صحيفة المثقف

الموسوعيون وعصر الانوار هم المُنتظرون

عبد الجبار العبيديالموسوعيون، هُم العلماء الذين انجزوا للاوربيين في عصر النهضة الأوربية فصل سلطات الدولة عن حقوق الناس.. وحرية العمل والفكر والقول.. وفصل الدين عن سياسة الدولة.. ونقل المبادىء الى تشريعات قانونية ملزمة.. وثبيت كل ما حققوه في مواد دستورية مكتوبة غير قابلة للتغيير.. الا عندما تتضارب مع مصلحة المواطنين..

بجهودهم المخلصة أوجدوا لهم مجتمعا أوربياً مغايراً تماما لما كان عليه قبل القرن التاسع عشر.. حتى نقلوه من مرحلة الظلام والتخلف الى مرحلة الحداثة والعصرنة.. او ما يسمى بعصر الانوارفي التاريخ..وهذا مالم تستطع الدولة العربية والاسلامية تحقيقه على مدى تاريخها الطويل من "1-656 للهجرة ".. هذه المنجزات هي التي مكنت الدولة الأوربية الحديثة من بناء المؤسسات القوية ونظريات الحقوق للأنسان الحديث.

واليوم سنواصل عرض الافكارالجديدة التي طرحها اصحابها المفكرون الموسوعيون وبقية فلاسفة عصر الانوار. .في عصر النهضة الاوربية الحديثة..

ان علماؤهم ومفكريهم هم الذين اخرجوهم الى شمس الحضارة الانسانية، وأبعدوهم عن الطريق المسدود الذي فرض عليهم من قبل مؤسسة الكنيسة، فبدأ تفكيرهم في شئون الكون على اساس من الفكر غير المقيد، والعقل المتعطش الى كل معرفة وعلم جديد على أساس من البحث العلمي والتجربة التي هي أصل كل كشف صحيح.. ورغم قلة العلماء في ذلك الوقت المتقدم، لكن بجهودهم توصلوا الى كل جديد.. فكان كوبر نيكوس وليوناردو دافنشي عالمَ حافلا بكل جديد..وعلى ضوء هذا العلم الجديد برع جان بودان" 1596 م " بنظريات التحسين الاجتماعي ومن بعده فرانسس بيكون "ت 1696 م" في العلم الطبيعي الذي وجه العيون والافكار الى علم جديد.، حتى حققوا التقدم عن طريق ثورة علمية فكرية حقيقية للتغيير..فبالحرية تحققت كل المفاهيم.. فلا يمكن ان تتقدم أمة وفكرها محجوز.

كان هؤلاء العمالقة قد فتحوا بابا جديدة لنهضة علمية فاقت حد التصورحين برز مونتسكيو في كتابه روح القوانين وفولتير الفرنسي "ت1778م" ونظرية المساواة بين المواطنين، وجون لوك "ت1704م" بأرائه بالأنسان وجان جاك روسو "ت1778"وأيمانه بالأنسان وحقوقه في نظرية العقد الاجتماعي.. وغيرهم كثير.. وبهذه الموسوعة العلمية تغيرت المفاهيم المتوارثة في أكثر من ميدان من ميادين المعرفة.. حتى اشتركوا في صنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان الأوربي قائمة على العقل والعلم والحرية.. فكان لهذا الفكر الجديد أثره في التغير الحضاري وله قدره واهميته.. والا من كان منا يصنع القمر الصناعي والتلفون النقال والانترنيت ومعجزات القرن العشرين.. لو بقوا يتعكزون على الكنيسة ورجل الدين.. مثلما نحن الآن اصبحنا شعوبا متخلفة لا تصلح الا لنظريات الفقه الجامد.. والبكاء على الاطلال كما كنا مثل السابقين..

بهذه التوجهات تحققت المنجزات الخمس انفة الذكر للاوربيين وتحققت فكرة ثبات التقدم الحضاري عندهم.. وبوقت قصير اخذ الناس يصرفون أبصارهم عن الماضي فهدموا البيت القديم، ويوجهونها نحو المستقبل الواعد القريب فتحققت فكرة التقدم عندهم باصرار المؤمنين بها، ولم تعد مقاومات الماضي تصدهم عن حاضر وليد.. حتى ساد الغرب الأوربي الدنيا كلها بالتكنولوجيا والعلم والفن الحديث.. من هنا أنطلقت النظريات للباحثين يستخرجون منها الاحكام وكل جديد من تجارب الامم وما اهتدت اليه عقولهم في الابتكار والاختراع والتجديد..والاكثر من هذا هو الامان الذي حظيوا به في حفظ حقوقهم وحياتهم وما يرغبون.

اما العلم الذي تحدثوا عنه كتابنا وفقهاونا في العصور الوسطى هو غير العلم الواسع الذي دعا اليه القرآن الكريم، حين دعا الى البحث والنظر والتأمل في الكون ودراسته ماديا ومعنوياً، "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، العنكبوت 20".. بينما العلم الذي تحدث عنه معظم الناس في العصور الماضية عندنا لا يخرج عن نطاق علوم الدين من قرآن وتفسير وحديث وفقه ولغة وما الى ذلك، ظناً منهم ان الانصراف لدراسة ما سوى ذلك، انما هو مضيعة للوقت وصرف الأنسان الى عبادة الله.هذه النظرة القصيرة للنظر في العلم العربي اوقفت وعتمت على نظرية القرأن الكريم وما ورد في نهج البلاغة من نظريات العدل والحقوق والمصلحة والحرية.. وما جاء في نص الرسالة العمرية في القضاء.وما كتبته المعتزلة واخوان الصفا وخلان الوفا وغيرهم كثير.

جوقه من الفقهاء المتخلفين جاؤا لنا بالفلسفة التأملية دون الفلسفة الواقعية، حتى أبقوا وجوهنا نحو الحائط كما خططوا لنا منذ عصر الأمويين والعباسيين.. واليوم يعودون في عصر ولاية الفقيه وكل تخريفات مؤسسة الدين..

لا احد ينكر ان جهود العلماء والمفكرين العرب والمسلمين الذين راودهم ما راود العلماء الاوربيين منذ مطلع الحركة الفكرية في العصر الأسلامي في فترة الازدهار والانفتاح الديني كما في ما جاء من نظريات نهج البلاغة في العدل والحرية... ، وفي الوثيقة العمرية في القضاء وحق القاضي في الحكم بما يراه الله في العدل بين الناس .ولا يقبل من العباد الا اذا كان مخصاً امينا للناس والأمة.لكن هذه القيم ظلت يتيمة التطبيق ولم تحظى الا بالنزر القليل، من أهتمام ساستنا بالعلم والعلماء والمتعلمين خلا عصر المعتزلة القصيرالذي لو تحققت أفكارهم في العدل والأمانة وحرية الارادة الانسانية واستخدام المنطق العقلي في الحكم بين الناس، والشرعية المثبتة وليست المخبرة، ولهم مسائل مهمة في القضاء والقدر.. وعزوا سبب الاختلاف بين المسلمين الى تباين الادلة العقلية.. لذا يجب ان يكون الانسان حرا في اختيار الفعل والمعتقد مع التحذير من المعصية.. ولو طبقت نظريات المعتزلة لكنا اليوم مع المتقدمين .

وفي عصر المآمون وبيت الحكمة البغدادي وعصر الترجمة، تنبهوا للعلم والعلماء ما تنبه اليه الاوربيون..لكن منذ عصر المتوكل (ت232 للهجرة) وظهور نظريات التردد بين خصال القوة والضعف بما يكفل عدم أثارة المشاكل السياسية حتى أخفيت وغيبت الحقائق فوضعونا في حالة حصار حقيقية ومتواصلة ضد اية بارقة امل للتقدم والفكاك من شبكة مؤسسة الدين، بينما ظل الغرب يتصدوا لماضيه وحاضره بالدراسة والنقد حين طرح نظرية ان "النقد اساس كل تقدم وخاصة نقد الدين" .فكان البون بيننا وبينهم شاسعاً حين ظلوا يتقدمون ونحن في تاخر مستمر.. والى اليوم بسبب فقهاء الدين وتجسيد نظريات الحلال والحرام الوهمية.. في وقت أطلق القرآن الأحكام والنواهي عن المحرمات في الدين.. بينما كانوا هم وعلماؤهم مرتبطون بخيط اساس في عالم يحكمه العقل والحكمة والشعور بمسئولية الوطن والشعب.بعد ان تساوى الجميع امام القانون الذي ضمن حقوقهم المستقبلية في السياسة والفكر والدين يحترمون العلماء والمفكرين.. لا ليقتلونهم بحجج واهية كما نحن اليوم.. ، فلم يعد الواحد مميزا عن الاخر وتحت اي ظرف، فبدأت مؤسساتهم الدستورية تمثل ممثليها بصدق وامانة، لا بتمييز وانحياز، فلا احتكار في وظيفة.. ولا قرابة اوصداقة في هدف.، وهذا الذي نحن فقدناه فوقعنا في خطأ التقدير.

أعتقد الأوربيون ان العلم لهم وللاخرين والمنفعة لهم وللاخرين حتى نجحوا وحققوا ما ارادوا. اما نحن حسبناها زقأ وقينة لنا دون الاخرين. لذا فالعلم عندهم بعد ان تحول الى مهارة اصبح منفعة مادية ومعنوية لتحقيق مساواة مطلقة بين المواطنين . وبالتالي فأن التقدم المادي أنسحب على التقدم المعنوي رغم ان البون الشاسع بينهما ظل ملازما لحياة المجتمعات الاوربية وغيرها على السواء لملازمة الآنا البغيضة في نفوسهم لفترة طويلة من أرث تاريخي قديم.

ورغم ما صاحب النهضة الاوربية من أخطاءٍ جسام وخاصة في معاملة الشعوب المستولى عليها بعد الحركة الاستعمارية في بداية القرن التاسع عشر، لكن التقدم المادي صاحبه تقدم معنوي في المجتمعات الاوربية نتيجة الثقافة التي ازدهرت والرفاهية التي عمت، فسادت المساواة عند الجميع تلقائياً واصبحت قانوناً حين نُقلت (المبادىء الى تشريعات) فكانت خطوة هامة نحو البناء والتقدم وأطاعة الدساتير طواعية .لكن الملاحظ كان للنبلاء والاغنياء وجهة نظرهم الخاصة في المساواة رغم ان قواعد النبل والشرف ظلت تلازمهم فكانت متناقضة احيانا مع الشعوب المفتوحة حتى ولو كانت نسبية، لذا من يقرأ مؤلفات فولتير في كتابه المعروف "عصر لويس الرابع عشر " ومقالة الاخلاق وموضوع الحكم الصالح ونظرية المصلحة العامة يدرك ان فكراً موسوعيا كان وراء فكر فولتير.. بينما بقي الفكر الديني الاسلامي جامداً متحجرا يؤمن بالفوقية وأحكام أولو الامر التي فسرت خطئا من فقهاء الدين لصالح السلطة لا الناس.. والتي لا تؤمن بمساواة الشعوب من نظرة دينية متخلفة، وبعد ان اصبح النص الديني المنغلق لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.حتى أنحدرنا الى ما نحن فيه اليوم من تخلف فضيع..

واليوم بعد ان صدقنا خطئاً تحرر العراق من ربق الدكتاتورية الغاشمة وقعنا في مازق النظرية الدينية والطائفية البغيضة والمحاصصية الباطلة القاتلة، التي أدخلتنا في مرحلة أقسى وأمر من الاحتلال نفسه حين حملت كراهية الماضي السحيق.. وعدم الشعور بالمسئولية الوطنية.. فالاجدر بالحكام ان يسلكوا سلوكهم العادل في معاملة شعوبهم وان يدركوا ان الزمن قد تغير لصالح حرية الانسان.. وان المال والمنصب ما هما الا وسيلة لخدمة ورفاهية الشعوب وتقدمها كما عند الأوربيين، لا وسيلة لمظهرية الحاكم وحاشيته ورفاهيته دون الناس المحكومين.

نأمل ان تتحول الصور الاستغلالية والاستعلائية عند البعض من قصيري النظر والثقافة ممن ملكوا المنصب والمال الحرام دون حق او كفاءة مستحقة لهم، الى صور حديثة تتناقض مع الدكتاتورية والظلم الاجتماعي، حتى يبقى الحاكم خادماً للشعب لا الشعب وجلاً من الحاكم الذي لا يعيش بينهم منعز خائفا من الشعب، فأن عهد الطغاة قد ولى الى غير رجعة حتى يصبح المواطن من حقه مسائلة الحاكم ان أخطأ واساء ويبقى ذلك مقررا في نفسه وفكره وسلوكه، والا لماذا جاء التغير لنبدل (س بص)، ساعتها سنُكون مجتمعاً ديمقراطيا بحق وحقيقة، وبصدق وآمانة.. لا ان نخاف مسائلة الحاكم القاتل للعلماء والمفكرين والسارق لاموال الناس والمتأمر مع الاعداء على الوطن..كما هم من جاؤا يحكمون ويسرقون ويخربون الوطن اليوم.. لكن يبدو ان هذا في وطننا اصبح اشبه بالمستحيل.. مالم يتم التغيير.

من واجبنا ان نقول لكم : يا ولاة أمور الناس.. أبعدوا عن فقهاء الدين والمذاهب الذين وضعوا انفسهم في خدمة السلطان، بنظريات ميتة تضر ولا تنفع، تفرق ولا توحد، تهدم ولاتبني.. وليس لها من اصل في التشريع.. وتوخوا تحقيق المصالح والمكاسب لكل الناس.. خوفا على الدولة ومصير المواطنين ومستقبلهم من التشتت والتمزق.. ولا تضعوا لأنفسكم نظريات تبريرية لكل خطأ يمارس اليوم حتى اصبحتم حكاما ظلمة وفق التنظير الجديد.. أنعدامكم افضل من وجودكم في ادارة سلطة الناس.. حالة شاذة ما شهدها العراق الجديد.. الا في عهدكم الباطل الظالم وعهد هولاكوا البائد القديم .

نقول لكم غيروا المسار واحترموا شعبكم.. وهذه مدينتكم بغداد أياكم وان تستبدلوا بها غيرها فلا تنظروا الى خلف الحدود.. وأياكم والأثرة.. وأياكم والدم الحرام، فأنه حوب عند الله عظيم.. فلا تساهموا في قتل العلماء والمفكرين فهم زاد الدنيا.. وكما قال الامام جعفر بن محمد الصادق(ع) ان موت عالم أحب الى أبليس من موت سبعين عابداً.. ولاتسعون في الأرض فسادا.. ان الله لا يحب المفسدين.. أحكموا بالعدل ولا تشططوا.. ولا تنقضوا الحلف واليمين الذي تضمن الوصايا العشر حدية الالتزام في التطبيق.. ولا تبذروا أموال الرعية بالخيانة والتزوير.. فالدنيا غير مأمونة.. فلا تزالون اعزاء ما دامت بيوت مالكم عامرة.. حتى لا تلجئوا لمذلة الاخرين.. فليس فخرا ان تكونوا أغنياء وشعبكم محتاج.. مثلما قال رسول الله (ص) :"على الحاكم ان لاينام ليلته وفي بلده معوزٍ واحد.." فلا تُفرغوا العقيدة من محتواها.. فأنه حوب عند الله عظيم.. وكونوامع العاملين الصادقين.. والا ستكونون في الخسران المبين.. وان ملكتم الدولة والسلطة والمال معاً.. كما أنتم اليوم في مذلة الشعب المقتول والمسروق منكم بلا حق مبين.

نعم..نريد التغيير في وطننا اليوم.. حركة تاريخية ترتفع الى مستوى الأحكام كما ذكرت في كتب السماء والصالحين كي نُسير في ضوئها عناصر الموروث من الحضارة والدين.. لتنتهي الدولة الى النظرة الواقعية للأمور دون تراكم زمني يحول بينها وبين الناس لتنتهي عند العامة صادقة لا لبس فيها ولا تضليل.. ليكون الحاضر والمستقبل عناصر ربط تقدمي نجعل منه أداة صلة تتحرك دائما ًنحو التجديد والأبداع.. وحقوق كل الناس دون تفريق.. أما اذا بقيتم تهرولون وراء الحاقد من خلف الحدود فلن يكون لكم الا الضياع والتدمير.. فحذاري الاعتداء والخيانة والفساد والتزوير.. وكلها مرفوضة من الله بأيات حدية لا تقبل التغيير..

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم