صحيفة المثقف

أصولُ الثقافة الثوريِّة في القرآن (2)

مجدي ابراهيمولنا أن نتعرَّف على معالم تلك الثورة فيما تضمنته ثورة الإنذار الذي قدَّمه "نوح" عليه السلام، مُرسلاً من عند ربّه إلى قومه :"إني لكم نذير مُبين"، إذ يتضمَّن هذا الإنذار عمق التوجه إلى القضية الثورية الكبرى؛ قضية "تغيير الاعتقاد"، وما يتبع هذا التغيير من عمل وعبادة :"أن لا تعبدوا إلا الله".

وإذن؛ فهى ثورة تستبدل عبادة بعبادة، وتزيل اعتقاداً كان راسخاً؛ لتحل مكانه اعتقاداً آخر، تكتسح أوضاعاً متردية باطلة؛ لتثبت أوضاعاً صادرة من مشكاة الحق يمليها إقرار الاعتقاد الجديد. ولكن هيهات! هيهات أن تكون النفوس على مأمنٍ من الغفلة وأهبة الاستعداد.

أيكون الناس من أمر استقبال هذه الثورة المنذرة على اتفاق مقبول؟ كلا ! أيقابل الناس هذا الإنذار بالمحبة والترحاب؟! بالطبع لا، وإلا ما كانت منذ البداية خليقة أن تسمى "ثورة". وإنما سميت إذْ ذاك ثورة؛ لأنها مُدعمة بتغيير التوجه : تغييره في العقيدة والسلوك، وتغييره في الفكر والعمل، وتغييره في النظر والتطبيق. ولن يقوم التغيير فاعلاً إلا أن تكون الحركة الفعلية مقوماً من مقوماته، في إطارها يبدي تصوراته وآفاقه ومطالبه، وعلى ضوئها تظهر ملامح توجهاته؛ فالتوحيد اعتقاد باطن بالحق الذي يمحق الباطل، وبالصدق الذي ينافي الكذب ويتوقاه، ولا سبيل إلى التغيير وهناك باطل يستشرى وكذب يتفشى وينتشر.

ولأجل هذا؛ سميت ثورة؛ لأن دعائمها تتضمّن انقلاب النقيض : من الضد إلى ضده، من عناصر الشر الظاهر إلى جواهر الخير المكنون؛ ولأن المبدأ العقدي يشمل في داخله عميلة التحول هذه : تحول من الشر إلى الخير، من الرزيلة إلى الفضيلة، من النقيصة السلبية إلى المزيّة الإيجابية. وهذه الثنائية الخُلقيّة هى الأمر الوسط بين عقيدتين لا خلاف على مقرراتهما في الواقع الحيوي : العقيدة في الإله الواحد الأحد، التوحيد بكل ظلاله المعرفية، ثم عقيدة العالم الآخر ومسائل المصير الإنساني، والوسط بينهما هو الأخلاق في الحياة الدنيا : الأعمال التي قوامها الخير والشر، والفضيلة والرزيلة، الحق والباطل، الصدق والكذب؛ فالأخلاق على هذا، معيار الموافقة للتوحيد كعقيدة تامة كاملة شاملة منظوراً إليها بعواقب المصير الإنساني في العالم الآخر.

ولم تكن لتسمى ثورة بغير النظر إلى تصحيح الأوضاع المقلوبة، إنْ في التصوّر والاعتقاد، وإنْ في العمل والممارسة، أي في العبادة التي ترتهن بداية بالعقيدة التي تقوم عليها وتتحرك بالإيجاب على محورها الفاعل بكل تأكيد. وإنما سمى الإنذار "ثورة"؛ لأنه يثور العقيدة في جوف المؤمنين بُله الغافلين، وتلك كانت رسالته يؤديها على أكمل ما تؤدى الرسالات، ولا عليه بعد ذلك لو قوبل بالرفض والكنود :" فقال الملأُ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مِثلنا وما نراك اتّبعك إلا الذين هم أرَاذِلُنَا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين".

هذا هو رد الفعل ضد الثورة .. وهذا هو رد الفعل ضد أول إنذار مُرسل تمليه أو تفرضه قوانين السماء، ثورة الإنذار الأولى : التسفيه، وتقليل القيمة، والتكذيب. التكذيب بالثورة التي هي بلا شك، تحمل "رحمة من عند الله"، لكنها عمِّيت عليهم وخفيت، فلا تراها أبصارهم ولا تعقلها أنظارهم، فلم تعد عيونهم ترى ولا أسماعهم لنداء الحق تصيخ، ولا ألسنتهم تنطق بالمعرفة بل بالجهالة في كل حال ناطقة، ولكنهم صمٌّ، بكم، عمي، فلا يعقلون!

فلئن كانت ها هنا رحمة من عند الله لكنها عمِّيت عليهم، فلأنهم لا يرونها ولا هم عليها أو على التحقق من معرفتها بقادرين لا لشيء إلا لأنهم لها كارهون. هم لا يفقهون معنى هذه الرحمة ولا يدركون لها مدى ولا مرمى؛ لأنهم كارهون نور الهداية، مريدون بأنفسهم لظلمة الخمود والاستسلام لجهالة التقليد.

بيد أنها "النبوة" وأنىَّ لهم التصديق، وهم كانوا مكذبين، وكانوا كافرين قبل أن يكونوا :"لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن"، يوم أن أخذ الله :" من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا : بلى! شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كُنّا عن هذا غافلين".

ومع هذا كله، يشتد الحزن على النبي المرسل، آملاً هداية البشر من قومه، ومؤملاً فيهم عصمة الثقة بالتَّوجه العلوي الذي يهتز لوجوده وجدان المدركين، وراجياً لقومه أن يكونوا قوماً مهتدين؛ فيُجادل بالتي هى أحسن، ويسلك في مجادلتهم سبيل الحسنى أحياناً مرفقاً، ويعنف أحياناً أخرى مشفقاً، والرفق في كلتا الحالتين أسلوبه. ولكن من غير فائدة، فماذا قالوا؟ "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدُنا إنْ كنتَ من الصادقين". ثم هم لا يتركونه وقد كانوا له مكذبين، بل سخروا منه وهو يصنع الفلك :" وكلما مرَّ عليه ملأٌ من قومه سخروا منه، قال إنْ تسخروا منا، فإنّا نسخر منكم كما تسخرون".

يمضي بنا هذا الإنذار الثوري إلى تقرير حقيقة من الحقائق القرآنية الكبرى خاصّة ذاتية، وهى أنه في ذاته كتابٌ ثوريِّ في أول مقام، يثور على الضعف والاستكانة من جهة بمقدار ما يثور على قوة الباطل وعنت البغي والضلال من جهة أخرى، ويدفع القلوب إلى التعلق الدائم بأوصال الغيب ثم يتدرج بالنفوس في هذا الرحاب الموصول؛ ليحي فيها ما قد أماتته عادات التقليد الأعمى فيغير وجهتها ويحول ملكاتها إلى حيث القبلة التي يريدها هو حيثما يكون نور الهداية؛ فالتغيير الذي يفرضه القرآن هو تغيير يشمل النفس بمقدار ما يشمل الجماعة المسلمة، يشمل الذات الإنسانية المُفردة ويشمل المجموع، وما من مجموع إلا والذات المُفردة أساسه وقوام نشأته، فإذا صدق تحقيق الوحدة عليها كانت على المجموع أصدق. ولأنه تغيير جذري في أنماط الحياة النفسية يحدث من الأساس؛ فيقلب الحال التي هى مألوفة للنفوس إلى حال تحتكم فيه إلى خالقها : يغير العقيدة والتصوّر أولاً ثم يتفرع عن التغيير للعقيدة والتصور تغيير شامل لأركان الحياة كلها : الحركة فيها والسكون، والمعنى لها والمبنى، والتصور والتطبيق، والعقيدة والمعاملات، والأخلاق والآداب والعبادات، الفكرة النظرية والممارسة العلمية. الوعي الإنساني الكوني في صميمه بالمباشرة يتغير ويتبدل؛ فيستقيم.

هذه ثورة لا شك فيها ولا جدال.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم