صحيفة المثقف

الإرهاب وتلوث الهُويّة المصريّة (1)

عصمت نصاريؤكد الأنثروبولوجيون والاجتماعيون وعلماء الأجناس وفلاسفة الحضارة أن البيئة والثقافة السائدة فى مجتمع ما من أهم المؤثرات التى تشكل بنية هوية الأفراد والعقل الجمعى والروح الكلية عبر العصور. أما ثوابت تلك الهوية ومتغيراتها؛ فالمسئول عنها هم قادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد التنوير، فهم دون غيرهم المعنيون بتحديد مشخصات تلك الهوية تبعًا لتصوراتهم وأفكارهم ومعتقداتهم. وإذا ما فسدت هذه العصبة ـ التى نطلق عليها جماعة النخبة أو الطبقة الوسطى.

وعليه؛ فمن الخطأ الاعتقاد بأن هُويّة الأفراد أو (الذات، الأنا) (Identity) تنفصل عن البنية الثقافية التى نبتت فيها واصطبغت بصبغتها وأضحت موروثًا أصيلًا يميزها عن غيرها، فحديث قدماء الفلاسفة حتى القرن السابع عشر عن استقلال النفس من حيث الطباع والعقل والقيم الأخلاقية عن الثقافة السائدة فى مجتمع ما، أضحى من النظريات المشكوك فى صحتها؛ فقد جاء الفيلسوف الاسكتلندى «هيوم» (١٧١١-١٧٧٦م)؛ ليؤكد أن هوية الأفراد والجماعات ليست فطرية بل هى مكتسبة من الثقافة السائدة فى مجتمع وعصر ما ثم تتوارثها الأجيال بالممارسة والمعايشة أى أن الهويّة تتكون من حصاد الخبرات المتراكمة (نظرية الحزمة).

وإلى مثل ذلك ذهب الفيلسوف الفرنسى «إيميل دوركايم» (١٨٥٨-١٩١٧م) مبينًا أن هوية الأفراد ما هى إلا وليدة المجتمع وليس العكس، وقد نقض بذلك تصور الليبراليين الذين نزعوا إلى أن ثقافة المجتمع لا تخرج عن كونها عقدًا اجتماعيًا أبرمه الأفراد فيما بينهم على تحديد ثوابت ومتغيرات الروح الجمعية أو الرأى العام.

وبين هذا الرأى وذاك يقدم الفيلسوف الأمريكي «جورج هربرت ميد» (١٨٦٣-١٩٣١م)  تصورًا وسطًا، إذ يفرق بين الأنا أو الذات الفاعلة والشخص باعتباره فردًا منفعلًا للثقافة والمجتمع الذى يعيش فيه، وعليه تصبح الهوية مجموع انتماءات الأنا النفسية والشعورية وقناعاتها من جهة، ومدى إيمانها وولائها وانضوائها تحت عباءة العقل الجمعى بما فيه من قيم وعقائد ومعارف من جهة أخرى.

وتمضى الدراسات المعاصرة فى هذا السبيل، فها هو عالم الاجتماع الكندي ارفنج جوفمان (١٩٢٢-١٩٨٢م) يوضح أن وعى الأنا بمشخصاتها هو الضامن لبقاء الهوية دون تغير (إيجابًا أو سلبًا)، فإذا ما جمد الوعى أضحت الثقافة السائدة رجعية ومتخلفة، أما فى حالة تجديده بفعل العقول المبدعة والمنفتحة على الأغيار لاكتساب النافع والصالح لثوابت المشخصات؛ فإن مثل ذلك الفعل يحمى الهوية من خطر التلوث والجموح والجنوح والفساد.

ويرى عالم النفس الألماني «اريك اريكسون» (١٩٠٢-١٩٩٤م) أن أزمة الهوية تولد من ذلك الصراع النفسي بين الإلزام والالتزام أو الانتماء والانضواء أو قناعات الأنا وقيود المجتمع وضوابطه، ومن ثم فإن إحساس الفرد بالاغتراب وسط أهله وعشيرته وجيرانه ومواطنيه وبنى جلدته يدفعه إلى التمرد على هويته ومشخصاتها واعتناق هوية أخرى وثقافة مغايرة.

ويضيف الفيلسوف الجزائري الفرنسى «ألتوسير» (١٩١٨-١٩٩٠م) أن الأيديولوجيات هى التى تدفع الهوية للانتماء أو الاغتراب، وذلك تبعًا للقدر الذى يشعر فى ظلها الفرد بوجوده من عدمه، وذلك لأن الجوامع والكنائس والمؤسسات الثقافية والإعلامية هى التى تفرض تلك الأيديولوجيات؛ لتسبغ بها هوية الأفراد فى جُل المجتمعات.

بينما يعول الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو (١٩٢٦-١٩٨٤م) على أن علة ظهور الخطابات الجانحة أو المتطرفة لا ترد إلى الإحساس بالاغتراب تجاه الثقافة السائدة فحسب، بل ترد للميول الذاتية والخصال الشخصية أيضًا، ومن ثم يحاول الجانحون الرافضون للعقل الجمعى الثورة على ما فيه من قيم، اعتقادًا منهم بأنهم أصحاب ثورات للتصحيح والتغيير منطلقة من وعيهم بحقائق قد غابت عن ذلك العقل الجمعى أو الثقافة السائدة. ومن ثمّ تصبح خطابات الشواذ جنسيًا والمجترئين عقديًا والجانحين أخلاقيًا والإرهابيين سلوكيًا والمتعصبين فكريًا من أشكال تلوث الهوية، وذلك بغض النظر عن مصدر ذلك التلوث داخليًا كان أو خارجيًا.

وإذا ما انتقلنا من ذلك التنظير الفلسفى إلى مناقشة واقعنا المعيش، سوف نجد الهوية المصرية قد تميزت عن غيرها بطبائع نفسية وخصال أخلاقية ومنازع سلوكية وأحاسيس ذوقية ومشاعر وجدانية وقناعات عقدية وعوائد اجتماعية لم تتعرض للعطب أو الفساد إلا بفعل مؤثرات خارجية (الغزو، القهر، الاضمحلال الثقافي، فساد المؤسسات الحاكمة، غيبة البطل أو الطبقة الوسطى المسئولة عن تربية الرأى العام)، أى أن الشخصية المصرية لم تتمرد من الداخل على طبيعتها أو ثوابتها التليدة (الخيرية، الانتماء إلى الأرض والولاء للجماعة، المسالمة، الشجاعة، الألفة، الاستقرار، البناء، المرونة، التفاؤل والأمل فى غدٍ أفضل، الضحك والسخرية من الواقع، الحياء، الجرأة، العفة، الإخلاص، القدرة على تحويل الإلزام إلى التزام وتحويل الأزمات إلى عزائم تبدل المحن والعثرات إلى انتصارات، تقديم الصبر على الثورة والتمرد، تقديس الحاكم واحترام القادة باعتبارهم عين الحقيقة وصوت القدر، الإيمان بفلسفة الممكن والتحايل على المستحيل).

نعم تلك كانت مشخصات الهوية المصرية والسمات التى مكنتها من الصمود أمام كل العواصف التى حاولت تبديدها أو محوها، ومن ثم سوف يدور حديثنا عن الأسباب الطارئة التى لوثت الثقافة المصرية السائدة وأصابت هوية المصريين بأمراض وأدران لم تعهدها لأنها مناقضة لطبيعتها.

ولعل أشهر الأدبيات التى تعرضت لهذه المسألة فى العصر الحديث كتاب «شخصية مصر» لـ (جمال حمدان)، وكتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» لـ (ميلاد حنا)، وكلاهما أكد أن مشخصات الهوية المصرية لن تموت وأن ثقافتها التليدة لن تُمحى أو تندثر بل تصاب بالضعف وتمرض شأن سائر الثقافات والحضارات ولكنها أقدر من غيرها على النهوض، ثابتة، شامخة البنيان، منتصرة على كل أعدائها، مرفوعة الرأس أقوى من الزمن، متحدية الهرم.

أجل أعتقد أن انسحاق الطبقة الوسطى - بكل ما تحمله من عقلانية، ومبادئ أخلاقية، ورؤى إبداعية، وغيرة على الصالح والعام، ووسطية فى العقيدة، ووعى بطبائع الجمهور، وقدرة على التواصل مع العامة، وقوة لتقويم كل قلاع الجور والاستبداد، وشحذ الهمم للبناء، وتنقية الأجواء الثقافية من ملوثاتها، وردع الجانحين، وإنصاف أحرار الفكر، ورعاية المعوذين، وتحقيق أكبر قسط من العدالة وأعظم قدر من محاربة الفساد - هى العلة الرئيسية لما نحن فيه من انحطاط وضعف واجتراء وفوضى وعنف وإرهاب، ذلك فضلا عن تلك المؤامرات التى تُدبر من قبل الأغيار للإيقاع بمصر وطمس هويتها وتزييف عقيدتها، أجل تلك المؤامرات التى لا ينكرها إلا مكابر أو معاند أو مغيَب.

وعن الأثر السلبى لانسحاق أو غيبة المصلحين أو طبقة النخبة على تردى وانحطاط الثقافات، يحدثنا الفيلسوف والمؤرخ الفرنسى جوستاف لوبون، (١٨٤١-١٩٣١م) مبينا أن الرقى يتم فى الأمم على يد نفر قليل من أهل العقول السامية فى العلم والسياسة والأدب والدين والفن، وهم بلا أدنى شك جماعة الصفوة وهم المسئول الأول عن سلامة بنية عقول الأمم ووجدانها وهم الضامن لبقاء السلم الاجتماعي بين الطبقات والحب والألفة بين الأفراد. وقد أكد فى غير موضع من كتابه «سر تطور الأمم» على أن فساد هذه الطبقة أو غيبتها يؤذن ببوار الثقافة وانهيار المجتمع. وقد أكد أدموند يمولان، (١٨٥٢-١٩٠٧م) على ذلك فى كتابه «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» وذلك باعتبار أن طبقة النخبة هى المسئول عن رسم الخطط لبناء الأفراد والجماعات (البرامج التربوية، المدارس، الجامعات، الأحزاب، سن القوانين، الرقابة على الآداب والفنون والصحف).

ويضيف فيلسوف الحضارة الإنجليزي أرنولد توينبي، (١٨٨٩-١٩٧٥م) فى نظريته التحدي والاستجابة، أن جنوح العقيدة والتعصب الملي وغيبة المجتهدين المجددين يؤدى حتمًا إلى صعوبة ظهور الطبقة الوسطى المستنيرة أو قادة الرأى، وذلك لأن تكوينها مرهون بتوفر العديد من العوامل أهمها (احترام العلم، حماية الحريات، الاستقرار الاجتماعي والأخلاقي). ويعنى ذلك فى - رأى توينبي- أن سلامة العقيدة والدين السائد من أهم الآليات التى تمكن المصلحين من الزود عن الثقافة وتنقيتها من الملوثات الخارجية، أما إذا أُصيب الدين بتلك الملوثات فلا سبيل لإصلاح المجتمع إلا بالعود إلى سذاجة هذا الدين ونقاءه وصلاحه الذى مكنه من الذود بالثقافة أو الحضارة إلى طريق التقدم والتمدن. ويعنى ذلك أن وظيفة الطبقة الوسطى المستنيرة أو إن شئت قل صفوة المجتمع هى تحدى ومحاربة كل المعوقات والأسباب التى تحول بين مشروعاتهم الإصلاحية وعلى رأسها تجديد الخطاب الدينى من جهة، والقدرة على التواصل مع العوام والرأي العام التابع والقائد معًا وتجييشه لخدمة المشروع الحضارى حتى يستجيب للنهضة العلمية من جهة أخرى، كما يؤكد توينبى أن الحضارات لا تندثر بسبب الغزو الخارجي، بل لضعف وعطب وفساد يصيب بنيتها من الداخل.

وعليه؛ فتبدد الثقافات وموتها لا يمكن التآمر عليه من الخارج بل يقوم به عصبة المفسدين وجماعات العنف من الداخل، متقنعين بلباس الفضيلة والورع ومرتدين ثوب علماء الدين ورجاله.

والجدير بالإشارة فى هذا السياق أن معظم فقهاء الإسلام والمعنيين من العلماء والفلاسفة بدراسة المجتمع والسياسة الشرعية قد صرحوا بأن فساد المعتقد الدينى لا يحدث إلا فى غيبة أهل الحل والعقد والمجددين من المجتهدين، وأن فساد المجتمع وانحدار الثقافة الإسلامية سوف يصبح فى غيبتهم من الأمور التى لا يستبعد وقوعها، فتسود الفوضى والعنف، ويبدد الأمن والسلام، الأمر الذى دفعهم جميعا إلى إيكال أمر المسلمين إلى أهل الشوكة أى الجيش وهو القادر على قمع المفسدين فى الداخل وصد المتآمرين من الخارج.

وإذا ما تأنينا في تحليل ما سبق سوف نهتدي إلى عبقرية الشيخ "حسن العطار" (1766-1835م) وتلميذه "رفاعة الطهطاوي" (1801-1873م) ثم الأستاذ الإمام "محمد عبده" (1849-1905م) ومدرسته وتلاميذه، أولئك الذين حافظوا على الهوية المصرية وجددوا مشخصاتها وأزالوا التلوث والعطب الذي أصاب متغيراتها بسبب الجمود والجهل والفقر والاستبداد والغزو الخارجي، وبدأوا برد الدين إلى سذاجته الأولى؛ وذلك لإبراز وسطية العقيدة وصلاحية الأصول الشرعية للتجديد والاجتهاد دومًا، ورغبوا عن كل مواطن الجمود والتشدد والتعصب والجموح والعنف في تطبيق قاعدة الإصلاح (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وتسامحوا مع الجاهلين والمندفعين والمتشيعين للغرب بل والملحدين أيضا، وجادلوهم بالتي هي أحسن أي الحجة والبرهان. ذلك فضلا عن وعيهم بطبائع الناس وعوائدهم المولدة من الموروث والتقاليد الاجتماعية العتيقة: فغربلوها برفق ونقوها من الخرافة والشعوذة والتمسوا فيها قوة الحس الديني لدى الجمهور فأبقوا على التصوف العملي وما فيه من حب وعشق لله وتقرب من أهل البيت، وحاسة خلقية تنقي السرائر وتقوم السلوك وتوحد بين الإلزام والالتزام، وخلصوه من كل مظاهر البدع والجهالة والدجل، - ولا نكاد نجد أحداً من شيوخ الأزهر إلا وفي نهاية اسمه لقب يعبر عن الطريقة الصوفية التي ينتمي إليها (الوفائية أو الخلوتية)-، كما رغبوا عن الجامدين والمتعصبين والمتشددين في الدين؛ فقد حال الأزهر بفهمه الصحيح للمقاصد الشرعية وفقه المألات وعقيدته الأشعرية - التي لا ترى أي غضاضة أو كراهة في جمعها بين التوحيد والتصوف - بين الثقافة المصرية وانتشار الدعوة الوهابية، بل قام بنقدها وتبيان ما فيها من تعصب وتنطع في الدين.

وكذا حارب الأزهريون المستنيرون كل الاتجاهات الهدامة والجانحة عن الأصول الشرعية مثل البابية والبهائية والماسونية والمهدية وغلاة الشيعة الباطنية والجمعيات التغريبية والإلحادية، وقد اتخذوا من المنقول والمعقول أسلحتهم للزود عن هوية مصر الوسطية، وانتصروا كذلك لحق اليهود والمسيحيين في المواطنة الكاملة مادام حب مصر هو ديدنهم والعمل من أجل صلاحها هو واجبهم المقدس. أضف إلى ذلك كله؛ إنصافهم للمرأة وتأكيدهم على أن دورها في المجتمع لا ينبغي حصره في إمتاع الرجل وإنجاب الأولاد بل إن تعليمها وتثقيفها وتحطيم أسوار العزلة التي حجبتها عن العمل ما هو إلا حق كفله الشرع لها ولا يحرمها منه عادات وتقاليد بائدة، وبينوا أن عفاف المرأة والتزامها الخلقي لن يتحقق بارتداء البرقع أو النقاب؛ فالتحشم في المظهر لا يغني أبدًا عن سلامة الجوهر والمخبر وأن في العزلة مذلة وأن علاج الاختلاط في معترك الحياة هو الحياء والانضباط.

وقد عكفت هذه الصفوة على تقويم صحافة الرأي وتهذيب صحافة الخبر وترشيد الآداب والفنون واتخاذ منها آليات لتربية الرأي العام وتوعيته وحثه على النهوض والعمل واكتساب الخبرات من الأغيار.

ولا غرو في أن غيبة أمراء المنابر من المصلحين والمجتهدين - ولاسيما بعد وفاة الإمام محمد عبده - قد فتح الباب على مصراعيه للمتعالمين، وأفسح الطريق لظهور بعض الجماعات التي اتخذت من الدعوى وإصلاح المجتمع ستارًا ورداءً، وذلك بعون من اتجاهين متضادين لا تنسيق بينهما في الظاهر، أولهما الشيخ محمد رشيد رضا، الذي جلس على كرسي التجديد والزود عن صحيح الدين خلفًا لأستاذه الإمام محمد عبده - غير أنه مال إلى اعتناق الفكر الوهابي وراح يروّج له على صفحات المنار ليسد عوذه والإنفاق على مجلته -، ومحب الدين الخطيب الذي رفع شعار السير على سنة السلف سبيلا لتقويم الفوضى الأخلاقية - مؤسسًا أولى خلايا الجمعيات السلفية - وكانت هذه الخطوة الأعراض الأولى لتلوث الخطاب الديني المصري؛ وثانيهما دوائر الاستشراق السياسي ونفر من رجالات المخابرات الإنجليزية والأمريكية الذين دأبوا على وضع الخطط لتزييف الهوية المصرية وإضعافها (إضعاف شيوخ الأزهر وإهمال الكتاتيب والمعاهد الدينية من جهة، ومد يد العون والدعم الكامل للجمعيات الأهلية التي تلعب في الشارع السياسي في الظاهر، وتكيد للإسلام في الباطن بترويجها لثقافة الإلحاد والعلمانية والفلسفات الوضعية والنظريات العلمية ونشر العقيدة الكاثوليكية والبروتستانتية لإضعاف الكنيسة الأرثوذكسية - تلك التي لم يفلحوا في تحريضها على المسلمين، وتشجيع الشباب على تقليد الغرب وانتحال عوائده عوضًا عن لغته الفصحى وآدابه وتقاليده التليدة من جهة أخرى). وقد لعبت هذه الإجراءات الدور الرئيس في تشتت ولاءات قادة الرأي وانصراف عدد غير قليل منهم عن الرسالة الحقيقية، أعني الحفاظ على الهوية المصرية ومشخصاتها.

وقد سجلت صحافة الرأي في الربع الأول من القرن العشرين - ولاسيما عقب ظهور الصحف الحزبية - عشرات المساجلات بين المثقفين، حول ثوابت الثقافة المصرية وثوابتها المستمدة من موروثاتها الحضرية وعقائدها الدينية وكيفية تجديدها، وتحديث متغيراتها عن طريق استيعابها للفكر الوافد من الأغيار، وقد تعرضت بطبيعة الحال لقضية الهوية المصرية (ولاية عثمانية إحدى دول الرابطة الإسلامية، أم وحدة اللسان العربي). وقد رفع معظم الليبراليين شعار "مصر للمصريين" باعتباره حجر الأساس للهوية المصرية، وتأثر به شبيبة المثقفين في المدن ونقلوه للشارع والمقاهي في القاهرة والإسكندرية وطنطا ومدن القناة، وعدد غير قليل من طلبة الأزهر الذين نقلوا بدورهم جانبا من المساجلات حول هذه القضية إلى الريف الذي كان يأن من استبداد الباشوات الأتراك والبكوات الخواجات أصحاب الأبعديات.

وفى الفترة بين الحربين العالميتين نشطت صحافة الرأى وتطرَّقت إلى قضية الحجاب والسفور وعمل المرأة وحرية الاعتقاد والعوائد الشرقية والغربية والاستقلال والنظم البرلمانية والدستورية والولاء والانتماء للوطنية والقومية. وعلى الرغم من ذلك الثراء الثقافي فى المدن بين المتعلمين لم تتعرض قضية الهوية للملوثات الثقافية فى أول الأمر؛ وذلك بفضل وعى تلاميذ الإمام محمد عبده سواء فى الأحزاب والدوائر الثقافية العامة أو بين أروقة الأزهر ومعاهده وكتاتيبه.

أمّا الريف والصعيد؛ فقد حافظ على هويته العقدية والجانب الأكبر من العادات والتقاليد والأخلاق الموروثة أى لم يصبها العطب أو التلوث، وذلك بفضل وجود الكتاتيب والكنائس الأرثوذكسية الحاملة للهوية المصرية، وعزلة الجمهور عما يدور من معارك صحفية أو حزبية أو أيديولوجية حول قضايا الثقافة المصرية.

أمّا الخطاب الديني الأشعري والتسامح العقدي مع الأغيار والأخلاق العامة، فقد أصابه بعض العطب بتأثير من عدة عوامل خارجية : أهمها تسلل الفكر الوهابي بين المعممين والمطربشين (طلبة دار العلوم) على حد سواء، فقد حمله الطلاب الوافدون إلى الأزهر من الحجاز، وكذا كتابات محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ـ كما ذكرنا ـ ذلك فضلا عن خطابات عبدالعزيز جاويش السياسية وتكوينه العديد من الجماعات السرية المسلحة باسم الجهاد، وافتعال الخلافات بين المسلمين والأقباط واتهام الليبراليين بالكفر والمروق ولاسيما بعد موقفهم من الحرب الإيطالية التركية، والتهكم على طرق الصوفية من قبل العلمانيين وتكفيرهم من قبل الوهابيين والسلفيين المحدثين، وتحول الدعوة (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) إلى سياق متحرر من ضوابطه الشرعية بجانب الحديث عن جهاد (الحسبة) والتطوع للنهى عن المنكر باليد. وخفت صوت الأزهريين المعنيين بتوضيح مقاصد الخطاب العقدي والسياسة الشرعية ولاسيما عقب ظهور الدستور العثماني العلماني ١٩٠٨م ثم إلغاء نظام الخلافة ١٩٢٢م ومهاجمة كمال أتاتورك للدولة الدينية، وانتشار الجمعيات الدينية مثل: (أنصار السنة المحمدية) ١٩٢٦م، و(الشبان المسلمين) ١٩٢٧، ثم جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا ١٩٢٨م.

ولعل كتابات الشيخ مصطفى صبري ضد غلاة المستشرقين والمتأثرين بهم من المثقفين المصريين ساهمت فى ذيوع اتهام المخالفين بالمروق والزندقة والكفر. وهو أيضًا من ملوثات الهوية فلم يعتد المصريون تكفير بعضهم البعض أو اتهام بعضهم بالخيانة. وقد حرضت مؤلفات مصطفى صبري على السفور والحجاب ومشروعية تعدد الزوجات وقصر عمل المرأة على تربية الأولاد فى المنزل وعدم مخالطتها الرجال فى شتى الميادين، الكثير من شبيبة السلفيين وجمعية الشبان المسلمين على نقض خطاب قاسم أمين ودعوة لطفى السيد لتعليمها فى الجامعة وكذا الحركة النسائية المصرية، وخروج الفتيات فى المظاهرات، وكذا إنشاء الجمعيات والأحزاب النسائية.

وقد حالت كتابات السلفيين والجامدين من شيوخ الأزهر بين المرأة المصرية وحقها فى المشاركة فى العمل السياسي حتى عام ١٩٥٦م.

وحسبنا أن نشير إلى أن هذه التحولات الثقافية قد ساعدت على وجود تيار ديني مغاير فى وجهته الإصلاحية لتلاميذ محمد عبده من الأزهريين، الأمر الذى أثر بالسلب على الثقافة المصرية، فالتشدد فى العقيدة يعد إحدى إرهاصات التطرف ثم التعصب ثم العنف والإرهاب.

أمّا تيار الإخوان المسلمين؛ فكان دوره الأخطر ولاسيما فى قوة تأثيره على العوام فى الريف وبين الطبقات الدنيا فى المدن، وذلك لأنه المسئول الأول عن غرس الشيفونية الدينية فى المجتمع المصري، فقد أعلى حسن البنا من شأن جماعته على دونها بحجة أنها الفرقة الناجية. وقد جمع فى تعاليمه بين العديد من التيارات والمذاهب والمعتقدات (الجمعيات السرية والماسونية وذلك فى الهيكل التنظيمي وسبل الاتصال، ومعتقد ولاية الفقيه المتمثل فى المرشد الذى لا ينبغى رد تعاليمه أو مناقشته، وفهم الخوارج لقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واتهام المسلمين بالكفر وقتالهم ولاسيما عند سيد قطب الذى انتحل آراء أبى الأعلى المودودي). وحسبنا أن نتذكر حديث أرنولد توينبى عن فساد الثقافات الذى ربطه بتلوث معتقد النخبة المسئولة عن سلامة الخطاب الديني فى المجتمع. فإذا ما حاولنا إدراك الملوثات التى حاقت بالخطاب الديني على يد الإخوان؛ فإننا يمكننا إيجازها فيما يلي :

 

بقلم": د. عصمت نصار

......................

(1) تحول فقه الأولويات والمآلات إلى وسائل عملية لغايات نفعية مؤقتة تتحول وتتبدل كلما احتاج الأمر تبعا لرغبة المرشد أو إمام الجماعة.

(2) إعادة ترتيب ثوابت الهوية الدينية انطلاقًا من شعارات كاذبة ومظاهر خادعة وأقوال مدسوسة وأكاذيب مؤلفة لا تستند على أصول شرعية مقطوع بصحتها.

(3) استحالة اجتهاد أهل الحل والعقد إلى الهامات إلهية تهبط على المرشد العام ومن ثم فهى واجبة الطاعة، والخروج عنها مروق يستوجب العقاب.

(4) حصر الرسالة الإصلاحية والمشروع النهضوي فى تعاليم تهدف إلى تهذيب السلوك والعادات والخدمات الاجتماعية والصحيّة للفقراء وصبغ التعليم بالمسحة الدينية والمبادئ الإخوانية التى تربى النشء على إرشادات الجماعة وتجعل من المرشد أصل كل تحلية وتخلية.

(5) الحط من الحس الوطني واعتبار مصر ولاية إسلامية، وجزءً من خلافة عامة لم تتأسس بعد يكون على رأسها المرشد الأكبر أستاذ العالم.

(6) نشر سياسة التمكين وذلك للاستيلاء على مقاليد الأمور فى الدولة وذلك لإصلاح ما فسد وتقويم المعوج بأيد الجماعة باعتبارهم المنوطين بذلك العمل.

(وللحديث بقيَّة)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم