صحيفة المثقف

منظرو الاقتصاد (10): كارل مِنگـر

مصدق الحبيب(1840 – 1921)  Carl Menger

هو الاقتصادي النمساوي، ثالث اقتصاديي الثورة الحدّية، بعد جيفنز وفالراس، والذي عرف بكونه مؤسس المدرسة النمساوية في الاقتصاد، وصاحب النظرية الذاتية لقيمة العمل.

ولد كارل منگر عام 1840 في گاليسيا Galicia التي كانت ضمن الاقليم النمساوي - الهنگاري والتي اصبحت الآن جزءً من جنوب پولندا. کانت عائلته موسرة وكان ابوه واخواه محامين بارزين. انهى دراسته الابتدائية والثانوية المتقدمة في گاليسيا وذهب لدراسة القانون في جامعتي براغ وفيينا، ثم حصل على الدكتوراه في القانون من كراكوف Krakow  عام 1867، ودرجة الاستاذية من جامعة فيينا عام 1873، وهي الجامعة التي بقي فيها تدريسيا وباحثا لأكثر من ثلاثين عاما. 

خلال عقد الستينات من القرن التاسع عشر، عمل صحفيا متخصصا بالمواضيع الاقتصادية فتركزت تقاريره ومقالاته على السوق الاقتصادية والمالية وتقلباتهما. كان هذا العمل هو الذي أثار فضوله حول الاقتصاد وحول مدى انطباق النظريات الاقتصادية على الواقع العملي، خاصة بما يتعلق بالاسعار، وكيف ومَن يقررها ويغيّرها صعودا ونزولا. ولذا فقد بدأ بدراسة الاقتصاد دراسة واعية تمخضت عن اكمال ونشر كتابه الشهير "مبادئ الاقتصاد" المنشورعام 1871. في عام 1876 انتدب ليكون معلما خاصا لأمير البلاد وولي العهد الشاب رودولف هابسبرگ لیحاضر له فی الشؤون الاقتصادية والقانونية والسياسية ويسافر معه في زياراته الرسمية عبر أوربا. وهكذا استمر في عمله هذا لمدة ثلاثة عشر عاما ولحين انتحار الامير مع عشيقته القاصرة في فضيحة ماسمي بحادث ميرلنگMayerling Incidence  . عامان بعد هذه الصدمة أوكل اليه الامبراطور فرانز جوزف والد الامير رودولف مهمة رئاسة قسم الاقتصاد في جامعة فيينا.  كما كلفه ايضا برئاسة اللجنة الوطنية لإصلاح النظام النقدي في النمسا عام 1889. إستقال من منصبه كرئيس لقسم الاقتصاد في جامعة فيينا عام 1903 وتفرغ للبحث والدراسة لحين وفاته عام 1921.

1613  منكر عُرف منگر باختلافه مع زملائه الحدييين حول وحدة القياس الحدية التي استنبطوها وأسموها بالـ "يوتل"، وهي وحدة قياسية لتقدير المنفعة التي يستمدها المستهلك جراء استهلاكه او استخدامه لسلعة ما.  يرى منگر ان هناك صيغا واغراضا مختلفة للانتفاع من أي سلعة ولذا فلا يصح تطبيق وحدة ثابتة لقياس مديات الانتفاع المتباينة. فمثلا، اذا اعتبرنا منفعة دلو من الماء، سندرك بأن الاستعمالات المختلفة لهذه الكمية من الماء لشخص ما في ظرف ما ستأخذ ترتيبها حسب الاهمية، من اطفاء العطش وتحضير الطعام الى غسل الصحون ثم غسل الملابس وثم وثم وربما اخيرا الى سقي الازهار. وبالتأكيد ستختلف المنفعة حسب درجة الاشباع وستتناقص من الدلو الاول الى الدلو الاخير. ولذا فان من المنطقي ان لاتستطيع اي وحدة قياس ثابتة كالـ "يوتل"   Util أن تفي بقياس المنفعة لجميع تلك الاغراض المختلفة.

كما انه اختلف مع الكلاسيكيين في قيمة السلعة بناءً على قيمة العمل، ذلك انه رأى بأنهم أهملوا قيمة السلعة الاستعمالية وركزوا فقط على قيمتها التبادلية في السوق. ولكن اذا اعتبرنا القيمة الاستعمالية فان السلعة ستثمن بمقدار قابليتها على اشباع حاجة المستهلك، وبغض النظر عن كمية العمل المبذول في انتاجها. ومن هذا المنظور ذهب منگر الى تفسير معنى ونشأة النقود والاسعار فاعتقد ان كل العلاقات الاقتصادية مرتبطة بديناميكية السبب والنتيجة والتي تتمحور حول حاجات الانسان وطرق اشباعها. وهنا فانه اختلف مع المفهوم الارسطوطالي للتبادل القائل بأن الناس يتبادلون السلع ذات القيمة المتساوية لديهم. لكن منگر يرى ان الاصح هو ان الناس يبادلون ما له قيمة أقل عندهم بما هو اكثر قيمة في نظرهم، الامر الذي يثبت جدوى التبادل ومنفعة الطرفين منه. ومن هذا التبادل نشأت النقود كأداة لقياس القيم المتبادلة، ونشأت الحاجة الى الطرف الثالث الوسيط من أجل احداث وتسهيل عملية التبادل التي غالبا ما تكون من الصعب ان تحدث لوحدها. 

كذلك فان منگر أغنى مناقشة "متناقضة الماء- الماس" التي حيرت آدم سمث، وذلك بتفسيرها بناءً على المفاهيم الحدية، وبالذات عن طريق التفريق بين المنفعة الكلية والمنفعة الحدية. فالماء ، اساس الحياة وذو الطلب العالي رخيص أو مجاني لان منفعته الحدية واطئة جدا بسبب وفرته لكن منفعته الكلية عالية جدا بسبب ضرورته. أما الماس الذي ليس له أي منفعة عملية والمطلوب من قبل القلة القليلة من الناس يكون سعره غالي جدا ذلك ان منفعته الحدية عالية جدا بسبب ندرته ومنفعته الكلية واطئة جدا بسبب قلة فائدته العملية. وهنا، فإن الوفرة والندرة يشيران الى العرض الذي يسهم في تحديد قيمة السلعة التبادلية جنبا الى جنب مع الطلب عليها. وبالنسبة للسعر فإن منگر يعتقد بأنه يمثل حلقة الاتصال بين القيمة الذاتية التي يقررها المستهلك لسلعة ما نظراً لاهميتها له وبين القيمة الموضوعية التي تتقرر في السوق نظراً لحسابات المنتج وعوامل العرض والطلب. وهكذا يصبح السعروسيلة لقياس قيم السلع والخدمات. كما انه يفسر نشوء النقود كنتيجة لعملية تلقائية عضوية أوجدتها ضرورة التبادل السلعي والخدمي، تماما مثل نشوء اللغة بين البشر، كوسيلة لتسهيل تفاهمهم وتفاعلهم فيما بينهم. فالنقود إذاً عبارة عن سلعة ايضا، لكنها السلعة الاكثر تداولا وتبادلا. ولاشك فانها تطورت عبر الزمن فكانت مثلا لدى بعض المجتمعات وفي زمن ما عبارة عن نوع من الماشية أو فرو بعض الحيوانات أو الملح، وأخيرا اصبحت تقاس بالذهب بسبب صفاته الفريدة والذي اصبح بعد فترة خاضعا لسيطرة الدولة ومنظما بموجب قوانينها.

اُعتبرت نظرية السعر والنقود من صلب مساهمات منگر في تاريخ الفكر الاقتصادي ، خاصة وانه قد نظر الى السعر كتجسيد موضوعي لظاهرة سببية تجلت في خضم محاولات اشباع  الانسان  لحاجاته. وهذا هو ما أكده الاقتصادي جوزيف شومبيتر حيث قال ان ماوصفه منگر حول نشوء مفهوم السعر لايصور فقط عملية اشباع الانسان لحاجته انما يفسر ايضا بقية الظواهر الاقتصادية المعقددة في اقتصاد التبادل (Schumpeter   (1954,.  كان ذلك انعكاسا مباشرا لما أكد عليه منگر من ان على المرء، مستهلكا كان ام منتجا، ان يمتلك المعرفة اللازمة لاتخاذ قراراته الاقتصادية. ويقصد وعيه الاقتصادي ومعرفتة بالسلعة التي يشتريها وبسعرها وبكلفتها وبكل علاقات السبب والنتيجة المتعلقة بعملية التبادل وما يترتب عليها من آثار اقتصادية.

وفي شرحه لنظرية الانتاج، كان منگر قد صنف السلع وعلاقتها باشباع حاجات الانسان الى مراتب عليا ودنيا. فمثلا علاقة الخبز بالمستهلك لاشباع الجوع عبارة عن علاقة ذات مرتبة دنيا ، لكن علاقات عوامل انتاج الخبز بالمستهلك ستكون من علاقات المراتب العليا.  وهذه العلاقات مصنفة هي الاخرى الى مراتب ثانوية فمثلا نوعية الدقيق وحالات الافران تكون من المرتبة الثانية تليها حالة المطاحن ثم نوعية القمح وحالة الحقول وعمل الفلاحين ستكون في المراتب الثالثة والرابعة والخامسة وهكذا صعودا الى اعلى المراتب التي تمثل ابعد العلاقات بالاستهلاك المباشر للخبز من قبل المستهلك. والاستنتاج الاساسي هو ان سلع المراتب العليا ستتحول تدريجيا الى سلع وخدمات المراتب الدنيا ذات الصلة المباشرة باشباع الحاجات. ما يترتب على ذلك  هو ان الطلب على عوامل الانتاج (أو سلع وخدمات المراتب العليا) سيكون عبارة عن استجابة للطلب على السلع ثيقة الصلة باشباع حاجة المستهلك وهي الخبز في هذا المثال (وهي من سلع وخدمات المراتب الدنيا) التي تشبع الحاجة مباشرة.  وفي هذا الايضاح يثبت منگر صحة مقولته الشهيرة بأن كل الاشياء محكومة بقوانين السبب والنتيجة التي تسري باتجاهين.

من الجدير بالذكر هنا هو ان اغلب مساهمات منگر الاقتصادية وردت في مؤلفه الاساسي، "مبادئ الاقتصاد" المنشور عام 1871 والذي لم يلق اي اهتمام في ذلك الوقت لكنه اصبح فيما بعد الكتاب التأسيسي للمدرسة النمساوية في الفكر الاقتصادي. كتب منگر ايضا في اصول وطرق البحث فكان كتابه الموسوم "تحقيق في طرق بحث العلوم الاجتماعية مع اشارة خاصة لعلم الاقتصاد" المنشور عام 1883. أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة وانتقادات صارخة من قبل مجتمع الاقتصاديين في فيينا. وعلى أثر ما جاء فيه من آراء جريئة غير تقليدية ولدت تسمية "المدرسة النمساوية" لمنهج منگر ومن تبعه كإشارة سلبية باعتبارها خارجة عن المنهج التقليدي المستتب والشائع في ألمانيا وما حولها.  وقد ردّ منگر على تلك الانتقادات في كراس كان عنوانه " اخطاء المنهج التاريخي في الاقتصاد الالماني" المنشور عام 1884 والذي بدأ منه الجدال المنهجي بين المدرستين الالمانية والنمساوية. خلال سنوات الجدال تلك كسب منگر رهطا من تلامذته وزملائه الذين اصبحوا فيما بعد من ألمع الاقتصاديين كـ يوجين بوم بافرك   Eugen von Bohm-Bawerk وفريدريش وايزر Friedrich von Wieser  الذي تنسب اليه صياغة قانون تناقص المنفعة الحدية وقانون توازن المستهلك كما نعرفهما اليوم بعد ان ترجم وشرح ولخص ما كتبه منكر بنفس المعنى.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم