صحيفة المثقف

كنتُ زورقاً

احمد الحلي(كنتُ في سالف الأيام شاباً، وفتاة، وغصناً مزهراً، وطائراً، وسمكة تسبح صامتة في البحر).. إمبادوقليس

كنتُ زورقاً

بوسعي ان اتذكّرَ أيضاً أني كنتُ ذاتَ يومٍ  زورقاً خالياً يطفو فوقَ سطحِ ماءِ البحرِ تتقاذفُهُ الأمواجُ وتؤرجحُهُ الرياحُ . علمتُ بعد ذلك بناءً على إيحاءاتٍ خفيةٍ ان الزورقَ الذي هو انا لم يكن خالياً تماماً . فثمةَ روحٌ جبّارةٌ لماردٍ تتحكمُ بي وتختارُ الوجهةَ التي سأذهبُ إليها، إذن فلا خوفَ عليّ من الغرق علمت ايضاً أن مهمةَ محددةً أوكلت إلى هذا المارد تتمثلُ في التقاط ارواحِ غرقى هذا البحر الفسيحِ وتعبئتها في قارورةٍ زجاجيةٍ يمتلِكُها ومن أجل ذلك كنت أرى ظلالَ الماردَ وهو في حركتِهِ السريعة الدائبة ذهاباً وإياباً وفي كافةِ الاتجاهات، وبعدَ ينالَ منه التعبُ كنت أراهُ يستلقي ويصدرُ شخيراً مزعجاً وفي اوقات استراحته كنت اراه يفتحُ سدّادةَ القارورةِ بحذرٍ شديدٍ ثم يضعُ اذنَهُ عند الفتحةِ وهو في حالةٍ من النشوةِ  والطربِ والانشراح  فانتابني الفضولُ لمعرفةِ ما يسمعُ ولما كنتُ على علمٍ بمدى حذرِهِ فإني حرصتُ على إختيارِ الوقتِ واللحظةِ المواتيةِ والتي تتمثلُ باحتسائِهِ جُرُعاتٍ من الخمر وهي اللحظةُ ذاتُها التي كان الماردُ يفضّل فيها ان يفتحَ السدّادةَ ويُصغي للأصوات .

وضعتُ أذني وأتيحَ لي ان أسمعَ صوتَ جموعٍ غفيرةٍ وهي ترددُ بصوتٍ منغّم :

نحنُ شعبُ القارورة

أبعدتنا عنها المعمورة .

**

نافذة

بوسعي ان اتذكر اني كنت ذات يومٍ نافذةً في بيتٍ مهجورٍ تُطِلّ على ثنيةِ طريقٍ اعتادَ ان يلتقي عندَها عاشقانِ . كنتُ أستشعرُ النشوةُ والبهجةَ وانا أرقبُ في شوقٍ تلاقيهما واللحظاتِ الحميمة الأثيرة أرى وأسمعُ ما يدورُ بينهما من نجاوى تجعلُ الدماءَ تتدفّقُ في عروقي مجدداً أنا التي تدخلُ الآن في طورِ الكهولة ....

في ذاتِ يومٍ رأيتُ الفتاةِ تأتي إلى موعدِها كان المطرُ ينهمرُ بغزارةٍ ولكنّ الفتى لم يحضر وبقيت العاشقة تنتظرُ لبعض الوقتِ ثم ذهبت لحالِ سبيلِها مكسورةَ الجناحِ . كنت أستشعرُ مرارتَها وعمقَ حُزنِها وخمّنت أن الفتى ربما عرضَ له عارضٌ طاريءٌ منعه من الحضورِ.

وفي موعدِ الأسبوعِ التالي تكررَ المشهدُ المؤسي، تحضرُ الفتاةُ ولا يحضرُ الفتى ثم أراها وهي تجرجرُ خطاها  المتعـثرةَ عائدةً من حيثُ اتت وكأنها تنزلقُ في هاوية .

ولكنها مع ذلك ظلت مواظبةً على الحضور في الموعد المقرر .

كانت تحدوني الرغبةُ لأن اعرفَ ما الذي يجري . فكرتُ في الأمرِ مليّاً وتوصلت إلى الحلّ . كانت ثمةَ حمامتانِ تقيمانِ لديّ منذُ امدٍ بعيدٍ فأطلعتُهما على سري واني أرغبُ بمعرفةِ ما الذي حدث للفتى . فأخبرتاني انهما كانتا أيضاً تراقبانِ عن كثبٍ نموّ العلاقةِ بينَهما وأعلنتا لي أنهما راغبتانِ بل ومتحمّستانِ لتلبيةِ رغبتي وإسداءِ المعروفِ لي كنوعِ من ردّ الجميلِ ووعدتاني خيراً .

ومرت بعدَ ذلك أيامٌ وأيام .

ثم لاحظتُ ان الحمامةَ اختفت وبقي الذكرُ وحيداً في عُشّهِ ينوحُ ويندبُ حظّهُ واستمرّ الحالُ هكذا للأيامِ التاليةِ، عاشقةٌ تحضرُ لموعدِ اللقاءِ ولا يحضرُ عشيقُها وحمامةٌ تهجرُ عُشّها من دونِ سابقِ إنذار . وبقيتُ في حَيرةٍ من امري اضربُ كفاً بكفّ على تقلّب الأقدار وأخيراً اتيحَ لي ان أدركَ أن بقاءَ الحالِ من المُحال .

شجرة

بوسعي أن أتذكرَ أنني كنتُ ذاتَ يومٍ شجرةَ سِدرٍ عملاقةٍ أقِفُ منتصِبةً عندَ حافّةِ غابةٍ كانت عشراتُ العصافيرِ تتخذُ مني وطناً لها وكنت سعيدةَ جداً بها وبزقزقاتِها في كلّ صباحٍ وعند اول المساء . مثلما كان يتهافتُ إليّ النحلُ زرافاتٍ ليمتصّ رحيقَ أزهاري .

وفي ذاتِ يومٍ حطّ فوقي غرابانِ نهِمانِ كانا يزعقانِ ويصخبانِ بفرحٍ كأنهما عثرا على كنزِهما فهجما على أعشاشِ العصافيرِ وقاما بتخريبِها والتهما فراخَها وبيضَها وكأنهما يمرحان . وبعدَ ان انتهت حفلتُهما رأيت العصافيرَ المسكينةَ تجتمعُ ثانيةً وتقيمُ لها مأتماً كبيراً على ضحاياها الصغار ويبدو انها كانت تتداول في ما بينها بشأنِ ما سيكون عليه مصيرُها بعد هذه الهجمةِ الشرِسةِ وقبلَ ان يحلّ المساءُ وجدتُها وهي تحزمُ حقائبَها لترحلَ عني إلى غير رجعةٍ .

وفي صباحِ اليومِ التالي استيقظتُ مبكّراً كان الصمتُ مخيّماً والوجومُ مهيمناً وتكرر الأمرُ للأيامِ والأسابيع التي تلت ذلك فانتابتني نوبةُ إحباطِ شديدةِ وأخيراً وبعدَ ان يئستُ من عودةِ عصافيري اتخذت قراري فاومأتُ للحطابِ ان يضعَ حداً لمعاناتي .

**

ورقة

بوسعي أ، أتذكر اني كنتُ ذاتَ يومٍ ورقةً في دفترِ تلميذٍ كسولٍ كانَ الأستاذْ يقِفُ أمامَ السبّورةِ منهمِكاً بشرحِ الدرسِ فيما التلميذُ يتسلّى بمساحتي فيرسمُ طيراً مَقصوصَ الجناحينِ أو قبّعةً مثقوبةً أو يكتبُ كلمةَ أحبّكِ داخلَ قلب. وحينَ يقفُ الأستاذُ فوقَ رأسِهِ ويسألُهُ عمّا يفعلُ يتلعثمُ وقد ارتسمت على وجهِهِ ابتسامةُ بلهاء .

بوسعي أن اتذكّرَ انني كنتُ في يومٍ ما بذرة وأنني تنقّلتُ بين أصقاعٍ وأماكنَ شتّى من دونَ ان تُتاحَ لي فرصةُ الإنباتِ ؤان الريحَ العاتيةَ حملتني ذاتَ يومٍ  في جلبابِها ثمّ ألقت بي في أرضٍ يبابٍ حيثُ لا ماءٌ ولا شجر. كنتُ أكتوي بنارِ الشمسِ الحارقةِ ارقبُ السماءَ لعلَ غيمةً تمرّ . كنت اتحسسُ النبتةَ بداخلي وأهجسُ جذري وهو يتوغّلُ في التربةِ الرطبةِ ؤأرقبُ في حنوّ نموّ اعضائي ووريقاتي ثم أشهدُ تفتحَ ازهاري قبل ان يدركَني الفوات…

ومنذ ذلك الوقت وانا انتظر.

**

بذرة

بوسعي أن اتذكّرَ انني كنتُ في يومٍ ما بذرة

وأنني تنقّلتُ بين أصقاعٍ وأماكنَ شتّى من دونَ ان تُتاحَ لي فرصةُ الإنباتِ ؤان الريحَ العاتيةَ حملتني ذاتَ يومٍ  في جلبابِها ثمّ ألقت بي في أرضٍ يبابٍ حيثُ لا ماءٌ ولا شجر. كنتُ أكتوي بنارِ الشمسِ الحارقةِ ارقبُ السماءَ لعلَ غيمةً تمرّ . كنت اتحسسُ النبتةَ بداخلي وأهجسُ جذري وهو يتوغّلُ في التربةِ الرطبةِ ؤأرقبُ في حنوّ نموّ اعضائي ووريقاتي ثم أشهدُ تفتحَ ازهاري قبل ان يدركَني الفوات…

ومنذ ذلك الوقت وانا انتظر

***

أحمد الحلي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم