صحيفة المثقف

ذكرى لعيبي في روايتها الأولى: خُطـًى في الضباب

قصي الشيخ عسكرقبل أن أبدأ الحديث عن رواية السيدة ذكرى لعيبي أودّ الإشارة إلى اني قرأت لهذه الأديبة العديد من قصائد النثر وبعض القصص المنشورة أي أنها شاعرة وقاصة ومما يلفت النظر في نتاجها الشعري والقصص أن قصصها القصيرة لا تخلو من النفحات الشعرية مما يزيدها متانة ودقة وبريقا في التعبير لكن إلى الحد الذي لا يطغى فيه الشعر على المدّ القصصي المتدفّق الذي يفقد بريقه وتأثيره السردي في حال طغيان النفس الشعري عليه كما وجدناه عند كثير من الأدباء المعاصرين.

المهم إننا بصدد رواية جديدة للأديبة ذكرى وهي أول رواية لها كما عرفت منها وهذا يضعنا أمام عدة احتمالات منها إن العمل الروائي يجب أن يأتي بعد خبرة طويلة في الحقول الأدبية المختلفة كالشعر والقصة،ومنها إن الكاتب أو الكاتبة بعد تجارب ناجحة في الشعر والقصة لابدّ أن يستفيد من جماليات تلك الفنون ليصوغها في أولى رواياته أو رواياتها،وهناك عامل الزمن الذي يمنح الكاتب/ الكاتبة حرية الاختيار في بدء الرواية استنادا إلى زمن الشعر أو القصة القصيرة أم التجاوز عليه.

وهذه أمور التفتت إليها الكاتبة السيدة ذكرى لتقدّم لنا بكل ثقة روايتها

الأولى، لكن بادىء ذي بدء لابد من الإشارة قبل أن يلتبس الأمر في ذهن بعض القرّاء إلى أن الروائيّة لاتمس في روايتها هذه التي بين أيدينا مذهبا معينا أو دينا معينا.

فهي تشير من خلال السرد إلى استغلال بعض الرجال من أي دين كان أو  مذهب لرحابة الدين والمذهب إلى درجة تشويهه والإساءة إليه، والإساءة إلى المقدسات من خلال الإساءة إلى الآخرين بخاصة النساء اللائي يتعرضن لظلم المجتمع الفظيع وفق تأويلات الدين والمذهب التي جاءت من مفسرين وفقهاء هم بالأساس رجال افتوا أولا وقبل كل شيء لمصلحة الرجولة وفوق أي اعتبار ومن جراء ذلك تحرك المجتمع ليستغل سطوة العنصر الذكوري على المرأة أبشع استغلال.

ونحن هنا نستطيع أن ندرك تماما أن الفكرة المقصودة بالسرد الروائي هي فكرة عامة أو هي جزء من معاناة المرأة في العالم حيث مازال المفهوم الذكوري هو السائد والمتحكّم في القضايا المصيرية ومنها وضعية المرأة نفسها.

أما عن اللمحات الفنية فقد لاحظنا أن الكاتبة استوعبت مجريات أحداث الرواية عن طريق تداخل الضمائر فالضمير السائد الذي يقود عملية السرد هو ضمير الغائب بعبارة أدق {هي}أي البطلة لكن غيابها مشكوك فيه فهي حاضرة عبر الضمير الحاضر {أنا} وهو ضمير الكاتبة صديقة البطلة حيث يتداخل الضميران فنظن أن أحدهما هو الآخر لتخاطب كل منهما بكلمة أو ضمير {أنت} .

1601 ذكرى لعيبي

إن ضمير أنا أو أنت يشتركان في قهر واحد أنا تحب شخصا يقتل في الحرب وأنت تحب شخصا وتحاول أن تنتحر من أجله،تصبح أنت المخاطبة هي التي تطلق من زوجها ليأتي ابن عمها المتزوّج فيعرض عليها زواجا بشروط هو أن يتزوّجها زواجا مؤقتا لأنه لا يريد أن يسبب إحراجا لزوجته أم أولاده، وهنا وسط هذا التفاعل الإنساني المليء بالعواطف الإنسانية والمجرد من بعضها يظهر ضمير غائب لابد من حضوره في هذه المواجهة العنيفة الحساسة هو شخصية فاطمة اللبنانية التي تتزوج زواجا مؤقتا من تاجر له سمعة في السوق فيتخلى عنها في أقرب فرصة ليهب لها المدة الباقية.

من الواضح الآن إن ضمير الهو المذكر يمثل شخصية الجلاد ودوره سلبي فقط حتى ضمير الغائب الذي يخص الساردة فهو يؤدي دورا سلبيا فعندما ذهبت الساردة بعد محاولة انتحار إلى بيت حبيبها وجدته قد تزوج ثارا لكرامة أمه التي أهينت من قبل أم الحبيبة.

ولو قابلنا الضمائر في الرواية لوجدنا أنها تتقابل وفق النمط التالي:

 تتقابل الضمائر في الصيغة التالية حسب تبادل المواقع

هي  = أميرة  \  هو حبيب أميرة

أنا = الساردة \   هو الجار

هو حبيب أميرة  =هو الجار

أنا الساردة = هي أميرة

ثمّ يأتي ضمير آخر ثانوي كان له أثر بليغ في تصعيد الحدث والتفاعل مع مجريات الرواية ألا وهو شخصية الفتاة الإماراتية التي التقتها الساردة في المشفى التي استوعبت جميع الشخصيات كونها تزوجت من شاب مصاب بالعنة فشرط عليها شروطا قاسية ليطلقها إن وجود هذا الضمير كان ضروريا ليلتقف الضمائر الأخرى على الرغم من قصر الفترة الزمنية التي احتلها وهي التفاتة ذكية من المؤلفة:

هي الإماراتية= الساردة، وأميرة وفاطمة  نعني بذلك {هن} أما  الآخر فيمكن أن نقول عنه إنه

هو {العنين}= هم الحبيب لأميرة وحبيب الساردة الذي يشبهه في العنة فهو غير قادر على توفير الأمان لها بعد كل تلك السنين فهو أشبه بالعنين

زمن الرواية:

يتوزع الزمن بحركات متناغمة  لزمن حاضر وماض ومستقبل وفق تدفق تمليه ضرورة الإيحاء السردي فيكون بصيغ مختلفة:

أولا صيغة التوازي وهو زمن الساردة المتوازي مع زمن الغائبة أميرة.

ثانيا  صيغة التداعي  كما في الزمن الذي يرجع بنا إلى الحرب العراقية الإيرانية حيث نجد أن الساردة تتحدث مع نفسها لتواسي البطلة أميرة فتجد أنها عاشت تداعيات الحرب وسمعت بمقتل زوجها الذي مثل في الواقع بديلا لحب ضائع هو حب الشاب الأول الذي كادت تقتل نفسها من أجله فزمن التداعيات يتحقق في زمن الحرب وزمن محاولة الانتحار الذي يتمثل في ثورة على المجتمع والتقاليد لكن هذه الثورة تخفق.

ثالثا الزمن الملتف وهو الذي تستدعيه الضرورة ليتحقق في الزمنين السابقين كما في ظهور الحبيب الأول الذي يستعد للزواج من الساردة غير أنها تربط عودتها وموافقتها بشرط هو أن يوفّر لها الاستقرار.

من خلال هذه الأزمان نجد أن الكاتبة شطرت نفسها إلى شخصيتين لكي تتحكم بالزمان أو الأزمان أعلاه هي شخصية أميرة وشخصيتها فحققت من خلال فلسفة الزمن شخصيتين متوازيتين تتعلق بهما الشخصيات الأخرى الثانوية في أزمان جزئية مثل شخصية السيدة الاماراتية التي تعيش زمنا حاضرا محدودا بشروط فُرضت عليها.

فلسفة المكان:

هناك ثلاثة أمكنة في الرواية هي:

المكان السابق

المكان الحاضر

المكان المثال

المكان السابق: وهو مدينة البصرة بصورة عامة حيث عاشت الإثنتان الواحدة {أنا =هي}في ذلك البلد إن الأنا تفقد زوجها في هذا المكان وهي تفقد حبيبها وتحاول الانتحار لكن الإثنتين تتخلصان من هذا المكان جسديا إذ تبقى مخلفاته تلاحقهما في العراق كل ماهو جميل انقلب عقبة ورعبا هناك امرأة انتظرت زوجها أن يعود بيدٍ واحدة غير أنها استقبلت جثته وفي هذا المكان تتجلى الطبقية والعشائرية والنظرة الفوقية وردات الفعل.

المكان الحاضر: وهو البلد المضيف الإمارات،وهو بلد الأمل والقلق هنا يتحقق بعض الأمان غير أن القلق يلاحق النسوة العاملات بعض هؤلاء يتعرضن إلى إغواء وإغراء من رجال يستغلون الدين والمذاهب لتحقيق مآربهم وعلى الرغم من أن المرأة تتعب وتشقى وتشعر بالأمان إلا أنها تنظر إلى المستقبل بقلق هذا عن خاصية المكان بنظر المرأة العراقية أو غير الإماراتية، أما المواطنة فيقع عليها ظلم أيضا من قبل الرجل فنحن نعيش في مجتمع شرقي ذكوري إلى درجة أن الرجل العنين يتمسك بأنانيته فيرفض طلاق زوجته لتعيش حياتها التي وهبها الله لها.

المكان المثالي: في التفاتة سردية جميلة حدثتنا الساردة عن حلم جميل عاشت أحداثه مع حبيبها في باريس وقد رسم الحلم الواقع بدقة، وإن هناك مكانا آمنًا نحقق فيه طموحاتنا وهذه لفتة من الكاتبة إلى موضوع الهجرة والمهاجرين بخاصة النساء إلى ذلك العالم المثالي الذي يحقق فيه الإنسان طموحه.

وتأتي نهاية الرواية لتشير إلى مكان مثال أيضا، الزواج هو طموح أية فتاة والبنات كلهن يجتمعن في بيت كي يساهمن بزفة عروس،فهل يمكن أن نعدّ ختام الرواية بهذا الشكل إلى مكان مثالي هو بيت الزوجية الذي يوازي مكان الحلم المثال وهو باريس؟

الحوار:

رواية الأديبة السيدة ذكرى تنهج نهجا واقعيا لكنها لا تسقط في المباشرة بل هي واقعية شفافة واسعة فضفاضة لا يقيدها المكان بتفصيلاته الجانبية وقد جاء الحوار ليتماشى مع هذا النهج  ويتميز حوار الرواية بالسمات التالية:

السهولة والقوة ففي هذه الرواية نحس أن الشخصيات تتكلم بلسان واضح غير أنه ليس حوارا مباشرا .

خلوه من اللغة الانفعالية التي تفسد على القارىء متعته وتحجم اللمحة الفنية.

الحوار بين الوسط والقصير فهو يبتعد عن التطويل الذي يبعث الملل.

مع أن الرواية هي الأولى للمؤلفة نجد أن السيدة ذكرى لم تسقط في فخ الخطابة ذلك الفخ الذي يقع فيه كتاب الرواية، أضف إلى ذلك أن الحوار يعالج قضايا حساسة ويمكن أن يجر الكاتبة إلى الأسلوب الخطابي غير أنها كانت ذكية ومتمكنة من أدواتها.

وردت في الحوار بعض المصطلحات والجمل من اللهجة العراقية الدارجة وذلك عامل أضفى مسحة جمالية على الحوار، مثال الحوار الذي دار بين أم شامة وأم سامي:

 - شلون تقبلين جاية تخطبين شامة لابنچ؟

- ليش خيّة، چا شبيه ابني؟

- لا خيّة لا، لا أنتم من ثوبنة، ولا أحنة من ثوبكم؟

ولكون الكاتبة تعيش منذ مدة طويلة في الإمارات فقد ضمنت في حوارات روايتها بعض المصلحات أو الكلمات في اللهجة الإماراتية الدارجة لما لذلك من عامل نفسي يؤثر في القاريء، كما في الحوار الذي دار بين المرأة العجوز وشامة:

- أنتِ عراقية؟

- أي خالتي.

- ما شاء الله رمستكم وايد غاوية.

- وأنتم بعد حلوة سوالفكم، وحلوة بلادكم.

- هلچ هني يا امي؟

- لا، خالتي أهلنة نص بالعراق ونص طالعين، كل واحد بصوب.

بين بطلة ذكرى وآخرين:

هل يمكن أن نقول إن معظم الروايات العربية وضعت المرأة في دائرتين هما:

كونها ضعيفة مطيعة تابعة تقبل الزجر والذلّ والإهانة

كونها متمردة وقحة لا تبالي بالأعراف والتقاليد.

وأهم الروايات التي جمعت هاتين الشحصيتين هي ثلاثية الروائي نجيب محفوظ فالشخصيّة لتابعة الذليلة تجسدها أمينة أم ولدي السيد عبد الجواد وشخصية المتمردة نجدها في أم ياسين التي تمارس الخيانة واللهو والتصابي.

في رواية السيدة ذكرى وجدنا النمط الأول فقط وتمثل في كل شخصيات روايتها كلهن مضطهدات من قبل الرجل والمجتمع والأعراف والدين أميرة وفاطمة والكاتبة أو الساردة واليازية، فالمرأة في مجتمعنا تضطر للتنازل أو الخنوع، ولو وازنا بين شخصية الساردة صديقة اميرة نجد أن الساردة أي ضمير الأنا تتجاوز الصدمة وتنتصر أما أميرة فتظلّ حتى آخر لحظة متعلقة برجل أهانها عدة مرات، متزوج ويطلب منها علاقة جسدية مؤقتة، ومما يؤكد انهيار تلك الشخصية فقدانها الوعي ومرضها لأن حبيبها المتزوج لم يجب، ظلت تنتظر  فاصابها يأس وحزن وكآبة فتم نقلها إلى المشفى،لكن الكاتبة أخيرا وفي نهاية الرواية جعلت أميرة تستعيد وعيها وذلك حين صاغت الخاتمة في التفاتة ذكية تمثلت بعرس وكأن الفرح هو علامة زمنية قادمة اجتمعت فيها كل النسوة المضطهدات .

***

عرض وتحليل

 بقلم د. قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم