع ذلك، فإن كل هذه التقييمات تشترك في شرط أساسي بناء: الدولة، لا الأيدلوجية، تشكل الهياكل الحاسمة، أو النظام التكاملي لفرض سلطة الدولة وسيادة القانون. المسألة، ما إذا كانت ثمة تجارب تاريخية محددة تم "دمجها" لفهم ما يمكن تسميته الإنتاج العملي للمعاني والقيم في الحياة الاجتماعية على أساس السياسة بمفهومها العالمي. إذا كان هذا هو الحال، فيمكن للمرء أن يتحدث عن الدولة كأيديولوجية، بالطبع ليس بالمعنى الماركسي، كوعي ناتج عن ظروف معينة، ولكن بمعنى عقائدي مدعوم بعلاقات وأفكار وتصورات قوية معينة.

وفيما إتسع نمو الأفكار الآيديولوجية للسياسة بين الأوساط الجماهيرية، احتد المشهد السياسي نحو الشعبوية بشكل سلبي إلى حد كبير. هذا ليس أقله، بسبب التعبئة الديماغوجية من قبل القادة الكاريزميين الشعبويين. إنما أيضا بسبب اعتراض الآباء الدستوريون على طرق التمثيل الديمقراطي وامتناعهم عن إضفاء الطابع المؤسساتي على الآليات الديمقراطية المباشرة لصنع القرار السياسي. وفي الغالب يجري افتراض خصم سياسي، وتبسط القضايا المعقدة من أجل التوافق الانتهازي لجعل رأس المال السياسي عديم الضمير. أصبح هذا الاتهام لا غنى عنه في المناقشات السياسية حتى اليوم. بيد أن هناك دراسات عالمية تجريبية مقارنة حول العلاقة بين الأيديولوجية والقيم. هذا التحقيق مهم وفريد من نواح عديدة تتحدث عن عمل مجموعة من علماء الاجتماع من ثمانية بلدان. اجتمعت تسع مرات منذ عام 1971 لمناقشة النظرية والمفاهيم القيمية المتعلقة بـ "الآيديولوجية" على نهج تحقيق خلاق المتطلبات الفنية لتحليل البيانات المتعلقة بشروط السلوك السياسي غير التقليدي للحركات الشعبوية Populismus التي تصنف "يمينيا" في أوروبا. وغالبا تُظهر نفسها بأسلوب سياسي معين لاكتساب السلطة، فقط في بعض الأحيان لا تظهر في العلن كاستراتيجية أو جزء من الأيديولوجيات الفردية. 

وتشير الدراسات والإختبارات في مجال العلوم الاجتماعية إلى: كما الديماغوجية قد لعبت دورا ضليعاً لتعبئة الشعبويين، فأن للأيديولوجية أثراً هاماً على تفكك جزئي للعقيدة الدينية وتحولها إلى العمل السياسي. بيد أن الدين هو نمط من المعتقدات والرموز التي تحتوي على عبارات حول عالم آخر يتجاوز العالم الدنيوي، وليس نظام عام للوجود البشري - الفلسفة تفعل ذلك. المستشرق الهولندي جاك واردينبورغ Jacques Waardenburg، لا يعتبر المعتقد أنه "مدونة تفسير" و "نظام نمط حياة" بحد ذاته. بدلا من ذلك، نمط ينظم كيفية التعامل الديني مع المُقدس و ـ أو مع السمو. ويرى بان الأديان هي أنظمة توجيه: تشمل عناصر وسلوكيات محددة للغاية، مثل فكرة وجود كائنات روحية تتعلق بالقوى والعلاقات الدينية التي يمكن للمرء التواصل معها. بالإضافة إلى امتلاكها معايير وقيم تعتبر صالحة بإتجاه دنيوي محدد.. فيما يذهب أستاذ علوم اللاهوت الأساسي، الألماني زغفريد فيدنهوفر Siegfried Wiedenhofer، الى ان: الاعتبارات القانونية والفلسفية بشأن اللاهوت "الدين السياسي" والأشكال المختلفة لما يسمى بـ "الدين المدني" تقف على عتبة التناقض بين المعتقدات الدينية والسياسية. ويمكننا تعريف "اللاهوت السياسي" بأنه "تفاعل الدين والسياسة". وتبعا للحالة، يمكن أن يكون "لاهوت السياسة" أو العكس بالعكس "تسييس الدين" لاحتواء السياسة. شهد علماء اللاهوت في العصور القديمة استخدام الدين من قبل السياسة لأغراض خاصة. في ذلك الوقت كان لها أشكال مختلفة: "التغيرات اللاهوتية للقوى والظواهر الأكثر علمانية، "تعبير" التأليه الذاتي الاثني - اثني، "رموز" دنيوية مقلوبة ومتشابكة. فبدلاً من جعل اللاهوت "الدين"، مع خيبة أمل العالم، قابلاً للاستخدام من قبل السياسة، أصبحت عملية الدين سياسية.

في هذا االشق فيما يتعلق بمسألة الحكم في العراق منذ إنقلاب البعث 1963 مرورا بما بعد الإحتلال عام 2003، بكل تفاصيله كـ "تجربة" سياسية متأثرة بالعنصر الطائفي، الديني ـ العرقي، على مدى سبعة وخمسون عاما، وفقا للظواهر والدراسات، بإختصار: فان ناتج المقارنة حول العلاقة بين الآيديولوجية والدين، قولا واحدا مخيباً. إذ افرز تصنيفات على غير الشكل التقليدي من عدم الرضا تجاه سلوك الأحزاب التي أساءت استخدام السلطة وفي الغالب تمادت في اضطهاد الآخرين والتجاوز على الحياة المدنية والقانون. إلى غير ذلك فإن طبقة رجال الدين لم تتردد من دعم سلطة الدين السياسي "الشيعة" على الرغم من مآثرها السيئة ومنها التفريط بأمن الدولة وسيادتها. نتج عنه مؤخراً، إنتهاك دولتين إسلاميتين جارتين، تركيا وإيران، على حرمة العراق، مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا الأبرياء بالإضافة إلى حدوث دمار واسع. وقامت تركيا أمام أنظار الأكراد في شمال العراق وبعمق 30 كيلو متراً، ببناء 20 قاعدة عسكرية وإستخباراتية. كل ذلك، يدلل، من وجهة نظر سياسية لا آيديولوجية، بأن الدين السياسى ـ والديمقراطية على أساس مفهوم الدولة الدستورية، أمران متعارضان بالشكل والمضمون جدلياً.

 

عصام الياسري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم