صحيفة المثقف

ثنائية الشعور الحسّي بين (الأنا والأنتِ) وجدلية الآخر

جبار ماجد البهادليقراءة نقدية لقصيدة (المُحبونَ) للشاعر يحيى السّماوي.

(المُحبونَ) مفتاح نصي دلالي لعتبة عنوانية بالغة الإيجاز في تركيبها النحوي اللّغوي، وصوتيا هي مصفوفة شعرية بائية صوتية متحركة الإيقاع في تساوقها البنائي النغمي (الخارجي والداخلي) وزنا وقافيةً وإيقاعا داخليا. يجمعها أسلوبيا وفنيّا نسيج محكم من تلابيب وحدة عضوية متماسكة في حبكها اللغوي، وصياغة سبكها الدلالي المعنوي شكلا ومضمونا. وهي تمثل معادلا موضوعيا واحدا لصورة الواقع المرئي واللامرئي، الظاهر والمضمر في أنساقه ومرجعياته الثقافية القريبة والبعيدة، وهي في الوقت ذاته مشترك سيميائي دلالي لوحدتي (المكان والزمان) في أبهى تجلياته وحضوره الزماني (ماضيا وحاضرا ومستقبلا).

إنها سِفْرٌ لكتابٍ مفتوحٍ غير متناهٍ في عمق امتداده الزمني الضارب لجذوره المتأصلة. إنها المطلق الحركي الذي يكسر بعناده عنان المُقيّد التداولي بالانفتاح الروحي الكبير الذي يؤرخن الحاضر بالماضي ويوثِّق معالمه زمنيا:

كتابُ الأمسِ /واليومِ / الغدِ الممتدِّ حتّى آخر الدهرِ ..

وأخال جازما التعبير، وممعنا التدبير في قراءتي النقدية المتواضعة لهذه المدونة الشعرية أن (المُحبونَ) ليست مجرد قصيدة نصيّة إبداعية جمالية في هندسة تشكلاتها الصورية (المرئية والصوتية) المحتشدة بالتمظهرات اللغوية، والمفارقات (الأمجية) الصورية والانزياحية المبتكرة فنيّا ودلاليا فحسب، وإنما هي تمثل فكريا وتأمليا وفلسفيا وجماليا معالم (مدينة السّماوي الإيثارية الفاضلة). مدينة الحبّ والعطاء والتضحية والإيثار الروحي والنفسي تُجاه إثرة الزمن السلبي العصي الردئ بتناقضاته ومؤثراته الماحولية السياسية والفكرية.

صدقا لا أُريد أن أبالغ القول تزلّفا أو انحيازا برأيي هذا، وكما يتراءى إلى ظنّي، أو يتناهى إلى فكري، أو يتداعى مع قلبي أن (المُحبونَ) قصيدة (تنّور ومحراث) جنوبي عراقي أصيل، ومصفوفة ناعور فراتي سومر ي معتّق من الإيثار الروحي والعرفاني الصوفي المتجدّد، يدور (حركيا وصوتيا) وزمنيا في فلك رُحى فرات قصيدة السّماوي العشقية، فيروي تخوم فضاء  تضاريس جسدها الظامئ إخضرارا وحياةً ورواءً، فتتناسل خصبا ونماء وبهاء.

ويتناهى إلى ظنّي أيضا أن السّماوي لم يخترْ لقصيدته (المُحبونَ) عنوانا كهذا العنوان الفني المائز إلّا وإن كانت له أنساقه الدلالية الخفية، ومسوغاته الفنية البعيدة المعبّرة عن عمق رؤاه وبصيرته الشعورية النافذة. ويكفي قصديته الفكرية فخرا وثباتا أن الله تعالى قد ذكر دلالة (الحبّ) كثيرا في طيّات كتابه العزيز، وكرّرها مرارا عديدةً، لتكون أيقونة سلام مائز لمن يؤمن بحبّ (الروح والجسد) . فلا عجب أن يكون الحبّ بين المحبينَ عند السّماوي رسول حياة خفية جديدة دائمة  تغمر بعبقها فيوض القصيدة (الحس روحية) رواءً وبهجةً وخصوبةً تحت مظلة الاتحاد الروحي بين (الأنا والأنتِ)، لتنتج لنا فنيّا جدليةً جديدة من التكامل والتكافل( الأنوي) المتثّل بقصدية المتكلّم للمخاطب في دلالة (كلانا) الدالة ب (نا)على ضمير الفاعلية الاتحادية بينهما. تلك اللازمة اللفظية اللغوية التي تكرّرت رأسيا خمس مرّاتٍ متوليةٍ عبر فضاء النصيّة، لتشكّل ببنائها التكراري اللغوي اللفظي الجمالي بدايات جمل محورية توالدية متحدة بإشاراتها الصورية الدلالية والفنيّة، لتماهي باستجاباتها الشرطية مثيرات الواقعة الحدثية، وذلك من خلال مدخلاتها ومخرجاتها الصورية الجمالية التأثيرية مهما كانت تناقضاتها التضادية وتنافراتها السلبية:

أنتِ

للسنبلِ والتنّور أَمٌّ

وأنا

للنهرِ والحقلِ أبٌ

وكلانا شجرٌ للطيرِ ..

والماءُ لعطشانٍ  ..

فهذا الاندماج الشعوري الاتحادي الاشتراكي التناسلي المتضاد شكليّا بين (أنا ) و(أنتِ) بلازمة دلالة التوكيد المعنوي (كلانا) اللفظية لا تعرف قوانينه الوضعية اللغوية إشكاليا الحدود المصطنعة الوهمية للتفاوت الطبقي الارستقراطي بين حارس فقير، وسلطانٍ أميرٍ، وغواية رجل ناطق بالدين، وعزيمة جندي يدافع عن وطنه وشرائع دينه. إنها مسبغة الجوع التي لا قوانين لها تحدّها سوى الإطعام المشترك الدلالي الجمعي بينهم. فتبارك الله تعالى في تنزيله الحكيم حين قدّم أفضلية الطعام على الأمن والخوف في رحلة الشتاء والصيف حين قال:  "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، فالإطعام حياة.

إن مثل هذ التماهي (الحس روحي) يدفع السّماوي إلى التشيُّؤ الحركي، فيحرّك صور الجمادات المحنّطة بلازمة (كلانا) اللفظية، لتكون صوتا شعريا حقيقيا معبّرا عن تهميش صورة المغيّب والمسكوت عنه قصديا:

وكلانا شفةٌ ضُمّتْ إلى الأخرى

فأصبحنا الفمَ الناطقَ

وتتحد الصورة الحركية الحسيّة المرئية في إمالتها الانزياحية التراسلية، لتصبح بدلالة (كلانا) التكراية (دمعا) من ماء الروح،و(كَرَبَا) من خبز الحياة. فيا له من اتحاد روحي تقابلي يجمع أشتاته المتناثرة بين حياة وحياة:

وكلانا ماؤهُ الدمعُ

وأمّا خبزهُ الكَرَبُ

وتتنامى صورة التكرار اللفظي الجمالي بصفة (كلانا) الاندماجية شعوريا، فتستحيل هيأتها الدلالية الروحية من صورة معنوية شيئية روحية إلى صورة حسيّة حركية تجسيمية مفعمة بالحياة، فتتصيّر حبلا ماديا تُشدُّ به نياط الأراجيح الترويحية، وتغدو ملعبا شعبيا  جماهيريا لإدامة فاعلية الحضور الحركي  الإنساني للأطفال اليتامى. وقصدية الشاعر من هذا التكرار الجمالي الإيثاري، هو أن تستمر الحياة دورتها بنسغها الروحي الجمالي مع المعدمين المكافحين من جمهور المحبين على الرغم من قساوة الكائدين والمبغضين:

وكلانا للأراجيح حبالٌ

ولأطفال بيوتِ الطينِ في وادي

اليتامى

ملعبُ

وتتعالى مدويةً صيحات الشاعر السّماوي في هذا التكرار الاندماجي الروحي العجيب بين الذات الشعورية الذكورية الشاعرية، والذات الشعورية الأنثوية العشقية (الأنتية)، لتصدح الصرخة  الصوتية فيه، فتغدو صورة مرئية صوتية من أمر عجيب تغمر فكر الشاعر إدهاشا، وتستحوذ على مشاعره الداخلية:

وكلانا

فيهِ أمْرٌ عَجبُ

وبتلقائية شعورية قصدية مفاجئة ينقلنا السّماوي الشاعر الحاذق عبر أثير مجسّات فضاء بنائه النصي الشعري الشعوري المتدفق من الجوّ العرفاني الصوفي لمدينته الروحية الفاضلة إلى أجواء مُناخ جديد لصورة حسيّة  آيروتيكية نارية ملتهبة المشاعر الحسيّة في تجردها الصوري وتنافرها اللّغوي الدلالي التضادي، ليرتقي نفسيا بهذا اللّمس الحسّي المهذّب في تعابير كلماته إلى مصاف اللّمس المعنوي الروحي المرقق، والمكتنز بتباريح الفيض العرفاني، تماهيا بجماليات المخلوق مع الخالق في أمتع توصيف، وأبهى صورة من صور فلسفة علم الجمال للغزل(الحس روحي) الذي تسمو به الروح جسدا، والجسد روحا. وذلك حين تجيش المشاعر العشقية بعناصرها المادية المتضادة، فلا الماء البارد المخزون يُطفئ جذوة الشاعر الملتهبة، ولا النارُ الضرام  تأبى حطبا لها غير حطب الشاعر المتأججة  بدالة الأداة (كلّما)الشرطية التي يقتضي أن يكون اسمها وجوابها  فعلين ماضيين لتحقيق وجوب قاعدة الشرطية للواقعة الصورية :

كلّما يحبِسُ في أحشائهِ الماءَ

تشبُّ النارُ وهو الحطبُ

وكل هذا التماهي الفكري الشعوري لتجربة الشاعر الحياتية التي ينقّب فيها باحثا عن حياته وعن ذاته الوجودي لم يمنع السّماوي شاعرا أن يجدد في إضاءاته التنويرية والتقاطاته الصورية لدلالة (المحبين)، فيسبغ عل محبيه الذين هم يمثلون السواد الأعظم  للناس من المكافحين والمعدمين، جُلَّ العطايا والسمات الأنسانية الفاضلة التي تميزهم كعلامات فارقة عن سواهم من المتسلطين والمتجبرين على رقاب الناس. فأخذ الشاعر يرسم لهم بهذا السمت المثالي، ولسلوكهم الإنساني توصيفات تكرارية ترددت رأسيا وأفقيا خمس مرّاتٍ في بنائه النصّي الجمالي. وراح في كل تكرار أو تمظهر صوري لافت يضفي عليهم صفة إنسانية جديدة باذخة تناسب قدرهم الروحي الذي تفيض منه.

ففي التمظهر التكراري الأول يضفي عليهم صفة (الكرامات) التي هي صفة أخلاقية وروحية ودينية وجمالية أكثر مما هي صفة شعرية إبداعية صورية، وغايته النفسية النبيلة ومقصده الذاتي الجمالي أن يعلو شأن قدرهم الروحي العرفاني والإنساني فيقول:

للمُحبينَ كراماتٌ

فإن هُم ركبوا البحرَ

استجابتْ للشراعِ الريحُ والموجُ

وأضفى للنداءِ المركبُ

فضلا عن هذا كله ألبسهم الشاعر السّماوي مزايا وصفات إنسانية حميدة أخرى تليق بهم.

وفي المظهر التكراري اللفظي الثاني يغدق عليهم بعطاياه النبيلة، فيمنح توادهم وحبّهم حمامة سلام في الرخاء والسلم، ويجعلهم ثورة حمراء تغلي مراجلها في شفير الحرب، فالمحبون عنده يمامات سلام وديعة في الحياة، لكنهم يتصيّرون عند الغضب وساعة الشّدّة سباعا مفترسةً، واسودا ضارية على  في الحرب على أعدائهم، وقد جسد فضيلة  هذا المشهد التناقصي الصوري بقوله:

والمُحبونَ على الودِّ يماماتٌ

ولكنّهم اللبوةُ والسبعُ

إذا هم غًضِبوا

وفي التمظهر التكراري اللفظي الثالث لدلالة المحبين يضفي عليهم السّماوي باب مشرعا من الخير للجار لعله يعني بابا للفرج من أبواب الحرية الواسعة. ويمنح أهلهم صفات السور الآمن الذي يصدّ عنهم الريح العاتية، فيجعلهم في عيش رغيد مطمئن هادئ  يبعد عنهم ريح الاعداء العاتية التي تهدد مصيرهم:

والمُحبونَ لدار الجارِ بابٌ

ولحيِّ الأهلِ سورٌ

وإذا هبتْ على الخيمةِ ريحٌ

ويتكرّر المشهد الصوري للمحبين في التمظهر الرابع، فيهبهم الشاعر صفة ومنزلة روحية عليا تجعلهم خاصية من خواص( رعايا الله) في أرض مملكة العشق الروحي السومري  التاريخي الخالد:

والمُحبونَ رعايا الله في مملكةِ العشقِ

فضلا عن هذا التكريم الروحي والجدلي المتجدد، لهم طباع وسجايا حميدة أخرى تلتصق بهم وتضفي عليهم إشارات التأصيل والعراقة والجدية والانتماء للوطن الخالد، فلهم طباع التنانير الأصيلة في عطاء الخبز، ولهم طبع النواعير العتيقة الصامتة في تدفق جريان الماء للحقل.

أمّا صفات التمظهر التكراري اللفظي الخامس لدلالة (المحبينَ) المعنوية، والذي افتتح به الشاعر مطلع قصيدته البائية المستمدة من باء المحبين المضاعفة، فقد صيره الشاعر  كتابا مفتوحا ناطقا لكل الأزمان بالبيعة الأولى من الأمس المنصرم إلى الغد الحاضر والمستقبل الآتي الذي يرفد جميع الكتب الأخرى ويثري معرفتها بمرجعياته الثقافية والفكرية الحضارية المتجذرة:

والمُحبونَ

كتابُ الأمسِ /واليومِ / الغدِ

الممتدّ حتّى آخرِ الدهرٍ ...

كتابُ البيعةِ الأولى الذي تنهلُ

منهُ

الكتبُ

ومما زاد في جماليات هذا النص الشعري دلالة وجمالا في موحياته الرمزية والمعنوية أن السّماوي الشاعر الباحث عن جمال الحياة في ذاته الشعرية، والمتقصي لوجوده الكوني في إبداعه الشعري الثر، قد عمد فنيّا إلى أن تكون براعة الاستهلال والتصدير  في ختام القصيدة بحسن جمال المطلع وكأنه دورة إيقاعية أسلوبية تواصلية لا تنفكّ عن بعضها بعضا، او حلقات سلسلة من الترابط الروحي والحسي الذي يكفل بعضه بعضا في التخليق الإنتاجي المتصاعد دراميا مع واقعية الحدث.

ومما أضفى على تجليات القصيدة وقعا جمالية وأسلوبيا آخر  توفيق الشاعر في توظيف هذه الخاتمة باستعارة بلاغية توائم طبيعة المحبين من أبطال قصيدته الذين وصفهم بكتاب عهد البيعة المفتوح الذي يصلح لكل الأزمان والأمكنة، ولا يموت إلّا بموت الشاعر وخفوت صوته الإبداعي الناطق بجلال الكلمة وحسن شرفها الدلالي الأسر.  وكأن لسان حال الشاعر الصابر العنيد في شعار الحياة يُنشد سرّا وعلانية ما كان يردده الشاعر الفلسطيني محمود درويش في المواجهة والتحدي لأعداء الحياة حين يقول صابرا ومحتسبا:

(أنا أول القتلى وآخرُ  من يموتُ)

وبالتأكيد أن الثائر السّماوي هو أول القتلى في المواجهة والتحدّي والأصرار على الحياة،  وهو آخر من يموت جسدا لا صوتا في إعلاء كلمة الحرية للوطن المنهوب شرفا، وللشعب المسلوب إرادة حرةً، هو الأمل والمعول، هو الجرح الغائر والمنجل، هو المحراث والتنّور، هو الفلاح للأرض الطيبة حين تُبذرُ وتُستسقى وتستثمر.فطوبى لشاعر يحيى أفنى العمر  كدحا وصبرا لكي يحيا.

 

 

د. جبّار ماجد البهادلي

....................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

المحبون / يحيى السماوي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم