صحيفة المثقف

الحاكم وسيكولجيا القرارات في زمن الازمات

قاسم حسين صالحالعبادي والكاظمي انموذجان

تعني الازمة، بمفهومها السياسي، عدم القدرة على حل قضية او اكثر والوصول الى تفاهمات بين اطراف الازمة (أحزاب، كتل، مكونات..) ينجم عنها الترقب والحذر والشك الواقعي أوالمرضي (البارنويا)، والتهديد بتصفية الآخر او اضعافه، بهدف الوصول الى السلطة والاستفراد بالثروة، وتحقيق اهداف سياسية او معتقدات دينية او ايديولوجية.

ولقد اثبت واقع الحال، ويثبت، ان حكومات المحاصصة منتجة للأزمات لسببين سيكولوجيين، الأول: ان السياسي العراقي (أحول عقل) وهو مصطلح جديد ادخلناه في علم النفس العربي، والثاني: اشغال الناس بهموم الحياة البائسة التي خلقتها هذه الحكومات، وتضاعفت فيها اخطر ثلاث ظواهر اجتماعية: الطلاق والانتحار والمخدرات.. و(ألحاد)، والنظام تحكمه أحزاب اسلام سياسي!

والحقيقة السياسية ان العراق من 2003 لغاية 2020، ليس (دولة) بمفهومها الذي ينبغي ان تحظى بالهيبة ويسودها الأستقرار السياسي والأمني، وتعمل فيها المؤسسات بشكل تكاملي لخدمة المواطن وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.فالعراق هو البلد الأول في العالم من حيث حجم الضحايا الذين بلغ عددهم، بحسب تقرير (كوبلر)ثلاثة آلاف قتيل في اربعة اشهر من عام 2013 فقط، وقائمة طويلة في الاعوام التي تلته، تستهدفهم القوى الارهابية وميليشيات تابعة لقوى سياسية طالت حتى الأطباء الذين قتل ثلاثة منهم بعد يومين من مصادقة مجلس النواب على قانون حماية الأطباء!.والعراق هو الأول عربيا والثالث عالميا في الفساد، وهو الوحيد الذي يدفع رواتب تقاعدية خيالية لأعضاء البرلمان والدرجات الخاصة والمستشارين.. وصلت نسبتها في ثمان سنوات الى 40% من الميزانية السنوية التي زادت في حينها على 120 مليار دولارا فيما ربع العراقيين يعيشون تحت خط الفقر.والوزارت موزعة وفق حصص حزبية وطائفية وقومية.. وعوائل!، وكل وزارة تعمل لصالح الجهة التي ينتمي لها الوزير، الذي يعمل على وفق التوجيهات التي يتلقاها من الجهة التي رشحته.

وما حصل هو ان السياسة حكمتها مسألتان: الصفقات التي وصفها المتحالفون انفسهم بانها فقدت المبدئية والقيم الاخلاقية، واتسمت بالغدر والخيانة، وخلق الأزمات واحتكارها.وما يجعل الازمة خطيرة في العراق انها مفتوحة على جميع الاحتمالات، ويزيد صعوبتها، انعدام وجود آليات لحلّها.فمجلس الوزراء يفتقر الى نظام داخلي واضح يحدد أداء السلطة التنفيذية، ويضبط عمل الحكومة. والتقاطعات والتضاربات في الصلاحيات داخل الحكومة ذاتها، وبينها والبرلمان. ووجود مواد في الدستور يصفها قانونيون بأنها (حمّالة اوجه).وطبيعي أن يفضي هذا الكّم المعقد من القضايا الشائكه الى ثلاث حقائق سيكولوجية: خلق تشوش فكري لدى متخذ القرار يضطره التركيز على القضايا التي فيها خطر عليه، وتعميق روح الشك بالآخر بين الفرقاء في برانويا سياسية، وتقوية الانتماءات والولاءات للأحزاب والعشائر ودول خارجية تفضي بالضرورة الى اضعاف الشعور بالمواطنة والولاء للوطن.

حيدر العبادي

بعد جمعة تظاهرات العراقيين التاريخية في السابع من آب2014، اضطر العبادي او ارتاى تقديم حزمة اصلاحات في التاسع منه، تلتها احداث درامية. وكانت اغلبية العراقيين تفترض حسن النية فيه وانه صادق فيما يقول.. لكن الرجل كان يمشي في طريق كله الغام.وما يعنينا هنا.. قضيتان لهما بعدان سيكولوجيان، هما نوعية القرارات التي يتخذها وعلاقتها بمطالب مواطن موجوع مفجوع، وصراع الاضداد في كيفية تعامله بالشكل الذي لا يلحق ضررا به وبحزبه. 

وسيكولوجيا، تتحدد، القرارات بثلاث آليات هي:

الأولى: البدء بالقرارات الأصعب نزولا الى القرارات الأسهل،

الثانية: البدء بالقرارات الاسهل صعودا الى القرارات الأصعب،

والثالثة: تنفيذ القرارات الاسهل والتوقف عن تنفيذ الاصعب.

ان القائد الذي يعتمد الآلية الأولى يتمتع بشخصية الواثق من نفسه ان اعتمد على جمهور واسع يمثل المجتمع لا على المغامرة، فيما تمتاز شخصية الذي يعتمد الثانية بالحكمة والتأني والعقلانية، وبعكسهما.. تتصف شخصية من يعتمد الثالثة بالتردد. 

وكان العبادي قد اعتمد اولا الالية الثانية، بأن بدأ بتنفيذ القرارات التي لا تلحق به وبحزبه الأذى او الضرر.. ما يعني انه اعتمد الحكمة والعقلانية والواقعية.وبما أنه تجنب الآلية التي تريدها الجماهير بأن يبدأ بالقرارات الصعبة، فقد توقعنا حينها انه سيمارس الالية الثالثة( الاستمرار بتنفيذ القرارات الأسهل والتوقف عن تنفيذ القرارات الأصعب).. ما يعني انه سيتحول في النهاية الى شخصية مترددة من وجهة نظر المتظاهرين.. يؤيد ذلك استطلاع تبين منه ان ربع المستجيبين فقط توقعوا ان العبادي سينجح فيما الغالبية افادوا بأنه (ليس بيده شيء للتغيير، يريد ان يغير ولكن مافيات الفساد اقوى منه.. ولقد اعترف بعجزه عن مواجهة الفاسدين في خطابه بجامعة بغداد لأنهم(يملكون المال، فضائيات، قدرات، يستطيعون ان يثبتوا انهم الحريصون على المجتمع، وهم الذين يحاربون الفساد، ولكنهم آباء الفساد وزعماء الفساد 27/11/2017).وخلصنا الى (ان قراءتنا السيكولوجية للسيد حيدر العبادي هي انه لم يستثمر فرصة تاريخية تجعل منه رجل دولة وبطلا شعبيا، ولأنه اضاعها، فانه سيعود الى سابق وضعه، بعد ان اوصل الناس الى قناعة بأنه (هاوي.. ولكن ما ناوي).

مصطفى الكاظمي:

اعتمد السيد الكاظمي الآلية الثانية التي اعتمدها العبادي في اتخاذه القرارات (البدء بالقرارات الاسهل صعودا الى القرارات الأصعب)، لكنه اختلف عنه بأنه لم يتوقف عن تنفيذ الاصعب التي توقف عندها العبادي، اذ بدأ بأصدار قرار يقضي بايقاف ازدواج الرواتب، تبعه في (25 حزيران 2020) اعلانه بأن الأيام القادمة ستشهد حملة تغييرات في المناصب المتقدمة في الدولة، وتجريد الأحزاب من المناصب التي حصلت عليها خلافا للقانون.ولأن الحدثين خطيرين فقد تساءلنا ليلتها في منشور(الأنقلاب الأبيض هل سيحصل؟)، لتفيد فضائيات باقتحام مسلحي ميليشات حزب الله المنطقة الخضراء في فجراليوم التالي، في اعلان صريح بأن الأنقلاب الأبيض قد حصل.

وضع معقّد سياسيا، امنيا، اقتصاديا، صحيا، مجتمعيا، وسيكولوجيا.. يواجهه السيد الكاظمي وقد يربكه في اتخاذ القرارات، ومع ذلك اختار ان يبدأ بأخطرها واكثرها الحاحا جماهيريا.. الفساد.. مدركا بأنه سيكون امام خيارين: اما ان ينتصر في معركته على الفاسدين ويكون المنقذ والمخّلص والبطل الذي سيدخل التاريخ السياسي للعراق الذي خلا من الابطال القادة من سنين، واما ان يكون (الشهيد الحي).

وكان هذا التصور هو الذي شاع عنه بين اغلب العراقيين لغاية اجتماعه بالسيد المالكي.فقد اصاب الكثيرين بالأحباط واعادهم لسيكولجيا توالي الخيبات، واعيد ليكون بنظرهؤلاء كالسيد العبادي الذي وعد بضرب الفاسدين بيد من حديد وما ضرب، لسبب سيكولوجي.. ان توالي الخيبات اوصل العراقيين الى اليأس من اصلاح الحال، وان خذلانهم بوعود من سبقوه يدفعهم الى ان لا يثقوا بالكاظمي، مبررين ذلك بأنه جاء بموافقة أحزاب السلطة، ويسخر ىخرون بأن الكاظمي لا يستطيع ان يفعل شيئا، وان فعل فهو فلم هندي!، فضلا عن سيكلوجية الجماهير العراقية تريد ان يبدأ القائد بالآلية الأولى في اتخاذ القرارات (البدء بالقرارات الأصعب نزولا الى القرارات الأسهل).. وانهم لن يصدقوا الكاظمي ما لم يضع حيتان الفساد وراء القضبان!.

لقداقترحنا ان يعطى الكاظمي مهلة ثلاثة اشهر بعدها نحكم له او عليه: اما ان يكون كسلفه العبادي الذي اعترف عن عجزه باتخاذ القرارات الصعبة، او يواصل ما نفترضه فيه باعتماده استراتيجية تنفيذ القرارات الأسهل صعودا الى الأصعب.

ولتحقيق ذلك نوصي باعتماده اجرائين:

الأول: اصلاح النظام القضائي بما يولّد الثقة عند العراقيين بانه قد اتخذ الاجراء العملي لمكافحة الفساد، تبدأ بتعديل المادة 136 من قانون المحاكمات الجزائية التي منحت الوزير صلاحية ايقاف الاجراءات القضائية بحق من يشغل منصبا ادنى من الوزير والتي تعني عدم امكانية استدعاء وكيل الوزير او المدير العام حتى لو كانت عليه قضية فساد مالي، وتذكيره بأستخدام قرار لصالحه صادر من المحكمة الدستورية في العراق يقضي (بالغاء المحاصصة).

والثاني: تشكيل هيأة رأي من مستشارين سيكولوجيين وتربويين وقضاة واعلاميين مستقلين سياسيا، تكون مهمتها فضح الفساد والفاسدين أخلاقيا باعتماد استراتيجية تستقطب رجال دين وخبراء اقتصاديين تستهدف احياء الشعور بالمواطنة، وتنشيط الضميرالاخلاقي، واحياء الشعور بالذمّة التي تعني العهد والكفالة حين يكون الشخص مسؤولا عن الرعية.

وللمشككين في وعود ونوايا الكاظمي نقول: صحيح ان لا رهان على السياسة في العراق لأنها بلا مباديء، بلا اخلاق.. لكن الكاظمي ليس مضطرا لأن يبدا بالأصلاح ويعد بالقضاء على الفساد ويقدم على اتخاذ اجراءات تهدد حياته.ولأنه اعلن عن بدء المواجهة مع قوى تمتلك المال والسلاح ومع (الدولة العميقة) فان عليه ان يكمل المشوار، لأن التردد في القرارات او الأحجام عن تنفيذ القرارات الأصعب ستؤدي به الى ان يخسر الشعب(كتلته)، وستنتقم منه قوى الفساد وتجعله انموذجا لمن تسول له نفسه التحرش بها.. وعندها لن تقوم للعراق قائمة الى يوم يبعثون.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

أمين عام تجمع عقول

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم