صحيفة المثقف

اضطراب الشخصية المتعدد كحل سياسي!

منى زيتونمن أشهر الأفلام في السينما المصرية في ستينات القرن الماضي، فيلم يحمل اسم "عفريت مراتي"، تدور أحداثه في قالب كوميدي؛ حيث يعاني زوج من تقمص زوجته لشخصيات حقيقية مختلفة، تتعرف عليها الزوجة من خلال مشاهدة الأفلام السينمائية في السينما المجاورة للمنزل كل ليلة، فتارة تتقمص دور السفاحة "ريا" وتكاد تخنق أخته، وتارة أخرى تتقمص دور "إيرما الغانية" وتفضحه أمام مديره وزملائه في العمل حين تتعامل كغانية تتراقص وتغني بخلاعة أمامهم، وغيرها من أدوار. وكانت الزوجة تفيق بعد كل حالة تقمص ناسية تمامًا كل ما حدث منها في الليلة السابقة.

وفي أحد أفلام إسماعيل يس دخل مستشفى المجانين، وتحديدًا "عنبر العقلاء" كما كان مسماهم، وتعرف في حوار غنائي ضاحك على نوعية المجانين فيه، والذين كان كل منهم يتقمص شخصية تاريخية واحدة، تطغى على شخصيته الحقيقية التي يرفضها تمامًا، كما يرفض الانخلاع من الشخصية المتقمصة.

وقد يظن أغلب الناس إن هذه الحبكات السينمائية لا أساس لها في الواقع، ولكن على العكس من ذلك -فرغم الكوميديا والمبالغات في الأفلام السابق ذكرها وغيرها- هناك بالفعل أشخاص يعانون من اضطراب عقلي يؤدي بهم إلى تقمص شخصيات، غالبًا ما تكون حقيقية. ويُعرف هذا الاضطراب باسم "اضطراب الشخصية المتعدد" (Multiple Personality Disorder).

وقد يكون الفرد على وعي بتقمصه وتحولاته الشخصية، وقد يكون غير واعي تمامًا، ولدى أغلب الحالات المرضية بهذا الاضطراب توجد شخصيتان مستقلتان تمامًا يتحول الفرد بينهما، ولكن قد يصل العدد إلى عشر شخصيات. وهذا الاضطراب ينتشر بنسبة أكبر بكثير في الإناث عنه في الذكور، لأنه يُستخدم غالبًا كميكانيزم دفاعي للهرب من ضغوط الواقع.

وفي حال عدم الوعي والانفصال التام تكون لكل شخصية متقمصة خصائص –من حيث العمر والعرق والجنس- وطريقة تواصل تختلف عن الشخصية الأخرى، كما وقد تكون لها ذكريات لا يتذكرها الفرد إلا عندما يتقمصها، وينساها حين يشرد ويتحول إلى الشخصية الثانية. بالرغم من ذلك فعادة تكون الشخصية مدركة لوجود الشخصية الأخرى تتبادلان لتخفيف الضغط الواقع على الفرد!

وقد تكون الشخصية التي يتم تقمصها شخصية حقيقية كأبيه أو أحد مشاهير العالم الأحياء أو الأموات، فيقلد سلوكها ويحاول إعادة تاريخها، كما قد تكون شخصية خيالية، تمثل ذاته التي كان يرغب فيها ويتمنى أن يكونها. وفي بعض الحالات المرضية الشديدة قد يتقمص الفرد شخصية حيوان حقيقي أو أسطوري!

وقد يلاحظ المحيطون بالفرد شروده وتقمصه في شخصية أخرى يدرك ويفكر في العالم من خلالها، وقد لا يلاحظون عندما يحرص الفرد على أن ينعزل عندما يستشعر رغبته في الهرب إلى شخصية غير شخصيته الحقيقية.

وتتفاوت أعراض الحالة، وهناك تصور لدى بعض علماء النفس والأطباء النفسيين بأن كل البشر لديهم درجة من الشرود الواعي الذي يحدث لفترات قصيرة يتخيلون بها أنفسهم في شخصية أخرى، وذلك عندما تتزايد عليهم ضغوط الحياة، ولا يصنف العلماء تلك الأعراض البسيطة كحالات مرضية لاضطراب الشخصية؛ كونها لا تتداخل مع الشخصية الحقيقية للفرد في حياته الشخصية والمهنية ولا تسبب له المشاكل. وبعض الناس يوجه رغبته في التقمص تلك توجيهًا إيجابيًا فنيًا بدلًا من أن تتمكن منه وتسبب اضطرابًا يمس شخصيته الحقيقية، ومن هنا نشأ فن التمثيل.

والنظرية السائدة عن نشأة هذا الاضطراب كحالة مرضية هو أنه غالبًا يبدأ في مرحلة الطفولة عند تكرار الإيذاء النفسي والجسدي الحاد للطفل، مع عدم وجود أي شخص كبير يدافع عن الطفل ويمنع عنه الإساءة، فيلجأ الطفل إلى الانفصال عن نفسه وذكرياته المؤلمة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن لعب الأطفال بالعرائس والحيوانات وخيالاتهم أثناء هذا اللعب ليست هي اضطراب الشخصية المتعدد.

وقد تتأخر حالات الإيذاء المتكررة أو العنيفة الصادمة التي تأتي الفرد من البيئة الاجتماعية القريبة لمرحلة المراهقة، وطالما لم يجد المراهق الدعم فغالبًا سيبدأ اضطراب الشخصية المتعدد في الحدوث، فيلجأ لخلق عالمه الخاص المنعزل وشخصيته/شخصياته المتخيلة التي تستطيع مواجهة الواقع الذي تعجز شخصيته الحقيقية عن مواجهته. كما تزداد في مرحلة المراهقة النمذجة الاجتماعية وتأثر المراهقين بشخصية معينة أو بعض الشخصيات، ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى نشأة الاضطراب، ولكن يلزمنا التمييز بين تمثل النموذج وتشرب سلوكه ليصبح السلوك الدائم للفرد، وبين أن يحدث الشرود والتقمص لتلك الشخصية أو بعض سماتها في أوقات الأزمات عندما ينعزل وينفصل الفرد عن الواقع كمحاولة لتخفيف العبء النفسي.

ويمكن القول باختصار أن الإنسان -خاصة في طفولته المبكرة أو مراهقته- كثيرًا ما يصعب عليه مواجهة ذكرياته المؤلمة التي تذكره بالمواقف الصادمة، فيلجأ إلى الهرب منها، وقد يتسبب ذلك في نشأة اضطراب الشخصية المتعدد.

وعادة يكون فقد الذاكرة الجزئي أهم الأعراض التي تصاحب هذا الاضطراب، وغالبًا يكون من أعراضه أيضًا ثورات الغضب الشديدة لدى الفرد، والكذب المرضي غير الواعي، وتخيل النفس في مكانة اجتماعية وبيئة أخرى، وأحيانًا يصل الاضطراب إلى رفض صورة الجسد، فلا يتعرف الفرد على نفسه في المرآة، وليس بالضرورة أن توجد هلاوس سمعية أو بصرية تصاحب هذا الاضطراب.

حاليًا معنا عمر المختار!

منذ عرفنا الرئيس السيسي كان من الواضح أن هناك شخصيتين رئيسيتين يتبادل تقمصهما، وهما شخصية الخديو إسماعيل، وشخصية الرئيس السادات.

بدأ حكمه بشق تفريعة لقناة السويس تكلفت مليارات، أوهم المصريين أنها ستكون فاتحة خير اقتصاديًا عليهم، ولكن كان من الواضح أنه يحاكي شق الخديو إسماعيل لقناة السويس الأولى، ولم ينس أن يقيم حفلًا كبيرًا يدعو إليه رئيس فرنسا فيمن دعا، وكما فعل إسماعيل فأفرط في الاستدانة بدعوى بناء مصر الحديثة، لا ينفك أخانا يقترض ويقترض ثم يعود فيقترض، معرضًا مستقبل مصر لأعظم الخطر.

وفي حفل افتتاح تفريعته أصر على أن يبحر وسطها في مشهد يحاكي إعادة افتتاح الرئيس السادات لقناة السويس عام 1975 بعد تطهيرها من ألغام ومخلفات الحرب، وكما كان الرئيس السادات يحرص على الظهور بمظهر الرئيس الرياضي، فالسيسي مغرم بتكوين الصورة ذاتها عن نفسه، ولكنه يحب ركوب الدراجات.

وكل هذا يهون، لكن الأدهى إصراره العجيب على الدخول في مفاوضات لا تلزمه والتوقيع على اتفاقية سد النهضة عام 2015 رغم نصيحة جميع المستشارين والخبراء له ألا يفعل، قائلين إن المشروع سيبقى معلقًا ولن يجد تمويلًا إن لم يوقع، وظننا وقتها أنه يُوقِّع بحثًا عن الاعتراف به كرئيس لمصر بعد تعليق الاتحاد الإفريقي لعضوية مصر بعد 3 يوليو 2013، ولكنني عندما أعدت تحليل الموقف وسط المستجدات الأخيرة، ومراجعة بعض سقطات لسانه، خالجني شك قوي أن إصراره العجيب على التفاوض الذي لا يلزمه، وتصوره أنه حقق نصرًا بتوقيع الاتفاقية التي أضاعت حقوقنا، وفرحته غير المبررة يومها، كان تشبهًا منه بالسادات في مفاوضات كامب ديفيد، وما أبعده عن السادات، فالسادات –سواء اتفقنا أو اختلفنا معه- كان ثعلبًا، أعاد سيناء وأعطاهم ورقة! وحتى قريب كان السيسي يتحدث طالبًا أن نثق به مصورًا لنا أن الأيام ستثبت حنكته وبعد نظره، مثلما كان السادات يؤكد على الشعب بعد كامب ديفيد، ولما تأزم الأمر حاول إدخال الرئيس الأمريكي كوسيط، وربما يظن ترامب كارتر!

ومعروف أن الضغوط عندما تلاحق إحدى الشخصيات لدى المصاب باضطراب الشخصية المتعدد، يتم استدعاء الشخصية الأخرى القادرة على تخفيف الضغط الراهن عن النفس، ولكن عندما تكون الشخصية الثانية أيضًا غير قادرة على مواجهة الضغوط يلزم الفرد الهروب إلى شخصية ثالثة جديدة لتعطي رد الفعل الذي يجنبه الضغط النفسي.

فلأن كل المساعي الدبلوماسية لإصلاح ما أفسده في ملف سد النهضة قد باءت بالفشل، فهو يستعد للهروب إلى شخصية جديدة هيأت لها الظروف أن تظهر، بعد محاولات التدخل التركي في ليبيا، وهزيمة حليفه خليفة حفتر. السيسي الآن يستدعي شخصية شيخ المجاهدين عمر المختار بعد أن قرر التدخل في ليبيا لتخطي أزمته النفسية. شعرت بذلك منذ أُذيعت أغنية الفنانة أصالة الجديدة "الحب والسلام"، والتي تُوضع فيها صورته في الخلفية بجانب صورة المختار، وحديثه المتواصل واتصالاته المكثفة بشأن ليبيا في الوقت الذي يلزم فيه توجيه كافة الجهود إلى الملف الإثيوبي، وتأكد ظني حد اليقين بعد اجتماعه أمس الخميس مع وفد القبائل الليبية، وإجلاسه حفيد عمر المختار إلى جانبه. حاليًا معنا عمر المختار!

 

د/ منى زيتون

الجمعة 17 يوليو 2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم