صحيفة المثقف

التجديد الديني ومعوقات الطرح والمعالجة

عصمت نصارعكف قادة الرأى وزعماء الإصلاح ورواد التنوير فى مصر والشام والعراق واليمن، منذ قرنين من الزمان على دراسة علة تخلف الثقافة العربية الإسلامية عن ركب الحضارة الأوروبية، واجتمعت تصوراتهم المتباينة على أن العزلة الحضارية، وإهمال العلوم الحديثة، والاستغراق فى تقديس الموروث، وغلق باب الاجتهاد، وغيبة الحس النقدي، بالإضافة إلى انعدام الرؤية السياسية وغيبة الوعى وقادة الفكر؛ هى الأسباب الحقيقية التى أدت إلى كل مظاهر الانحطاط الأخلاقى والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فضلًا عن جمود الفكر الديني وانصراف الخطاب الأدبي إلى المحاكاة والتقليد والشروح والحواشي التى لم تنتج جديدا ولم تأت بإبداع حديث إلا فى النذر القليل.

الأمر الذى دفعهم لطرح قضية التجديد على مائدة البحث والتناظر والتساوي، وذلك عن طريق إثارة العديد من الأسئلة فى حلقاتهم العلمية ومجالسهم الثقافية، ثم صالوناتهم الأدبية حول مفهوم التجديد وقضاياه ومشكلاته ومعوقاته وآليات تفعيل إثماره وسبل التطبيق فى المجتمع؛ فأدركوا استحالة النهوض بالأمة إلا بطرح قضية التجديد على نحو فلسفي ينطلق من الرؤية العامة الشاملة لتحليل الواقع، ثم الانتقال إلى الجزئيات بنظرة استقرائية عملية لمعالجة المعوقات وانتخاب الحلول.

وقد عُرف هذا النهج بالتحدي والاستجابة، أى تحدى المستنيرين لمعوقات التغيير بعد استيعاب كامل لمشكلات الواقع وسبل التغلب عليها، ثم العمل على وضع خطة للإصلاح والتوجيه وصياغتها فى خطاب يستوعبه الجمهور أو الرأى العام التابع، ويؤمن به ثم يعمد إلى تفعيله من جهة، ويتجنب فى الوقت نفسه الصدام مع السلطات القائمة إذا ما عجز عن استمالتها إلى خطابه من جهة أخرى.

ويعنى ذلك أن قضية التجديد لم تطرح على نحو جزئي، بل طُرحت فى نسق فلسفي  يجعل منها حجر الزاوية أو الإطار الجامع بينها وقضايا التراث والوعى والحرية والإصلاح. والذى نعنيه من ذلك السرد التاريخي هو التأكيد على أن الأصوات المنادية بتجديد الخطاب الديني وإعادة فتح باب الاجتهاد لمحاربة التعصب والعنف والإرهاب لم تفطن إلى : أن طرح قضية التجديد على أنها مشكلة جزئية بمعزل عن بنيتها النسقية لا يعدو أن يكون طرحًا هشًا لا طائل منه؛ فتجديد الخطاب الديني لا يمكن حصر آلياته فى تقويم المناهج الأزهرية أو محاربة الفرق الضالة ومكافحة التطرف ومعاقبة الإرهابيين أو القضاء على الفتنة الطائفية، بل يجب قبل ذلك كله إعادة بناء الطبقة الوسطى وهى المنوطة دون غيرها - كما ذكرنا - بتثقيف الرأى العام، وتحديد الثوابت والمتغيرات فى شتى الدروب المتصلة اتصالًا مباشرًا بالمجتمع؛ ويعنى ذلك أننا أمام معوقين:

أولهما : غيبة قادة الرأى وأمراء المنابر الذين لديهم القدرة على التأثير فى الرأى العام.

وثانيهما: تفكك الجمهور وانقسامه إلى جماعات وأحزاب وفرق هشّة لا يجمع بينها إلا التمرد وانعدام الثقة فى الآخر وضعف الانتماء والولاء وتفشى بينهم روح اليأس والقلق والارتياب فى كل ما يحيط بهم.

وعليه؛ لا سبيل أمامنا لاستحالة خطاب التجديد إلى مشروع إصلاحي إلا بإعادة بناء منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع؛ فقد تبين لنا أن قاعدتي التحدي والاستجابة لا يمكن الحديث عنهما وسط ذلك الانحطاط الخلقي السائد فى المجتمع العربى الإسلامي، فما جدوى الحديث عن الأصول الشرعية والقيم الحضارية التى يؤكدها المنقول والمعقول معًا، وما الفائدة من لغة الوعظ ـ وإن جاءت على ألسنة السلطة الحاكمة ـ فى مجتمع لم يدرك من صور التدين سوى العنف ولم يعِ من الأخلاق إلا التبجح والسفالة ومن المعارف والأخبار إلا الشك والارتياب.

وقد بينت فى غير موضع من كتاباتي، أن قضية التجديد ومراميها الإصلاحية لا يمكن طرحها والتغلب على معوقاتها وإيجاد السبل والآليات لجنى ثمارها بمنأى عن وعى الأنا، فالعلاج يجب أن يبدأ من الذات والقناعات الشخصية التى تسعى إلى إحياء الأمل فى العقول والصدور من جديد.

وللحديث بقية

 

بقلم : د. عصمت نصار

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم