صحيفة المثقف

حروب الرجل القرية

حسين فاعور الساعدي"أنا" و"جثتي" اثنانْ

في واحدٍ نصفانْ

حياتنا زيّنها الأمانْ

تقدم المجهولُ ذات يومٍ

مُرعِبَاً،

حثيثةٌ خطاه!

منحتُ "جثتي" لقريتي

لأحفظ المكانْ

منحتُها للأهلِ والجيرانِ

راعٍ صرتُ بينهم

من أحسن الرعيان

أتقنُ الغناءْ

أجيدُ الناي!

"أنا" غادرتُ "جثتي"

لأدرك الزمانْ

وهبتُها،

نسيتُها،

عشرون عاماً بالتمامِ والكمالْ!

"أنا" رميتُ دفتري

تركتُ ما في جعبتي

شمّرتُ عن سواعدي

جمّدتُ ما في الحلقِ من قصائدٍ

أجّلتُ قهوةَ الصباحِ،

متعةَ التجوالِ مع أيائل البطاحْ

"أنا" غادرتُ جثتي

لأدرك الزمانْ

دخلتُ حلبة الصراعِ مرغماً

لأحفظ البقاءْ

وفي ربوعِ الغابةِ الحمقاءِ،

حلبة الصراعِ،

كنتُ فارساً.!

أجدتُ ما يُجيدُ الوحشُ مِن لغاتْ

أجدت الطعن بالقناةْ

والموتَ في الثباتْ

صبرت ما صبرتُ

رغم كثرة الجراحِ

بالأكفِّ كنت أطفئ النيرانْ

أواجهُ العدوَّ بالإصرارِ والثباتْ

نجحتُ في المشوارِ

وانتشيتُ بالنجاحْ

أقمتُ قريةً جميلةً من "جثتي"

بيوتها كالثلجِ،

من حجارة الشاغورِ

درّة الجليل!

تعانقُ الغيومَ في شواهقِ الجبالْ

كأنها كواكبٌ في قبةِ السماءْ

تحيطُها الورودُ والأزهارُ

والغاباتُ والفلاةْ

تؤمّها الأسودُ والصقورْ

أقمت قريةً من "جثتي"

صديقةَ للبيئة العذراءِ

للفصولْ:

شتاؤُها الأعشابُ والخضارُ والبقولْ

ربيعُها الحليبُ والخرافُ والفراخْ

وصيفُها الأجاصُ والبطيخُ والرمانُ والتفاحْ

خريفُها الزيتونُ والزبيبُ والخروبْ

لقريتي بوابةٌ حديثةٌ وحيدةٌ

ما بين الأرضِ والسماءْ

مفتاحُها أرقامْ

يؤمها الزوارُ جواً بالقطارْ

ليشهدوا مسيرةَ الرغيفْ

من بذرةٍ صغيرةٍ  قمحيةٍ شقراءْ

يدفنها المحراثُ في الترابِ

قبل موسمِ الأمطارْ

حتى تكاتفَ النساءِ والرجالِ

في مواسمِ الحصادِ

أو تفجّر الشلالِ بعد موقفٍ مخيف

من طاحونةٍ عمياءِ

ويشهدوا ترقّب الشيوخ والأطفالِ

كيف من لهيبِ موقدٍ

كالبدرِ يولد الرغيفْ

**

نسيتُ الظلمَ والتزويرَ والجشعْ

نسيت القهرَ والإذلالَ والوجعْ

وكل ما "أنا" دفعْ

نسيتُ ما أصاب "جثتي"

من ديرتي وعزوتي

"أنا" رجعتُ منهكاً ل"جثتي"،

دخلتها

لأستردّ قوتي

لأستعيد قهوةَ الصباحْ

ودفتري الذي أهملتهُ

وبيت شعرٍ كان دائماً يحومُ

راحْ

أردتُ أن أرتاحْ

وأستردُ ما عشقتُ من نجومْ

لكنني

وجدتُ قريتي أو "جثتي"

يجتاحها وباءُ الهاتفِ النقّالْ

من قريتي أو "جثتي" تسرّبَ المكانْ

توقّفَ الزمانْ

تهدّمتْ مواقدُ الرغيفِ

والحقولُ أصبحت منابت الأشواكْ

تفرّقَ الجميعْ

تقوقعَ الجميعُ كالقطيعِ،

هرولوا إلى الهبوطِ

أجمعوا على السقوطِ

ماتَ في إنسانها الإنسان!

"أنا" حاولتُ أن أردّهمْ

جرّبتُ أن أعيدهم لرشدهم

نصحتُهمْ

نبّهتُهمْ

رجوتُهمْ

بكيتُهمْ

سحبتُ "جثتي" من بينهمْ

لكنهم لم ينظروا،

لم يسمعوا،

لم يرفعوا رؤوسَهمْ

عن شاشة النقّالْ

كأن كلَّ واحدٍ تمثالْ

يأكلونَ يشربونَ ما يريده النقّالُ

يقرءون ما يخطّهُ

ويسمعون ما يبثّهُ

ويطربون حين يطرب النقالُ

يحزنون حين يحزنُ النقالْ

نفوسُهم تغوص في متاهةٍ

وكلهم جراحْ

تعبتُ لم أجدْ وسيلة لوصلهم

سوى النقّالِ

والنقّالُ لعبةٌ حديثةٌ مسمومةٌ

لطيفة في القتلِ،

بعدما السفاح ملَّ القتلَ بالسلاحْ

***

حسين فاعور الساعدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم