صحيفة المثقف

السلطة الدفينة

"هل نحن أحرار" سؤال كثيرا ما حيّر العقول وأزعج راحتها، بل وشكك في قابلية الفكر في التعاطي الصريح والواضح مع تداعيات الإجابة عنه بشكل حاسم جازم. هل كوننا نفعل ما نشاء يعني أننا نمتلك إرادتنا في التصّرف والاختيار؟ أم أن الحرية الواعية والعقلانية تستلزم من الشخص إرادة وقدرة وسلطة الامتناع عن الفعل بقدر إمكانية وحرية فعله؟.

نعم تلك هي الإشكالية المطروحة خارج ما كان متداولا في أوساط فلسفة المتكلمين الأوائل، خارج سؤال هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ هل هو من يصنع أقدراه أم أنه ينساق من غير طواعية لما تنسجه له تلك الأقدار الجارية؟؟

أسئلة كثيرة تتبادر للأذهان والحقيقة أنها تتمحور حول سؤال واحد وموضوع وحيد: هل هناك سلطات محددة لما أقوم به وما امتنع عن فعله؟ إنه ولا ريب موضوع "السلطة".

تختلف السلطات التي تمارس علينا باختلاف قواها التي نخضع لها طوعا أو كرها رغبا أو رهبا. حيث تمارس علينا الطبيعة سلطتها فيزيولوجيا، جيولوجيا وفي كل المجالات. قد تكون ظروفها القاسية أكبر حافز لتحررنا من حواجزها وعوائقها من خلال الطاقات الإبداعية والخلاقة التي نحاول أن نذلل بها صعوبات الطبيعة والتجاوب معها كتحدٍ يستدعي استجابة مناسبة وناجحة، وأحيانا تكون إمكانية التأقلم مع ظروفها أحسن ما يمكن القيام به.

تلك هي سلطة الطبيعة كقوة غير واعية تطبق على كائن واع، لتجد نفسك أمام حرب بين قوة الكون المطردة الجارية بقانون ثابت محدد وموّجه لا يختل، وبين قوة العقل والتفكير والنظر في احتمالية التدبير الذي يجعلنا نعادي الطبيعة ونحاول التغلب عليها، أو أن نعقد معها هدنة أو معاهدة صلح وسلم دائم  نتعايش من خلاله مع المجريات المحتملة، فلا ضرر ولا ضرار.

ولكن أن تكون صديقا للطبيعة لا يمنعك من ضرورة الحذر والاحتماء منها لأنها صديق غير واع وغير مختار لأفعاله، حيث أنها وإن كانت مسخرة لك فإنها لا تنفعك عن إدراك ولا تغدر بك عن إصرار وقصد إضرار، نفعها لا ينبع عن حب وغدرها لا يتولد من كره. إنها قوة غير واعية.

وقبل مصادقة الطبيعة، نحن أبناءها بالأصل تسري علينا نواميسها، هذه الأخيرة التي قد لا ترضينا في كل الأحايين لكننا نحاول التأقلم مع مزاجيتها المتقلبة، نستجدي عطفها وموالاتها. لذلك كونك قادر على التكيّف مع الطبيعة والاستمتاع بخيراتها وتجنب غضبها هو أقصى ما يمكنك أن ترتجيه من أم قاسية أو صديق متقلب المزاج، لكنك ستتعلم في كل الأحوال، هي دروس مجانية إن خرجت منها منتصرا، أما إذا راوغتها وحاولت مداهمة خصوصيتها، قد تدفع حياتك ثمنا لذلك. وعليه لتكن دائما منتصرا في معتركك مع الطبيعة لأنها وإن كانت عظمتها في قوتها المدمرة فعظمتك كإنسان هي في قوة عقلك وفي قدرتك المعمرة. وتلك أحسن نتيجة قد تتوصل لها فترضيك إلى حين تشوّف قيمة أخرى فيها تستحق الملاحقة.

وليس بعيدا عن سلطة الطبيعة الأم، هناك السلطة الاجتماعية التي يمثلها الأبوان، الإخوة وكل ضمير جمعي يؤثر على طبيعة السلوك الذي نقوم به ووفق أطر وقوانين قيمية أخلاقية وحتى معنوية عرفية. بينما قوة هذه السلطة ليست بتلك الدرجة الشديدة والكبيرة التي تمارسها الطبيعة عليها، إذ قد تنسّل وتتبرأ من تلك العادات وسلطتها وتنتشل نفسك من قهرها.

هذا ودونما الحديث مفصلا عن سلطة القانون الردعي، حيث تختار سلوكياتك على حساب ما تختاره من نتائج مرجوة: جزاء أم عقابا. لتجد نفسك محكوما عليك بالحرية لأنك ستكون مسؤولا عن كل تداعيات أفعالك. وللمسؤولية نصيب وفير في رحلة التحرر تلك التي تجعلك تشعر أنك كلما كنت أكثر حرية، كلما كنت أكثر مسؤولية، وهذا يدفعنا لإعادة النظر في مفهوم الحرية والإلزام والتحرر من كل إلتزام. هنا نحن بحضرة المحظور الذي إذا حضر حضرت معه الرغبة الجامحة في التخلص من سلطته.

بل حتى في مجتمع السجون تشعر بنسبة من الحرية تأخذ في التضاؤل كلما تمرّدت على قوانين ذلك المجتمع المغلق الردعي، ليكون أفضع عقاب لك داخل العقاب نفسه هو أن تكون سجينا منعزلا منفردا متفردا بقبحك وجرحك مقصىا من أي تفاعل مع الآخرين. سجن داخل السجن وعقاب داخل العقاب أفضع ما قد توصلك إليه حريتك. وقد تكون سجين أصوار نفسك دونما حاجة إلى تلك الأصوار الإسمنتية المضاعفة وتلك المساحات الشاسعة الضيقة، تضيق بك الدنيا ونفسك بما رحبت. هنا بالذات تعرف معنى القول بأن الكائن الإنساني كائن اجتماعي.

أما عن سلطة الروح والعقل والغريزة فهي بمثابة التفاعلات الكيميائية إما أن تنتج لك نتاجا نقيا نبيلا مفيدا وإما أن توّلد مركبا خبيثا ملوثا فيروسيا مؤذيا. فكما قد ترتفع بك الروح وتعلو إلى أرقى المشاعر الروحية الراقية والنبيلة متجردا من محسوسات الشهوة وملذات الرغبة وتنقذك من درك الشقوة مستلذا العذوبة في العذاب واللذة في الألم، والارتواء في عطش المحبة اللدنية والعرفان النوراني، فكما تفعل بك الروح وسلطتها ذلك، كذلك قد تهوي بك سلطة الغريزة إلى مرتبة الحيوانية في أبشع وأوحش حالاتها إلى حد تتلبسك روح خبيثة فتصبح إنسانا متشيطنا.

ولك أن تتخبط في أوجاع الندم إن عرف فيك الضمير صحوة فلا حل إلا بالعودة إلى تدبير العقل والتفكير السليم دون التنّصل من سلطته، والتحصّن في قلاع الروح النديّة النقيّة، حينذاك تقول "لكل جواد كبوة ولكل فارس غفوة"..

 

د. بن عودة أمينة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم