صحيفة المثقف

بعد نهاية الأحداث.. هل ننتظر النهاية؟

عبد السلام فاروقفى الآونة الأخيرة تعالت الصيحات التى تنذر باقتراب نهاية العالم..وجاء وباء كورونا ليرفع وتيرة تلك الصيحات.. والناس فى قلق وخوف وترقب وتساؤل: ما الذى قد يحدث غداً؟ ولا جواب يشفى قلقاً حول غَيبٍ حُجِبَ عن الكافَّة.

إن هذا الرعب والفزع لدى الناس له مبررات: كمتوالية الحروب والكوارث خلال السنوات الأخيرة الماضية، ومتوالية الظواهر الكونية الغريبة. ومتوالية الموت الذى استحرَّ فى الناس بالدانات والقنابل والفيضانات والسيول والحرائق والزلازل، ثم بالوباء. وكل هذا حدث فى التاريخ مثله وأكثر. وكان التفسير مماثلاً: أننا فى انتظار النهاية. فما الجديد؟ إن كل إنسان فى انتظار نهاية محتومة ومكتوبة منذ الميلاد. وقد اختصر الشاعر القديم المسألة كلها فى بيت شعر: (مَن لم يمت بالسيف مات بغيرهِ.. تعددت الأسبابُ والموتُ واحد). والوباء أثبت أنه لا يُعجِّل من نهاية أحد ولا نهاية العالَم.. هناك قصة المريض الفرنسي التسعينى الذى أصيب بالوباء هو وزوجته، ثم خرجا معاً بعد ثلاثة أيام وقد عوفىَ كلاهما. ومريض مصرى دخل المستشفى للعلاج من كورونا فمات بالسكتة. وفى كل مائة مصاب يموت ثلاثة ويعيش الباقون. وهناك 15 دولة لم يدخلها الوباء، وآلاف القرى والمدن والجزر لم يعرف الوباء لها طريقاً.

إن الوباء أسهم، رغم كل ما أهلكه من رئات، فى خلق رئة جديدة للكون، ودفع الناس لاكتشاف عالم جديد يعمه الهدوء والنظافة والاتساع والرحابة. وهو ما قد يجبر الدول المتقدمة المتنصلة من دورها البيئى على أخذ قضايا البيئة مأخذ الجد.

عودة الضمير

يعتبر البعض أن كتاب (الربيع الصامت) لمؤلفته "راتشيل كارسون" والصادر عام 1962 وترجمه للعربية الدكتور أحمد مستجير، هو البداية الحقيقية لخلق الوعى العالمى بقضية البيئة؛ فمنذ صدور ذلك الكتاب بدأت جهود العلماء والمثقفين تؤتى ثمارها بالتفات الساسة وقادة الفكر لهذه القضية واعتبارها من القضايا العالمية المحورية. هكذا انعقد المؤتمر العالمى الأول للبيئة فى ستوكهولم عام 1972، واستمر انعقاد نسخ أخرى من هذا المؤتمر كل عدة سنوات مع استمرار المشكلة البيئية وتفاقمها ! ما يجعل تلك المؤتمرات تبدو بلا جدوى. نشأ من خلال تنامى الحراك البيئي العالمى ما يُدعَى "بالضمير البيئى"، أى الاستشعار المشترك لتلك القضية الخطيرة لدى القادة والحكام. وهو ما كان سبباً مباشراً فى ظهور منظمات حكومية ومستقلة تدعو للالتفات إلى قضايا قد تحدد مصير البشرية لأهميتها القصوى وخطورتها: كقضية التغير المناخى، وتأثير التجارب العسكرية والإشعاع النووى، والاحترار الكونى تأثراً بالاتساع المضطرد لثقب الأوزون، وموجات تسونامى المهلكة تزامناً مع الانهيارات الثلجية فى القطبين.

قضايا أخرى بدأت فى التوالى والتتابع، دون وجود حلول آنية، فالعقلية الأنانية ما تزال هى المسيطرة والمتغلبة على الضمير العلمى والبحثى المتألم والمنذر بكوارث ما نزال نطالع أخبارها من حين لآخر! فأين يكمن الخلل؟ ولماذا لا تسهم المؤتمرات العالمية المتكررة واللقاءات المتعددة لقادة العالم المتقدم فى تحجيم المشكلة ؟ وما السبب فى أنهم غير قادرين على التوصل إلى حلول قطعية ناجعة ؟ هناك سر !

إن مدى اتساع الفجوة الحضارية والأيديولوجية محكوم بسرعة تصرف الدول الصناعية الكبري التى تسببت فى تعاظم المشكلة البيئية وبروزها بالأساس؛ بفضل رعونتها فى التعدى على النظام البيئي المتوازن  بعوادم المصانع والمخلفات النووية والصيد الجائر للحيوانات والقطع الجائر للغابات وتفتيت الجبال الرواسي بحثاً عن المعادن الثمينة والثروات. هناك عشرات القضايا البيئية التى اختفى ذكرها فى زحام كوارث بيئية لها صدى عالمى أكبر، رغم أنها قضايا شديدة الأهمية والتأثير على صحة الإنسان العضوية والنفسية، مثل قضية تلوث المياه بالمخلفات الآدمية والصناعية، والضوضاء، والتصحر، والنباتات المعالجة وراثياً، والمبيدات الكيماوية المسرطنة، والملوثات الكيماوية التى يتعرض لها عمال المصانع. كلها قضايا مجتمعية مزمنة شديدة الأهمية يختفى ذكرها أمام كوارث البيئة أو جرائم الإنسانية ضد الطبيعة.رغم أن فاتورة العلاج البيئى مكلفة، إذ تبلغ تكلفة معالجة تلوث الهواء وحده ما يزيد عن 200 مليار دولار!

ومقابل تلك الحرب التى يشنها الإنسان على الكوكب، تعلن الطبيعة ثورتها وغضبتها فى شكل متوالية من الكوارث. هذا ما بَدا خلال العقدين الأخيرين.. ففى عام 2004 حدث زلزال تسونامى سومطرة الذى قتل أكثر من 283 ألف شخص، وزلزال جاوة فى 2006 الذى دمّر نحو 135 ألف منزل وقتل ما يزيد عن 5500 إنساناً! ناهيك عن الأعاصير والفيضانات والسيول التى لا يختفى ذكرها من أشرطة الأخبار فى الفضائيات.

لقد سجلت أمريكا نحو 40 كارثة طبيعية مدمرة فى الفترة من 1974 حتى عام 1980تضرر من جَرّائها أكثر من نصف مليون نسمة. هذه الأرقام تضاعفت خلال العقد الأخير بينما أمريكا نفسها تنسحب من اتفاقاتها العسكرية والبيئية. فالإشكالية الأكبر أن الغرب يشهد صعوداً لليمين المتطرف، وظهوراً لزعامات لا تعبأ بقضايا البيئة ومستقبل الإنسانية. وهنا مكمن الخوف.

يذكر علماء الإيكولوجى أن طائفة من علماء القرن التاسع عشر أطلقوا صيحة جديدة فى علوم الاجتماع تُدعَى "الحتمية الجغرافية"، ومعناها التسليم بأن الأوضاع المناخية والجيولوجية تفرض على الناس نمطاً محدداً من الحياة الاقتصادية والسلوكيات وأسلوب الحياة. تلك الحتمية اختفت اليوم من الكتابات الإيكولوجية بعد أن أثبتت الدراسات الأكثر عمقاً أن العامل الجغرافى هو مجرد رقم بين عوامل أخرى شتى تحكم نمط الحياة البشرية فى مكان ما؛ عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة. أى لا حتمية هناك، بل تغير وتطور وتباين.

وفى كتابات "كارل ماركس" كلام عما يُدعَى "الحتمية الاقتصادية" تبريراً للماركسية وتمريراً للمبادئ الشيوعية فى إدارة النظم الاقتصادية والسياسية. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وأفول الشيوعية ماتت الحتمية الاقتصادية المدّعاة. وباتت المرونة الاقتصادية هى السائدة.

والأحداث المعاصرة ذات الطابع الغرائبي المخالف لما عهدناه فى الكلاسيكيات التاريخية تشهد على موت "الحتمية التاريخية": أن التاريخ يكرر نفسه فى حلقات متماثلة متشابكة. وهو الادعاء الذى أثبت الحاضر خطأه، وأن هناك تاريخ جديد تتم كتابته اليوم على أسس مختلفة.

غير أن هناك حقيقة واحدة نعرفها ونوقن بها، هى حقيقة التوازن الطبيعي للكون. وأن هناك سنن كونية فوقية لإحداث مثل هذا الاتزان. حتى أن نظرية "الاحترار الكونى" القائمة على أن ثقب الأوزون المتسع يتسبب فى ارتفاع درجات حرارة الأرض تواجه اليوم نظرية مضادة يتزعم مزاعمها "إيان بليمر" فى كتابه"العلم المفقود" حيث يدعى أن ثلاثين عاماً من الارتفاع البطئ فى درجات الحرارة تم محوها فى بضع سنوات من الانخفاض السريع لها. والدليل ما حدث فى عام 2008- أكبر موجة باردة واجهت الأرض منذ عدة عقود، حيث سجلت مؤشرات الأرصاد الأمريكية فى مينيسوتا وبنسلفانيا رقماً قياسياً جديداً فى درجات الحرارة بلغ (-40 درجة مئوية) ! وفى اسكتلندا وانجلترا  أغلقت العواصف الثلجية الطرقات والمدارس،  وتسببت تلك العواصف فى موت 60 شخصاً فى الصين، كما دمرت نحو نصف محصول الأرز فى فيتنام. كانت أطول موجة باردة مرت على العالم، وتكررت هذه الموجة فى 2012، فهل تمثل موجات الابتراد المتتالية نوعاً من التوازن الكونى فى مواجهة الاحترار الذى تسبب فيه الإنسان؟!

إن الادعاءات القائلة بتناقص سلة الطعام وندرة المياه وتقلص الموارد أمام تضاعف سكان العالم، تواجهها مُكتشفات حديثة لعوالم جديدة فوق الأرض فى ثنايا الجبال والكهوف، وتحت الأرض مثل تلك القارة التى أشار إليها العالم الطبيعى "وليم ويب" الذى اكتشف الغابة المطرية (كانوبي) عام 1917. وجاءت الاكتشافات الحديثة لعالم الأعماق لتؤكد وجود هذه القارة على مسافة 1000 متر من سطح المحيط! فأمام غياب الحتميات يأتى التوازن كحقيقة حتمية وحيدة ومؤكدة.

 

عبد السلام فاروق

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم