صحيفة المثقف

القرآن واللغة (2)

مجدي ابراهيمإذا كانت اللغة وسيلة اتصال وتفاهم ليس إلا؛ فتجديد قوالبها - كما تقدّم في المقال السابق - ليس تجديداً للحقيقة الدينية في ذاتها بمقدار ما هو تجديد للفهم وترقية للوسيلة في رحاب هذه الحقيقة، ضمنها وفي محتواها المعرفي، لا خارجها أو خارج حقائقها الاعتقادية.

وربّما كان من أسوأ علامات الانحراف بالدين عن مقاصده الحيويّة وارتقاءاته الشعورية ونفعه الأبدي للإنسان، هو غياب العلاقات الفاعلة بينه وبين اللغة، واهتزاز وشائجها دلالةً وفهماً وحركة ومسيرة، وانفصال الروابط الجامعة بين فهم اللغة وبين المقاصد الدينية.

ولم تنشأ قوائم التطرف ولا حوادث العنف والإرهاب ولا الحروب الدينية البلهاء باسم الدين أو تحت مظلته إلا لنشوئها أولاً في اللغة والفكر؛ فالتطرف فيما لو لاحظته إنمّا هو في البداية تطرف لغوي، أحدث عوائق معرفية سبقت الفهم، وتقدّمت منذ البداية طمس الدلالة، وأبرزت هُوَّة سحيقة بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة الفعليّة، أو بين الاعتقاد النظري والمباشرة العمليّة، لكأنما حدثت فواصل بين مقتضيات الشعور الديني والحركة في إطاره. وبإمكان اللغة فيما لو قننت وحُسب لها حساب المعقول أن تكون أقدر لإزالة هذه الفجوات الكارثية، وأسلم للفهم وأصح للمعرفة وأبقى للدلالة النافعة.

مرة ثانية؛ ليس يخفى ما للغة من تأثير بالإيجاب أو بالسلب في فهم الدين ونشره. ومن أجل ذلك؛ وجبت الدعوة (أمراً) إلى سبيل الله أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تكون بالتطرف والفظاظة أبداً، وبخاصّة حين تكون اللغة هى لغة الدين الذي نزل بها كتابه المقدس. وليس يخفى أيضاً ما في هذه الإشارة من لفتة توحي بدلالة ظاهرة؛ فقد نجد الترجمة للقرآن مثلاً تفقده روحه؛ لأن لغته مع الترجمة تتلاشى تماماً ويستبدل بها لغة أخرى؛ تكاد تفقد بريقها وعطائها الباطن، ولا تكاد تجد لا للإيقاع ولا للموسيقى مع الترجمة أثراً، ناهيك عمّا ينشأ عن اللغة من سوء فهم قد يتسبَّب من المؤكد في عوائق معرفية؛ الأمر الذي يدلُّ بالمباشرة على أن العربية لغة القرآن خاصّة ذاتية له، وأنّ لغة القرآن في إطار تلك الخصوصية الذاتية هى العربية، وأن استظهار الإبانة لا تتاح على الحقيقة بغيرها : لسانٌ عربي مبين.                      

*    *    *

من أين لنا بمعرفة خير ما يصلح للمجتمعات الإنسانية ممّا يفسدها إذا لم نكن على علم باللغة التي جاء بها النفع والصلاح؛ فإذا هى مُوجِّهة الإنسانية قاطبة إلى خير ما ينفع، زاجرة لها ناهية عمّا يضر ويفسد؟ وليس من شك في أن الأمر والنهي الإلهيين إنما هما في الأصل لغة قائمة، مجرد نصوص من كلمات جامدة تتحول مع الممارسة في أجواف القارئين إلى حقائق وحياة؛ فاللغة هنا رموز وإشارات لا قيمة لها بغير الفاعلية التطبيقية. وتلك هى بالحقيقة لغة القرآن في بساطتها وخلوّها من التعقيد الخاوي والتكلف الممقوت. ونحن لا نعلم في لغة من اللغات مدى عنايتها بالسلوك والتهذيب وإثراء الجانب الأخلاقي على الجملة فضلاً عن التفصيل كما عنيت لغة القرآن بضوابط الحركة والسلوك : انتقال الفكرة فيها إلى دائرة العمل المشروع؛ فإذا لم يتح للمتلقي أن يعمل بما وَصَل إليه من فكر في هاته الأداة المبينة، أو في اللغة التي عرفها؛ فعرف من أسرارها الشيء الكثير أو القليل على قدر استعداده؛ إذا لم يتح له في ميدان العمل أن يعمل بما عرف من فكر مؤدَّى بلغة مُبينة، كان ما عَرَفَه أنقص ممّا جهله على المستوى التطبيقي؛ لأن السلوك هنا هو بمثابة اكتمال دائرة لا تكتمل الحركة إلا به، فحركة في الذهن يصحبها عمل، وعمل نتاج حركة ذهنية، وكلما أحكم وضبط، أحكمت مراحل التوجيه وضبطت لكي تؤدي الغرض الساري منها قصداً؛ فدائرة الأخلاق ناقصة إنْ لم تكن اللغة فيها فكرة عملية قابلة للممارسة التطبيقية، وكل كمال على هذا النحو ناقص ما لم يكن الفكر فيه لغة مًوحية بالعمل مُوجبة لإرادة التنفيذ.

فما كنَّا لنستطيع أن نعرف مجمل الخصائص العقائديّة والأخلاقية، ولا سائر العبادات والآداب الإسلامية، ونحن بمعزل عن لغة القرآن. وما كنا لندرك شيئاً عن هذه اللغة، ونحن بمعزل أيضاً عن العمل بفكرتها التأسيسية، تؤديها على أكمل ما تكون تأدية الأفكار وتوصيلها إلى المؤيدين والمنكرين سواء.

ولو لم تكن اللغة في أدائها موصّلاً جيداً لما فيها من أفكار وتعاليم وايحاءات، ما كان يقرّها منكر قبل مؤيد، وما صارت قط موضع لغط كبير أو ضئيل من قبيل نفر يجيدون اللغط حتى على الثوابت الرواسخ، ولا ينفرون من إجادة اللغظ فيريدون أن يجعلوه قاعدة التجديد المبتكر والتحديث من بعد التحديث من بعد التحديث إلى غير انتهاء في مثل هذه "التحديثية" الغريبة والمنفرة، بدعوى مسايرة العصر وحداثته الفجة الكسحاء، وهو عصر كم اللغط المنفر والدردشة الفارغة فيه، أعمُّ وأشمل من كم الصدق والعمل النافع والاستقامة الخالصة.

وليس أغرب من أن تجئ هذه الدعوات على ألسنة وأقلام لأناس يمتلكون في الغالب الإحساس باللغة، ورهافة الذوق، والقدرة على التعبير، والتوظيف بكلمات ذات مساقات أصيلة، ومع ذلك يريدون أن يتقدّموا ولشعوبهم أن تكون مستنفرة تجاه اللغة على حساب التأخر والخسارة، وأن يرتفعوا على فريضة الإهمال، غاية ما هنالك أنهم يضربون اتجاه فكري باتجاه آخر حتى إذا ما أهملوا هذا أخذوا بذاك، وفرضوه على أنفسهم وعلى غيرهم، فإذا الإنسان معه يسير كما الأكتع بغير استقامة، إذ لم يكن عقلاً كله ولا علماً كله بل له من العلم والعقل جوانب تمتلئ بها مناطق ولا تزال فيه مناطق لا يملأها العلم التجريبي ولا العقل المحدود، جوانب أخرى وجودية تحتاج إلى امتلاء. وما كان التقدّم ومسايرة العصر أبداً ضرباً من خسارة القيم الروحيّة التي شكلت حضارات وقوّمت أمثلة نادرة في التاريخ الثقافي الإسلامي وغير الإسلامي على حدٍ سواء.

وما كان الارتفاع قط مطلوباً من جرّاء فريضة الإهمال لمقوم الهُويّة النشطة والفعال في حياة الفرد أو في حياة المجموع، أعني هوية العقيدة والأخلاق.

وعندي أن أخصّ ما يكون مكنون فيها هو اللغة المُعبرة عن وجود الإنسان الحق، الإنسان الإنسان لا الإنسان الحيوان، ولو شئت لقلت الإنسان الكامل. هذه اللغة، ولا ريب، أسهل مأخذاً وأبلغ قناة إنْ في ألفاظها وإنْ في معانيها أو في مساقاتها من كثير من اللغات العصرية تلك التي لا تعرف لها مؤدّى ولا مرفأ أميناً ترسو عليه.

نعم! هي لغة، ولكنها تجري على ألسنةٍ المحجوبين، وتعوج بهم بمقدار ما ينسدل عليهم حجاب الغفلة والاعوجاج، هي اللغة المفككة عن الضوابط والأحكام، المنحلة عن الأصول التي تربطها بالقيم الداخلية وأخلاق الكمال في مطمح كل إنسان شريف.

هذه اللغة من تلك الجهة تمثل عائقاً معرفيّاً كما يمثل الاعتماد فيها على العلم أو العقل هذا العائق الذي يسير فيه المرء بمقتضاه كما لو كان أكتعاً يشعر بالنقص والاعوجاج، لأنه ملأ جانباً في وجوده على حساب جانب آخر، حتى أن الفراغ المتروك يطالبه دائماً بتغذية وجوده فيه، الأمر الذي تحدث معه هزة باطنة هى المقصودة عندنا بالعوائق المعرفيّة.

وكما تكون اللغة من تلك الجهة مدعاة للعوائق المعرفية، تكون سبباً لإزالتها فيما صدق صاحبها في استخدامها، واستعمال أنشتطها في تغذية وجوده الروحي؛ فالتجرد والصفاء من علامات حسن الاستخدام للغة وإزالة العوائق المعرفية، وهما من علامات الترقي المعرفي ومن موجباته كذلك. فليس علماً على التحقيق ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ ولتلحظ أن أقوال الغير هذه، إنْ هى إلا مجرد لغة؛ لأن أقوال الغير ليست إلا أحوالهم، فالذي يحكي عنها هو لا محالة يصف حال صاحبه وقت أن صدر عنه هذا القول أو ذاك، والأحوال تتبدل ولا تستنسخ كما تستنسخ الآلات آلاف آلاف النسخ المكررة فيما تريد استنساخه؛ فأحوال هذا ليست كأحوال ذاك، وأقوال هذا لا يمكن تبعاً لذلك أن تكون هى نفسها أقوال ذاك. فليس علماً ما كان صادراً عن حكاية أقوال الغير؛ إذ العلم بداية المعراج المعرفي، ما فوقه أسمى منه وأرقى.

أما العلم في ذاته، فليس أسمى منه في الحياة، ولكنه مع ذلك ليس هو كل ما في الحياة، لأن في الحياة ما هو أعلى من العلم وأسمى، إذ من شرط العلم النافع أن يقود إلى المعرفة، وأن يؤدي إليها بالتحقيق لا بالاستشراف. ومن شرط المعرفة أن تقود إلى شهود الفضل الإلهي ومعاينته كما يُعاين المحسوس؛ وليس هناك أفرح للقلب ولا أدعى للرحمة من ذلك الشهود على التحقيق :"قل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليفْرحوا هو خيرٌ ممَّا يجمعون". وعليه؛ يصبح العلم الذي لا يؤدي بدوره إلى مثل هذا الشهود، شهود الفضل الإلهي، ليس بنافع ولا هو أهل لآن ترقى معه حياة صاحبه إلى منازل المحققين.

إنه ليمثل عائقاً معرفيّاً في ذاته، كما تمثل اللغة فيه نوعاً من التحجير والتضييق لتصبح هى الأخرى نفسها عائقاً معرفياً يؤخر ولا يقدّم، يحصر المرء في منطقة محدودة بحدود الأفق الذي يتحرك فيه العلم المحدود والعقل المحدود. وفي المقابل لاحظ اللغة في الآية الكريمة ولاحظ المعراج الدلالي فيها، فإنّ فضل الله مدعاة للفرح، وأن فضل الله هذا مقرون بالرحمة، وهما معاً أفرح ما يفرح قلب السائر مع الشهود فليس من فرح أسمى ولا أعلى من الفرح بفضل الله وبرحمته. فاللغة هنا معراج، تجربة، والمعراج باللغة ليس لفظاً يكرر ولكنه حقيقة واقعة وحياة تعاش مع أن اللغة في عين هذا الشهود لا أثر لها على الإطلاق.

اللغة هنا ليست عائقاً معرفيّاً بل نقلة إلى ما بعد المعرفة، إلى الحقيقة مباشرة. أجواء الآية بفضل رهافة الإحساس باللغة فيها، تقضى بمثل هذا العروج إلى منازل الشهود حيث لا لغة هنالك ولا واصف ولا موصوف.

(وللحديث بقية)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم