صحيفة المثقف

ملاحظات نقدية على ترجمة الصلهبي للهايكو الیابانی

توفيق النصاريالهايكو شعر يابانيّ عريق ضاربٌ جذوره في عمق التاريخ الحضاري لليابان. يتكوَّن الهايكو من ثلاثة أسطر تشكِّل في مجموعها سبعةَ عشرَ مقطعًا صوتيًا، خمسة مقاطع للسطر الأول وسبعة للثاني وخمسة للثالث. يميل الهايكو إلى الاختصار والاختزال ويبتعد عن الحشو والزوائد ولا يقوم على التخيّل الذهني بل على التيقّظ وتركيز الذِّهن في الحياة لاكتشاف حدثٍ جديد ولإلتقاط صورة واضحة وجلية لايلاحظها الناس لشدة بديهيتها. وأهم ميزات الهايكو هي: المشهدية والتكثيف وبساطة اللغة، والآنية والتنحي، والرقة، والعفوية.

في منتصف القرن العشرين استطاع الهايكو أن يتجاوز حدود اليابان ويقتحم آدابًا وثقافات كثيرة عبر الترجمة إلى لغات العالم الحية فصار شعرًا عالميًا وأصبحت مختلف الشعريات العالمية تتميز بهذا المكون الشعري. وأهم عامل ساعد على انتشار الهايكو في العالم هو الحاجة إلى التعبير عن روح العصر وهو عصر الإيجاز.

مع ظهور المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الإجتماعي أخذ الهايكو بالانتشار السريع في الوطن العربي وأصبح يجذب الكثير من الشعراء ومجموعات الهايكو والترجمات أصبحت تزداد يومًا بعد يوم إلا إن عدم وجود معرفة حقيقة بخلفية الهايكو والثقافة والتراث الياباني أدّى إلى حدوث فوضى عارمة فاختلطت الصورة والرؤية عند بعض الشعراء والمترجمين بين القصائد النثرية القصيرة والهايكو.

إن هذا الفن له خصائص ومعايير معينة مثل القطع والآنية والتكثيف واجتناب المجاز على المترجم الالتزام بها ولكن بعض المترجمين دون أن يتقنوا هذه الخصائص تقربوا إلى الهايكو وقدموا ترجمات ضعيفة وهنا تكمن خطورة الانحراف والفهم الخاطئ حيث يصعب جدًا تصحيح المسار.

صدر كتاب "صوت الماء: مختارات من الهايكو الياباني" سنة 2016 ضمن سلسلة كتاب مجلة الفيصل. ترجم فيه حسن الصلهبي[1] عددا من قصائد الهايكو لأشهر شعراء اليابان امثال: ماتسو باشا، ويوسا بوسون، وايسا، بالإضافة الى شعراء آخرين من اللغة الإنجليزية إلى العربية. وهذه القصائد قد كتبت في أكثر من حقبة زمنية. واستهل الصهلبي الكتاب بمقدمة جيدة، أوضح فيها الخصائص الفنية والجمالية التي يتكئ عليها شعر الهايكو.

وكان لي ان قرأت الكتاب وقد بدت لي أثناء القراءة ملاحظات على بعض الترجمات، خاصة وأني مطلّع على الكثير من نصوص رواد الهايكو الياباني، باشو، وبوسون وإيسا، من خلال ترجمات متفرقة قام بها مترجمون عرب وفرس، فسجلت بعض التعليقات، واخترت منها مايناسب المحاور التالية:

1- عدم انتقاء كلمات تلائم الصورة:

الكلمة هي حجر الزاوية في النص الشعري؛ والهايكو نص شعري قصير يتكوّن من ست أو سبع كلمات فعلى المترجم أن يختار الكلمات بعناية لاستدراج ذهن القارئ لفضاء النص، ترجم الصلهبي هايكو الضفدع لباشو[2] على النحو التالي:

«بحيرةٌ قديمةٌ

يغطس فيها ضفدعٌ

صوت المياه»[3]

صورة صغيرة تتكون من 7 مفردات، ضفدع يقفز في الماء فيتردد الصوت! يتطلب هذا النص كلمات مناسبة تلائم الحدث! البحيرة تفتح ذهن القارئ على صورة كبيرة أو واسعة! أقترح كلمة البركة للترجمة! وهي الكلمة الواردة في النص الانجليزي:

an ancient pond

a frog jumps in

the splash of water

فكلمة " pond " تعني بالانجليزية: بِرْكَة ؛ مُسْتَنْقَع[4]. ثم أن فعل "يغطس" يبدو لي غير مناسب، والأصح أو الأليق أن يقال "يقفز" لأن الغطس لايحيط بمعنى الطفرة! فالنص يتطلب حركة وحدث يزلزل النص! لأن الضفدع كان ثابتًا على صخرة ثم يقفز في الماء! وإذا نتابع معنى " jump" في اللغة الانجليزية نراه یدل على المعاني التالية: طَفْرَة ؛ قَفْزَة ؛ وَثْبَة[5]. فباشو يريد أن يقول أن الأشياء العظيمة الساكنةَ تتأثرُ بحركةِ الأشياءِ الصغيرة . أما بخصوص کلمة "مياه" فهي جمع للماء، وغالبا ما تطلق عند تعدده، فقديما كانوا يقولون" ماء من مياه فلان قبيلة" أي هناك عدة مياه لهذه القبيلة! واليوم يقولون: مياه صالحة للشرب، ومياه غير صالحة للشرب؛ لذا أقترح کلمة "ماء" وهي اسم جنس تطلق على القليل والكثير مثل :فضة وذهب وإلخ. فاترجم النص وفقًا لنسخة مؤلف الكتاب على النحو التالي:

بركة عتيقة

يقفز فيها ضفدعٌ

صوت الماء

2- نقل الخطأ من اللغة الوسيطة:

لست ضد ترجمة المترجم! قد نضطر أحيانًا لترجمة النصوص عبر لغة وسيطة لأسباب كثيرة لست بصدد ذكرها هنا، ولكن يجب النظر في النص الأصلي أيضًا من خلال الاستفادة من خبرة شخص آخر أو عبر استعمال بعض البرامج نستطيع كشف صياغة وترتيب الكلمات بالنص الأصلي! ثم مقارنته مع النص الوسيط. ترجم الصلهبي هايكو مشط الزوجة لبوسون[6] على النحو التالي:

«في غرفة النوم،

يؤلمني أن أدوس

على مشط زوجتي الميتة»[7].

كتب بوسون هذا الهايكو بعد أن داس على مشط زوجه! فالأصح أن يستخدم الفعل الماضي لا المضارع والآنية تتحقق في الحدث بأكمله. وهذا الهايكو تُرجم بأشكال مختلفة؛ على سبيل المثال ترجمه محمد الصاري[8] عن الفرنسية على النحو التالي:

«يا للألم

مشيت فوق مشط زوجتي

المتوفيه»[9]

وقد ترجمه علي مطوريان[10] عن الانجليزية على النحو التالي:

«برد قارس،

في غرفة المنام أدوس على

مشط زوجتي المتوفاة»[11].

القارئ لترجمة مطوريان يشعر بأن الحدث وقع في جوٍ باردٍ قارس! وهو قد ترجم النسخة الإنجليزية التالية:

this piercing cold

in the bedroom, I have stepped

on my dead wife's comb

والحقيقة أن الشاعر لا يقصد الألم ولا البرد القارس وإنما القُشَعريرة وهي « رعشة، رجفة من خوفٍ أو رهبةٍ أو اضطراب " أخذَتْهُ قُشَعْرِيرَة من شِدّةِ البَرْد..."»[12]. ترجم محمد عضيمة[13] هذا النص مباشرة عن اليابانية على النحو التالي:

«اِقشعرَّ بدني

لما دَعستُ في غُرفة النَّوم

على مشط زوجتی الراحلة»[14].

3- الترهل التعبيري

الهایكو يبتعد عن الترهل والثرثرة، فالتكثيف هو أهم عناصر هذا النمط الشعري ويعتمد عليه كركن أساسي، فالهايكو لابد أن يكون مُكثفا؛ والمراد بالتكثيف هو الاختصار غير المخل الذي يوحي بالمعاني المقصودة بحيث لا نستطيع حذف أية كلمة منه. هذا العنصر يجعل معنى الفكرة محصورًا في أقل الكلمات ويأتي للتشذيب وحذف الكلمات الزائدة والحشو. ترجم الصلهبي هايكو حشائش الصيف لباشو على النحو التالي:

«أعشاب الصيف:

كل ما يتبقى من

أحلام القادة العظماء الكبيرة»[15]

كتب باشو هذا الهايكو عندما كان جالسًا يبكي بالقرب من أنقاض قلعة تاكاداته المغطاة بالحشيش (مقر قبيلة فوجي وارا) حيث دارت هناك معركة طاحنة بين زعيمي عشيرتين متخاصمين. لقد ظلا يقتتلان من الفجر حتى المساء. ومع غياب الشمس في ذلك اليوم كان المحاربان قد سقطا قتيلين. وهذا الهايكو هو يقابل بين خلود الطبيعة وزوال أعمال البشر.

النص باليابانية هو[16]: 夏草や兵どもが夢の跡

ومن خلال وضع النص في "غوغل ترجمة" وترجمته كلمة كلمة عرفت بأن باشو يريد "المحاربين" (兵ど). وأن "كل ما يتبقى" وردت في النص الاصلي: آثار، أطلال، بقايا (の跡). قد ترجم محمد عضيمة هذا النص من اليابانية إلى العربية على النحو التالي:

«يا لحشائش الصيفِ

فوقَ أطلالِ أحلامِ

المُحَاربينَ»[17]

کما ترون ان ترجمة عضيمة مکثفة مضغوظة غير مترهلة، والآنية في هذا الهايكو تتحقق في المشهد البصري "أعشاب الصيف" فهو ينظر إليها ثم يعلق أو يستكمل الهايكو بما يدور في داخله. ويبدو أن الشاعر محمود درويش قد تأثر بهذا الهايكو فكتب:

وتذكر قلاعًا صليبية

قضمتها حشائش نيسان

بعد رحيل الجنود

4- عدم مراعاة الوقفة الطبيعية أو الكايرجي في الترجمة

الكيرجي (kireji) ويمكن تسميته عربيًا بـ«الوقفة» هو صمت زمَنيّ يقسمُ الهايكو إلى زمنَين وهو في الهايكو الياباني عبارة عن حرف مثل ya أو kana أو keri أو ramu أو tsu وغيرها من الحروف؛ وبما أنّ اللغات الأخرى كالعربية والفارسية والانجليزية وغيرها لا تحتوي على هذه الحروف، فلذلك يترجم الكايريجي kireji بعلامات ترقيم توحي بالصمت، وعلامات الترقيم التي تُستخدَم هي (،) أو (…) أو (-) أو (/). الكايرجي يمنحُ بُنيَةَ الهايكو تماسُكًا كبيرًا ويدعو القارئ للتأمل. وكل قصيدة هايكو تحتوي على وقفة طبيعية واحدة، قد تأتي في السطر الأول أو الثاني أو الثالث. ترجم الصلهبي هايكو الزوجة المتذمرة على النحو التالي:

زوجتي المتذمّرة

لو كانت هنا،

قمر هذه الليلة …[18]

یتكون هذا النص من صورة " القمر في الليل" وتعليق ذاتي عليها، فيستحسن أن تأتي الصورة أولًا وبعدها الوقفة الطبيعية لتقسّم النص إلى قسمين ولكن المترجم قد استخدم وقفتين في الترجمة مما أخل بتماسك النص. لقد رأى الشاعر (ايسا) القمر في السماء وكان حينها وحيدًا فتمنی بحسرة وجود زوجه ترافقه. عجز المترجم – كما يبدو لي- من نقل الحسرة الملتهبة الكامنة قلب إيسا. ترجم جمال مصطفى[19] نفس الهايكو على نحو التالي:

«يالهُ من قمر/

آه لـو أن زوجتي المتَـذمِـرّة

الآن معي»[20]

جاءت الوقفة الطبيعية في السطر الأول وقد استخدم الشاعر علامة الفاصلة (/) لاعطاء فرصة للقارئ كي يتأمل في الصورة ويتهيأ للدخول في الجزء الثاني الذي هو عبارة عن انفعال الشاعر. لقد ذكرني هذا الهايكو بنص ترجمته لعباس كيا رستمي، ورُبما قد تأثر رستمي بنص الياباني:

ما أصعبَ

مشاهدة البدر

على انفراد[21]

 

توفيق النصّاري

....................

الهوامش:

[1] حسن الصلهبي شاعر ومترجم سعودي معاصر ولد عام 1972م في الظبية بمنطقة جازان جنوب غرب المملكة العربية السعودية. حاصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

[2] باشو (1644-1694 م) شاعر ياباني معروف.

[3] حسن الصلهبي، صوت الماء، الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1437 هـ.ق، 26.

[4] A.farah,m.said,r,n,karim,s.k.eduard:the dictionary English-arabic,dar al-kotob al-ilmiyah,Beirut-lebanon,2004 ، 572

[5] روحي البعلبكي، المورد: قاموس عربي – انكليزي، ط 7، بيروت، دار العلم للملايين، 1995م، 869.

[6] بوسون أو يوسا بوسون (1716-1784 م) شاعر هايكو ورسام ياباني.

[7] حسن الصلهبي، 1437 هـ.ق، 53.

[8] شاعر هايكو سُوري.

[9] محمد الصاري،مجموعة عشاق الهايكو،

 https://m.facebook.com/groups/164445723573272?view=permalink&id=1205487772802390

نُشر بتأریخ: ۱۷ مارس ۲۰۱۶

[10] شاعر هايكو أهوازي من مدينة المحمرة.

[11] علي مطوريان، مجموعة الهايكو سوريا،

 https://m.facebook.com/groups/352036658229196?view=permalink&id=699795786786613

نُشر بتأريخ: ۱۹ دیسمبر ۲۰۱۵

[12] أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، ط1، القاهرة، عالم الكتاب، 2008م، 2/1817

[13] شاعر سوري مقيم باليابان ولد في قرية (رويست العجل) على الساحل السوري. حصل على شهادة في اللغة العربية من جامعة دمشق ثم اتسع ولعه ذاك ليشمل الفنون الكبرى للغة الشعر والنقد والترجمة. شد الرحال إلى فرنسا وأقام ودرس في عاصمتها حتى حصل على الدكتوراه. ذهب إلى اليابان سنة 1990 كأستاذ لتدريس اللغة العربية لطلاب جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية وقد استقر به المقام هناك .

[14] محمد عضيمة وكوتا كاريا، كتاب الهايكو الياباني، دمشق، دار التكوين، 2016، 56.

[15] حسن الصلهبي، 1437 هـ.ق، 34.

[16] https://www.bunshun.co.jp/mag/ooruyomimono/hosomichi/haiku/ichinoseki.html

[17] محمد عضيمة وكوتا كاريا، 2016 م، 33.

[18] حسن الصلهبي، 1437 هـ.ق، 79.

[19] شاعر عراقي من البصرة يقيم في الدنمارك.

[20] جمال مصطفى، ألـف هـايـكـو وهـايـكـو (3)، صحيفة المثقف، http://ns1.almothaqaf.com/b/c1d-3/902078

[21] توفيق النصاري، مختارات من الهايكو الفارسي، ط 2، طهران، آذرفر، 1396 هـ.ش، 37.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم