صحيفة المثقف

في ضوء كتاب (نظام التفاهة) للفيلسوف الكندي (ألان دونو)

جمال العتابيالتفاهة في نسختها العراقية

نحن هنا إزاء مشكلة ليست تقليدية، لكنها جديدة تشغل بال أهل الفكر في عصرنا الحاضر، ولابد لهذا العصر أن يواجهها في ضوء المتغيرات الجديدة.

المشكلة تتمثل بنظام عالمي قائم على التفاهة، حسب طروحات الفيلسوف الكندي (الان دونو) في كتابه (نظام التفاهة)، الصادر عن دار سؤال اللبنانية عام 2020، ترجمة الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، مؤلف الكتاب دونو، أستاذ للفلسفة في جامعة كيبيك الكندية، وهو أكاديمي ناشط معروف بالتصدي للرأسمالية المتوحشة، ومحاربتها على جبهات عدّة، حسب ماجاء في (التعريف بالمؤلف) متصدراً الكتاب.

تؤكد المترجمة ان المؤلف ينقل بدقة مظاهر الإنتشار المستشري للتفاهة، في حالات عديدة تظهر كنظام مكين يضرب بجذوره في تربة المجتمع، بشيء من المنهجية والإستقرار المرعبين..التافهون حسموا المعركة لصالحهم، وباتوا يمسكون الآن مواقع مهمة في العالم، عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغير الزمن، فالتافهون أمسكوا بالسلطة !!

بهذه الأفكار يختصر دونو ملامح عالم اليوم، وفي مراجعة لتعريف التفاهة في مصادر اللغة، نجد انها تعني نقص في الأصالة أو الإبداع، وتعني كذلك الحقارة والخسّة، أو الدناءة، لنتخيل عالماً يقوده الحقراء! وعصراً بلا مباديء أخلاقية، وحكومة دنيئة وخسيسة ،

(نظام التفاهة) تناول قضايا عديدة ذات صلة بالثقافة والحضارة، كيف إستطاع هذا النظام من تحويل المسار  الطبيعي لحياة البشر؟ كيف أمكنه من تغيير نمط العلاقات الاجتماعية؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة تبدو معقدة وعسيرة إلى حدٍ ما، لأن رصد هذه الظاهرة الغريبة، وكيفية إنتاجها، تتطلب البحث في صميم الواقع الاجتماعي والسياسي والإقتصادي والفكري والأخلاقي، انها لمتناقضة خطيرة، مثلما هي مفجعة، ان نكون عاجزين أمام نظام يقوده الحقراء والخسيسون، أو نحن تحت وصايته، أي معنى يحمل هذا كله؟؟ وأية ظلال معتمة تلوح في أفق المستقبل؟؟

1620  نظام التفاهةان كل نشاط في الفضاء العام (سياسة، إعلام، تجارة، عمل نقابي)، يصفه ألان دونو عبارة عن لعبة يلعبها الأطراف فيه، بلا قواعد مكتوبة، بلغة خاصة في التفاهة، يسميها (اللغة الخشبية)، لغة جوفاء، محض ألفاظ زائدة على أصل المعنى، وتبدو في غاية التعقيد في الكتابة الأكاديمية .

كما يولي المؤلف أهمية إستثنائية لموضوعات الثقافة، ويلفت إنتباهنا الى انها أداة مهمة في توطيد أركان نظام التفاهة، على الرغم من التسميات المؤثرة والهالات اللامعة  التي تحيط بكل ما هو ذي علاقة بالثقافة، ووسائل الإتصال الإجتماعي، ووسائل الإعلام، وفي الفن كذلك، ويشير دونو الى وسيلة اساسية في ترسيخ نظام التفاهة في هذه الميادين، وهي الإبتذال والبهرجة.

ما يعنينا في هذا الشأن، هو تناول أثر هذه الظاهرة في واقعنا العراقي المعاصر، بسؤال هو: هل يندرج العراق اليوم بكيانه كدولة ومجتمع وفرد ضمن هذا التوصيف؟ أو بصيغة أخرى: هل هناك نسخة عراقية لنظام التفاهة؟ أم هناك تفاهة عراقية إستثنائية؟ للإجابة عن هذا الأسئلة، يمكننا القول، إن التفاهة العراقية متفردة، مجانية، مختلطة بالحماقة والسفاهة، ليست حماقة صبي، انها ممزوجة بالدم، وجهها الحقيقي دموي وعبثي وإجرامي، لا تمنح نفسها على السطح، في جوهرها هوّة عميقة، وليست مأزقاً، هذه التفاهة ما كان لها ان تتعمق لولا السلوك الاستبدادي، الديكتاتوري، على مدى عقود من الزمن، شهدت ألواناً من التدمير والخراب على نحو مريع. مما أتاح لأكثر الفئات تخلفاً وسادية أن تمسك بزمام السلطة لتعود بالبلاد الى الوراء، إلى ماقبل تأسيس الدولة العراقية.

تمظهر(نظام التفاهة) في العراق بأشد حالاته بشاعة وإبتزازاً، في ما يغذي آلية دورة الفساد، وشراء الذمم، وإنتهاك الحقوق، ومصادرة الحريات، من أجل أن يبقى النظام السياسي، ويحافظ على سلطاته وإمتيازاته، في ظل هذا النظام، ليس لدى الفرد أدنى شعور بالحماية والضمانات التي تحقق له العدالة والإستقرار النفسي والأمل، إذ يشهد النظام أزمات حادة وخطيرة في كل الميادين . وحين تختفي ممكنات الحياة البسيطة المتواضعة، يبدأ الإنسان بالتفكير في الموت والتهيؤ له، ويصاب بالهوس المرضي الناجم عن اليأس وكراهية الحياة، ويصبح الحديث عن الموت يفوق الحديث عن مباهج الحياة، في أجواء فاسدة لاتخضع لقانون الدولة أو الضمير، من هنا تبدأ الهوامش بإلتهام المتون، وتزحف التفاهة على مفاصل الدولة والمجتمع. بإشاعة كل عوامل الرداءة والتخلف والفساد، وخلق التناقضات، ومحاربة الكفاءات، وزرع الكراهية.

الواقع الثقافي الميدان الأخطر، إذا ما لجأت السلطة بأذرعها المتعددة (الحزبية والمال) إلى تغيير الواقع الثقافي لتمرير مشروعها السياسي بثقافة ثيوقراطية تتبنى رؤى إنغلاقية لقضايا المجتمع، ومنها قضية المرأة التي أصبحت هدفاً للجماعات الراديكالية ووسيلة لخطابها المتشدد، في الحط من قيمة المرأة ومكانتها الإجتماعية والإنسانية على نحو غير مسبوق في تاريخ العراق الحديث.

شهدت الثقافة العراقية على إمتداد عقود من الزمن أضطرابا وقلقاً في المفاهيم والفعل والإنتماء، بسبب عوامل معقدة ومتشابكة، ومشكلات صعبة، خصوصا وان التداخلات والتناقضات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية، فعلت فعلها ثقافيا على إمتداد تلك العقود، ولم يكن الزمن في صالح إنتاج ثقافة عراقية لها ثوابتها، برصيد ثقافي لمواجهة ثقافة ظلامية، أو يوازنها ثقلاً، من موقع الثقة المطلقة بالمنجز المتنور،على الرغم من تأثر المثقف العراقي منذ العقد الثاني للقرن الماضي بالأفكار الجديدة، وتيارات الحداثة في الأدب والفن العالميين.

في العراق يجري إنتاج التفاهة بإصرار وبشكل منظم، في العداء لمظاهر الجمال (التشكيل، الموسيقى، السينما، المسرح)، هناك كره للنتاج الجمالي الحر، وفعل تدميري للمنتج المعماري العراقي فخر العمارة والثقافة العراقية، الأمثلة والشواهد لا حدود لها، تؤكد نزعة الإبتذال، وصيغ الانحطاط في الذوق الفني، أساليب رثة سمجة مستفزة، في تشويه المنجز المعماري، او هدمه وإزاحته، تغليف المباني بألواح من الألمنيوم وبألوان صارخة لا تنتمي لقاعدة أو مفهوم فني وجمالي، وبغداد ومدن أخرى كانت نضرة وزاهية يتوهج فيها اللون، تحولت الى مدن تجهش بالبكاء تجمع أحزانها كل مساء .

   تتأصل التفاهة في السلوك والممارسات الاجتماعية، وفي اللغة المتداولة والخطابات وأكثرها بؤسا تلك المتداولة في وسائل الاتصال الاجتماعي، التي شجعت على ظهور المئات من أمراض الثقافة، وجمهور واسع إكتسب شرعيته في التماهي مع التفاهة هو الآخر، لسوء الحظ ان الحرية الشخصية إرتبطت في أذهان هذا الجمهور بهذا السلوك، في هذا الوسط تجري عملية تسويق آلاف النماذج التافهة دون ضابط أخلاقي أو قانوني، تنال ملايين الإشارات من الإعجاب والتعليقات السمجة والتافهة، العلّة أين إذاً؟ الجواب كما نعتقد يتمثل بمجتمع وفرد معتلين ، يتحركان في إطار العدمية الأخلاقية، (المثقف...!) هنا وسط هذا المناخ يتحول إلى كائن متواطيء ونفعي، يتماهى مع السلطة في نفوذها الباهت في تهميشها لمنظومة القيم الأخلاقي .

ان الأخطر مافي هذه اللعبة هو الصمت، والأسوء هو الإنحدار الى الدرك الأسفل في ممارسة اللعبة.

وليس الحال أفضل بما تعرّض له الواقع التعليمي من مفارقات مأساوية في المراحل كافة، وهنا أود التركيز على التعليم الأكاديمي الجامعي، بوصفه يمثل الصفوة أو النخبة التي تضطلع بمهمة النهوض الحضاري والثقافي، مثلما ينبغي، بحكم موقعها ودورها التربوي والعلمي التخصصي، غير ان الواقع يشير خلاف ذلك تماما، والأمل بأن  يكون التعليم فعالاً  وقادراً على التغيير، قد تبدد للأسف الشديد، فهناك مشكلة عميقة مرتبطة بالوضع السياسي وسلوك الطبقة السياسية الحاكمة.

إن أحد أهم  مظاهر التفاهة التي أشار اليها ألان دونو، هو شيوع ظاهرة التعليم الخاص، كأحدى الممارسات التجارية التي تعكس وجه الإنحطاط الأخلاقي والمجتمعي، عبر ما وصفه ب (تسليع المعرفة)، كما تناول الواقع المتدني للجامعات، والإقبال على الدراسة لغرض الوجاهة، لا المعرفة. إن ماحصل في العراق من تدمير للتعليم في مراحله كافة، هوشيوع ظاهرة التعليم الخاص، لصالح أحزاب وشخصيات سياسية نافذة بعد2003، وعلى حساب التعليم الحكومي الذي شهد تراجعاً مريعاً .

إن ماذهب اليه ألان دونو في تحليل نظام التفاهة في العالم، إنما هو جزء من مخلفات العولمة ونتاج عرضي لها، هي الوجه الاخر لمجتمع غير قادر على إعادة بناء منظوماته وتوازناته على أسس جديدة ملائمة، هذه الأسس مرهونة بالإستقرار السياسي وإشاعة الديمقراطية الحقيقية وبناء مجتمع العدالة، وفي العراق بعمقه الحضاري والثقافي ليس من السهل التعميم والقبول لنمط سلوكي شاذ، ربما تمكن (التافهون) من النجاح في محاولات التخريب والتدمير لبعض من الوقت، ترتب عليه نتائج كارثية، لكنها لن تنجح على نحو مطلق، ومرهونة كذلك بالثقافة العراقية  التي تكتسب معنى المقاومة، ومن ثم حوافز الحلم بالتغيير وبمستقبل يعيش فيه الانسان حراً ومعافى.

  يمكن القول أيضاً بأنه لا يمكن لخطاب يضمر نزوعاً الى الإعتداء والتدمير والإستلاب، ان يكون خطاباً ثقافياً، ذلك ان الثقافة نتاج يواكب التاريخ، ولغة يتوسلها الإنسان من أجل تحقيق حضوره الذاتي في هذا التاريخ. والثقافة بهذا المعنى ليست فعل تدمير وفناء، بل مساحة حوار، يبقى حاضراً في الزمن ومشعاً في فضائنا الكوني.

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم