صحيفة المثقف

مُؤّرخ الأفكار

لطالما كانت أفلام الخيال العلمي تستهويني، تلك الأفلام الأمريكية التي أسهر ساعات لمشاهدتها بشغّف بلوغ نهاياتها التي عادة ما تكون ذات نزعة إنسانية. تبدأ معها ترتحل في إمكانات القدرة العلمية في الاختراع والإبداع الإنساني، ثم تتحوّل بك إلى تداعياتها السلبية على الجوانب الروحية في مجال يسمى في الفضاء المعرفي  والتقني بـ علم البيوتيقا أو أخلاق العلم عامة، حيث الدعوة إلى ضرورة تأطير الإبداع في المجال التقني بإطار أخلاقي قيمي يراعي الحس الجميل والنبيل في الممارسات الإنسانية.

ثم ومع نهاية ذلك الفيلم تترافق روحك مع موسيقى النهاية الهادئة التي تأبى أن تغادرك لطول مدتها، وهي ذاتها نهاية لبداية مسير جديد وسرحان ذهن وتجواله في عالم الخيال أكان علميا أم روحيا أو كلاهما في علاقة تضايف أقل ما يقال عنها أنها حميمية.

حينذاك تشرع في كتابة ذهنية غالبا ما تسمى أحلام اليقظة بينما هي صولات وجولات الذهن فيما يمكن أن يُفكر فيه، وعندما ينتهي بك ذلك الترحال وتشعر بتشبّع فكري، مرّ في تطوره بحبكة معقدة انتشى العقل بإمكانية التسلّل منها بافتراض حلول مرضية، تقول في تلك اللحظة ليتني كتبت ما فكرت فيه وتدّربت في خوالجه لكنت أنتجت قصة، رواية، خاطرة أو قصيدة أو شذرات متراقصة في جنبات الخيال الواسع.

هناك تنتقل من نشوة التفكير الباني إلى الشعور بالندم عندما تستيقن أنك أقمت ذلك البناء الذهني على شاطئ الفكر وعلى أرضية رملية كلما تعاقبت عليها تيارات التفكير وتموّجاتها اللامتناهية، أدركت أنها تلاشت كبخار يعلو السماء، وما يفتأ أن يتماهى في فضائها حتى لا يبدو له وجود.

تلك الحالة التي يمكن أن توصف بسلبية الذهن وتفكيره الافتراضي غير الموّثق، ولأنها متكررة كثيرا أصبحت وكأنها إعداما للإبداع وسَلبا لتأريخ وجوده. هنا بالذات راودتني الحاجة إلى الخيال العلمي وإمكاناته التي تتجسّد باستمرار لتخرج من مجرّد قوة إلى فعل، هنا قلت لما لا تُبتكر آلة أو تقنية تسجل، توّثق وتؤّرخ لما نفكر فيه ولا نكتبه، آلة تتصل بأذهاننا فترصد أفكارنا وأحلامنا في حالات الوعي واللاوعي، في حالات التذّكر والنسيان، وفي حالات القدرة والكسلان؟.

ليت تلك الآلة الراصدة للأفكار موجودة حقا أو على الأقل ليتها توجد، لأن كثيرا من منسوجات فكرنا لم يكتب لها الخروج من غيابها إلى نور الحضور، لتتحرر من سجن الذهن وتتزاور مع الأذهان الأخرى فتزيد سطوعا وبروزا.

هل يمكن أن يكون لهذه الآلة وجودا حقيقيا لتتحوّل من مجرد خيال علمي أسطوري خرافي إلى حقيقة علمية مؤكدة بالواقع يستطيع الجميع ممارستها واستعمالها. عندما تسجل آلةٌ أفكارك ستصبح هي بمثابة أذكارك وهنا تطرح المشكلة، إنها مشكلة خصوصية الفكر وفردانية التفكير وفُرادته في رغبة الإخفاء أو تعمّد الغموض والاستعانة بضبابية تعتيمية مقصودة جدا تتيح لكل ذهن حق امتلاك أفكاره وحتى احتكارها.

الجانب الأخلاقي والقيمي وحتى النفسي والاجتماعي لهذا الاحتمال أو الإمكان العلمي قد يطرح تداعيات مؤّشكلة في استعمال هذه التقنية، فمثلا فقدان الحق في الخصوصية الذهنية يجعل للجميع الحق في قراءة أفكارك، وفي أي وقت يشاءون بغض الطرف عن طبيعة تلك الأفكار والانطباعات أكانت محابية أم معادية، خيّرة أم شرّيرة، بريئة أم إجرامية، طيبة أم خبيثة.

لحظات الانكشاف تلك تجعل النفس تعيش شعور القلق والتوتر والخوف من أن تفضح مشاعرها، وتخشى أن تستباح أسرارها بقراءة أفكارها.

ثم تتحوّل العلاقات الاجتماعية بعيدا عن النفاق الاجتماعي، وبالاستغراق أكثر في صدق بوح الذهن، إلى صدامات وصراعات تفكّك أكثر مما تبني وتشّرذم أكثر مما تلّملّم، فتصاب الأخلاق الفاضلة بعدوى التلوّث القيمي وكأنها جرثومة أصابت عضوا فهدمت جسدا، لذلك إن اخترعت هذه الآلة احرص على أن تخفيها عن أنظار من لا تختار، وأن لا تتركها في متناول الأطفال والمتطفلين من النساء والرجال...

 

د. أمينة بن عودة - جامعة معسكر

الجزائر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم