صحيفة المثقف

رسالة نسيم

ناجي ظاهرشدّت امي أختي الكبرى فهيمة، من شعرها وهي تمسك رسالة ورقية بيدها، وتصرخ بها:

-بدي اعرف شو هاي..

غضّنت اختي ملامح وجهها متألمة:

- والله ما بعرف يما..

عادت امي تهدر:

-نسيم اعطاك اياها.. الله يقصف عمره.. وينته اعطاك اياها؟

قالت اختي وهي تتألم:

-وانا رايحة ع الفرن.. انت بتعرفي يما انا بعرفش اقرا..

كنت يومها في الساحة خارج "العقد".. اقرأ قصة " غابة شيطان "، للكاتب كامل كيلاني.. اعارني اياها ابن الجيران نسيم، المتهم حاليا. كنت في السادسة او السابعة من عمري. اختي فهيمة كانت صبية ابتدأ جسدها بالبلوغ، وابتدأت ملامحها بالتكور، ما لفت انظار صبيان الحارة للاهتمام بها ومتابعة خطواتها، وكان اكثر ما يغيظ امي واخي فهيم، هو تلك النظرات الجائعة النهمة التي تلاحق اختى فهيمة.. وتكاد تفترسها، زاد في غيظ ابناء اسرتي الصغيرة، حينها، ان البعض من ابناء الحارة " استوطوا حيطنا"، على اعتبار اننا من اللاجئين الجدد في الناصرة، وهو ما جعل اخي الاكبر دائمَ الاستنفار، فهو حاضر للشجار والدفاع عن اخته وسمعة اسرتنا على مدار الساعة، وكان ان قام اخي فهيم، في السابق، بتهديد احد ابناء الحارة بعد ان شاهده "يجحّ" في ساقي اختي المكورتين، وتوعده ان يكسر راسه، دون ان يبوح له بسبب تهديده له، غير ان تهديده ذاك شكل رادعًا حقيقيًا وجدارًا فاصلًا بين اختي وآخرين من صبيان الحارة. لهذا بعد ان عرفت ان نسيم المقيم بعيدًا عن بيتنا نوعًا ما، دسّ رسالته الملعونة في يد اختي وهي في طريقها الى فرن الحارة، استغربت اشد الاستغراب، وتساءلت بيني وبين نفسي عمّا سيكون من امره مع اخي..

لم يطل تساؤلي هذا، وجاءت الاجابة على لسان امي.. عندما سمعتها تقول لأختي:

- انت متأكدة انه نسيم معملش معك اي اشي.

قالت اختي:

- والله يمّا ما عمل معي اي اشي.. مزّعي هاي الرسالة.. وريحيني..

انتفضت امي:

- انت عارفه اني رايحة امزعها.. بس انا لازم احكي لفهيم عنها.

رأيت الحيرة ترتسم على وجه اختي، فيما راحت امي تتساءل بينها وبين نفسها على مسمع مني، انا البعيد القريب منها، "شو بده منها نسيم.. شو كتب فيها يا ترى؟ اخ لو اني بعرف اقراها".

عندما عاد اخي في المساء من شغله في فرن الحارة، قدّمت امي إليه الرسالة وهي تقص عليه كل ما حدث طالبة منه ان يُطوّل روحه، مضيفة ان شيئا عظيمًا لم يحدث، وقالت له:

-آخ لو اقرا هاي الرسالة عشان اعرف نية نسيم اللي ما يتسمى..

تناول اخي فهيم الرسالة المنكودة من بين يدي امي وناداني طالبًا مني ان اتبعه. وهو يقول لي:

-بتعرف تقرا هاي الرسالة؟

تناولت الرسالة من بين يديه واخذت بقراءتها متردّدًا، جراء تشوّش الخط فيها.. فهم فهيم ان الحديث يدور عن اقتراح محبة على اختي، وشاهدته وهو يشد على يده:

- على كل انا لازم اكسر راسه.

بعد ساعة او نحوها.. اصطحبني اخي فهيم إلى حيث يجلس مُجايله.. فهميم ابن الرابعة عشرة، مررنا من هناك، لم يكن موجودًا. حمدت الله اننا لم نره. وقلت في نفسي نفد المسكين من قتلة نظيفة"، فقد  كان نسيم معروفًا بين ابناء الحارة بأنه خلوق.. يتيم ويعيش في كنف خالته كفيفة البصر، وانها هي من يعيله، وكان ضعيفًا دائم الشرود، ما صرف الانظار عنه وجعله يقضى سحابات ايامه وحيدًا وبعيدًا عن ابناء الحارة، حاملًا كتبه واوراقه متمعنًا فيها، ولا اخفي ان حالةً من الارتياح قد غمرتني وانا انظر إلى مكانه المعتادة رؤيتنا له فيه، وكرّرت حمدي لله، فهو انسان غير مُضرّ، ولا يمكن ان يتسبّب في الايذاء لنملة، فكيف يتسبّب في ايذائنا نحن اللاجئين المقيمين في حارته؟ ثم انه قَبِلّ التصادق معي رغم ان عدد سنوات عمري لا يبلغ منتصف عدد سنوات عمره.

لم تطل مشاعر الارتياح هذه، وحلّت محلها بسرعة البرق مشاعر القلق والتوتر. كان هذا عندما رأيت صديقي نسيم- يأتي من بعيد ليتخذ مجلسه تحت شجرته المعهودة.. عندها غرس أخي فهيم عينيه المستشرتين في عيني هاتفًا بي:

-روح تحرّش فيه خليه يضربك عشان اخسفه.. وامرغ الارض فيه.. وبرسالته.

على مضض.. انصعت لأمر اخي فهيم وتوجّهت إلى صديقي نسيم، وانا اقدّم خطوة واؤخر اختها، إلى ان تقدمت منه، فراح يرحّب بي، ويسألني عن كتاب "غابة الشيطان"، وهل استمتعت بقراءته؟

ما ان نطق نسيم بهذه الكلمات، حتى وجدّتني اهتف به دون إرادة مني:

-اهرب.

فهم نسيم ما أردت ان اوصله إليه، فطار من مكانه مثل عصفور داهمَته عاصفةٌ عاتية، واختفى بلمح البصر.. عندها رأيت أخي الاكبر فهيم يهجم، هجمة أسد غاضب وانهال علي ضربًا حتى فقدت الوعي..

بعد فترة انتقلنا من تلك الحارة لنقيم في حارة أخرى بعيدة عنها.. ولتنقطع بالتالي كل صلة لنا بتلك الحارة.. بأهلها و.. نسيمها ايضا.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم