صحيفة المثقف

الذات والأنا المهمشة في ديوان: ثوب من الماء لجسد من الجمر ليحيى السماوي

عامر موسى الشيخيستدعي فهم ومعرفة الذات الانسانية أولا التعرّف على الآخر، ومن ثم تفاعل الذات مع هذا الآخر في الوجود، " فالآخرون هم أساساً، الأهم فينا، كي نتعرف على ذاتنا " كما يقول جان بول سارتر، وهو ما يمثل إحدى ضرورات الوجود، وفهم الانسان لذاته – نفسه -، وأيضا  معرفة الآخر لطبيعة هذه الذات المتجسدة في شكل وهيأة وطباع، للشريك الوجودي في الحياة .

تأتي الذات بعد (الأنا)، لأن (الأنا) موجودة منذ لحظة الولادة إن كانت واعية أو غير واعية، أما معرفة الذات ونمو وعيها فسيكون لاحقا عليها وتدريجيا وصولا إلى لحظات اكتشاف العالم عبر الزيادة بالمعارف، وتحسس الوجود، حينها سيكون هنالك لقاءٌ تعارفيٌّ بين الذات والأنا داخل النفس البشرية، لتكون الأنا الحلقة الرابطة بين الذات الداخلية والآخر الخارجي، وسبيلها لمعرفة المحيط والوجود .

يقودونا التصور السابق إلى مسألة شبه معقدة في الحديث عن الذات لدى الانسان الشاعر، وهي التمييز بين الذات الانسانية الكيان الموجود، والذات الشاعرة داخل تكوين هذا الانسان . لعل هذا التمييز يمكن فصله عبر عزل الكيان الانساني للشاعر عن نصه، فالذات الشاعرة يمكن معرفتها عن طريق تلقي النص ومعرفة عوالمه، فهي كامنة في فضاء النص الشعري ومحلقة مع الذوات الأخرى عبر الكلمات وكشف معانيها، ويأتي هذا عبر (الأنا) الواعية المدركة التي كتبت عوالم الذات شعرا، لتشكل منبعا صافيا من عمق (الذات) مرورا بخبرات (الأنا) وصولا إلى الآخر وهو المتلقي الذي سينتج معنى يحاول تأويل معاني الذات الشاعرة ..

تميز الشعر العربي، بأنه شعر نابع من الذات إلى الآخر، لكنه في الوقت نفسه يمثل صدى لأصوات هذا الآخر – الآخرين-، إذ أن أغلب الشعر العربي، هو تمثلات الآخر في النص، أي انه يأتي من خارج عوالم الشاعر، ومن ثم يقوم الشاعر بإعادة هذه التصورات شعرا، وهو ما يمثل حوارا مستمرا بين الشاعر والآخر المتلقي الباحث عن رغباته في النص، فالذات هنا تكون منتجة والآخر مستهلكاً ويأخذ منها ما يحقق له ذاته ويمنحه لذّة نصية على حد تعبير رولان بارت .

1622 ثوب من ماءثمة تجارب شعرية، تميزت عن غيرها، في عملية البوح الشعري، وتغاير التصور السابق، فيكون النص الشعري لديها هو صوت ذات الشاعر، ويكون النص فيها منطلقاً من الداخل إلى الخارج، وحاولت هذه التجارب تحويل منظومة سير العملية الإبداعية وتغيير طريقها، ليكون طريق البوح محصورا بين الذات و الأنا، فيما سيكون المتلقي هو المحطة الأخيرة الذي بدوره سيقوم بفعل فك شيفرة الحوار، لينطلق في تحليق خاص مع المعنى .

تمكنت هذه التجارب من تحديد مسار الخطاب الشعري بين الذات و المخاطب ومن ثم تأتي (الأنا) العارفة المدركة هامشية صغيرة منزوية، وتكون الذات هي الرقيب والحاكم والسجان (للأنا) بل تتحول الذات إلى جلاد للأنا ..

 يمكن تلمس التصورات السابقة في تجارب شعرية عديدة، ومنها تجربة الشاعر العراقي يحيى السماوي، لاسيما في دواوينه الأخيرة الصادرة بين 2010 و 2020، يجد المتلقي أن الشاعر السماوي، ونتجية للعزلة القسرية في المنفى الاختياري في استراليا، حيث يقيم، يقدم لنا كشفا ذاتيا عن سيرة عذاباته الشخصية فضلا عن مراقبته لتعاظم الخيبات في بلاده من هناك، إذ أتت نصوصه بصيغ تحاور ذاته وأناه ضمن دائرة بوح شبه مغلقة بينهما، لكنها متاحة ومفتوحة شعراً .

ننتخب لهذا المفهوم ديوان السماوي " ثوب من الماء لجسد من الجمر " الصادر في دمشق عن دار تموز (2016) ونجد أنه قد صاغ حوارات نفسية داخلية صريحة وتكشف اعترافات ذاتية، لا تمثل سيرته الشخصية، بل سيرة ذاته المضطربة واناه التي تحاول اللحاق بذاته، ويتضح هذا عند أول قصيدة من قصائد هذا الديوان ومن عنوانها الذي يمثل حوارا وتحذيرا وإعلانا ذاتياً تشهره الذات أمام الأنا، والعنوان كما هو :  " أخاف عليَّ مني "

فهذه صياغة ذاتية تكشف اعترافا يكاد يكون مُنهيا لصراع داخلي استمر طويلا، ذلك لأن الذات الشاعرة أقرّت بأنه يخاف من أناه، ونجد أن الشاعر قد باح لنا عن هذه الذات الخائفة من أناه، ذاته الحالمة التواقة لتغيير فجيعة العالم، وعبور الممنوعات والحدود الوضعية المفروضة على حرية الانسان، لكن أناه عادت للوقوف أمام ذاته واتخذت موقف الناصح و المعلم والموجه، وأخذت مساحة الوقوف بين (أخاف ...و... مني)، وتأخذه مع ندمه الذي يقرّه إلى مكان محايد وهو البحر وكأن البحر صار حائط اعتراف، وساحله قاعة محكمة كبيرة، ليكون البحر هو القاضي مستمعا  للبوح الذي يصرح به في البيت الأول من القصيدة : " ندمي مرير يا صديقي البحر

جئتك مستجيرا

حاملا كفني وكافوري

فكن

تابوت أسراري

وكاهنيَ الشهيد على اعترافاتي

فقد ثقلت ذنوبي " .

بعد احتدام الصراع بين الذات والأنا كما كشف العنوان، تم التفاهم والاهتداء إلى عقد هدنة مؤقتة بين الأطراف المتصارعة داخل عوالم الشاعر، ليكون البحر هو الشاهد على تاريخ الذات وأيضا على الاعترافات والصراعات والاضطرابات التي عاشتها ذات الشاعر، ولم يختر له في لحظة الاعتراف رفيقا آخر، فهو لا يحتاج إلى ذلك، لأن رفاق الاعتراف الذاتي يسدون الحاجة،، ليستقيم مشهد الإعتراف على أربعة أطراف - أربعة رفاق -، وهي شخص الشاعر ومن ثم ذاته و أناه ورفيقهم الجديد البحر .. وبعدها تنطلق عملية الاعتراف الذاتي امام تهميش الانا، ويكون الإعتراف منطلقا من الذات صافيا إلى المخاطب وهو البحر مع اشارات بسيطة للأنا يكشفها الخطاب الشعري، كما في المقطع الآتي من نفس القصيدة

" فأنا عدويّ يا صديقي البحر

بعت غدي بأمسي

واشتريت حديقة النائي البعيد

بجنة البستان والحقل القريبِ "

 هنا اقرار تام واعتراف صريح بقساوة الأنا على الذات " فأنا عدويّ" يقولها صراحة في حضرة الصديق الجديد القاضي الكبير البحر، ومن ثم تتوالى الاعترافات والخسارات والخيبات عبر بيع الغد بالأمس ومن ثم الاعتراف الكبير بخسارته الذاتية لبلده المتمثل بالبستان والحقل القريب من ذاته، وأبدلته أناه بحديقة النائي البعيد وهو المنفى، إلا أن ذلك كله حدث قسرا عبر مسيرة الشاعر التي حفلت بتعدد الهجرات والتنقلات والمطاردات ..

إلى أن تفصح الذات عن شبه قرار أخير، أو رغبة دفينة في نهاية مسيرة العذابات عبر صلب الشاعر لنفسه ، لكنه قرار محكوم بالمراجعات والتفكير الذاتي، الذاتي فقط من دون اعطاء مساحة لأناه بأن تفكر، كما يقول

" لو كان في صلبي خلاصي

ما خشيت

من الصليبِ

 

حاولت أنصحها

فقلت كفاك يا نفسي

من العسف الذي لا قيت

والخلِّ المريبِ " .

هذا كشف جديد لحوار قديم جرى بين الذات والأنا في نهيها عن الاستمرار في النزق والمغامرة من أجل تحقيق أشياء لا تتحقق في هذا العالم المرعب ويضيف خيبة أخرى غير التعسف، في أن الخل القديم كان مريبا ومخيبا للآمال، فلابد من نهاية لهذه العذابات المريرة، لوكان الصلب ينفع، لصلب نفسه، إلا أن الصلب غير نافع بالمرّة ..

يستمر الحوار بمكاشفات جديدة واعترافات أكثر صراحة من التي قبلها، فها هو الشاعر، يكرر خيبة ذاته من قبل أناه التي لم تستقر أبدا من الاضطرابات

" لكن نفسي لم تطع قولي

فصرت ضحيةً

لعناد نفسي والحبيبِ " .

إن سلمنا القول بأن البحر صار محكمة وقاضيا في الوقت نفسه، فإن الشاعر هنا يقرّ بتهمة أناه على ذاته بأنه كان ضحيتها وضحية الحبيب غير المبال لنقاوة وبراءة ذات الشاعر التي تورطت وصارت حبيسة الأنا والحبيب ..

يمكن للمتلقي أن يجد في هذه القصيدة استمرارية الاعتراف وتدفقها المستمر في مشهد متكامل قوامه الحوار المنبعث والذي هدفه تبرئة الذات من نزق الأنا، مثلا

" وأقول لي

الذنب ذنبك

كنت تعرف أنه

عصر الخطيئة والذنوبِ "

وفي موضع آخر يستعيد اجابة سابقة صدرت من أناه لذاته، إذ تقول :

" فتجيبني نفسي " ونجد أيضا " سأقيم مأدبتي على شرف اندحاري في حروبي "، وأيضا نجد " حرّضْتَني ضديّ .. فكنت ضَحِيَّتي "

وفي قصيدة آخرى من قصائد هذا الديوان، يتغير شكل الاعتراف، لكنه بقى ضمن دائرة الذات والأنا، لكن المخاطب هنا واضح عيني، ويقدم له القول مباشرا من الذات، مع تحذيرات المخاطب من أنا الشاعر، وهذا ما يكشفه العنوان " خبّئيكِ عني " يمثل هذا التركيب اعترافا صريحا صادرا من الذات إلى المخاطب مباشرة ؛ مع اعتراف ضمني من أن الشاعر لا يستطيع التصبر على أناه، التي أضمرها في التركيب، لكنه أشار لها في معنى التحذير عبر دعوة المخاطب إلى الاختباء عن أناه ..

وهكذا في قصائد أخرى ضمن هذا الديوان نجد أن مفهوم الذاتية وحواراتها الداخلية في تهميش الأنا جلي وواضح عبر عنوانات القصائد مثل " حديقة الجنون " و " كل ذنبي أنني دون ذنوب " و " تطهر " و " إن بعض الصدق إثم " وقصائد أخرى .. إلى أن يختم الشاعر هذا الديوان بقصيدة تريد نهاية لهذه الصراعات، وإن كانت نهاية مؤقتة، لكنها تبدو ختاما لعوالم ديوان " ثوب من الماء لجسد من الجمر " إذ تأتي القصيدة الختامية بطلب لحالة انسانية جسدية بيولوجية تريد إراحة هذا الجسد من احتدام صراع الذات والنفس والأنا وتراكم الخيبات، قصيدة أتت بعنوان طلبي يرجوه الشاعر ويطلبه من كل الاطراف المتصارعة، وأيضا هو طلب من الصديق الجديد و القاضي الأول الذي نصبه الشاعر لمحاكمة قضاياه الداخلية الكبرى وهو البحر، تأتي القصيدة الأخيرة والتي عنوانها " أريد أن أنام " خاتمة مسك ولكن مؤقتة، لأن النوم محكوم بالصحو المجدد، والعودة إلى الصراعات من جديد، لكن لابأس بطلب النوم الجسدي الذي سيعطل ولو بشكل مؤقت تراكم الصراعات والعذابات في محاولة للانتقال إلى عالم الاحلام لعله يجد مستقرا في الحلم يعزله عن فجائعية الوجود، وهذا ما أكده البيت الأخير من القصيدة، وهو خاتمة الديوان

" عسى أراني بشرا

في

جنة الأحلام " .

قد لا تكفي هذه اللمحة بالإحاطة التامة بهذا الديوان الغزير بالمفاهيم المغايرة، والتصورات الشعرية، إذ أن تجارب السماوي الأخيرة قد قدمت نفسها بمضامين جديدة تنبع من الداخل إلى الخارج في صياغات فهي من حيث المعنى حداثوية بامتياز، إلا أنها تمسكت بقوانين الشعر العربي من حيث الموسيقى والوزن والقافية، وهذا ما يحسب للسماوي، في أنه يعد في مصاف الشعراء العرب المعاصرين المجددين .

 

بقلم: عامر موسى الشيخ

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم