صحيفة المثقف

البعد المكاني في مُديةُ الحكايا لحمودي الكناني

طارق الكنانيبعد مجموعة (آخر المطاف وأولي)  صدرت المجموعة الثانية للقاص حمودي الكناني  بعنوان (مُديةُ الحكايا) تحتوي  على سبعين نص ب 84 صفحة عن دار الفؤاد المصرية .

الدخول الى عالم حمودي الكناني

في قصصه القصيرة جدا، نجد في عالم حمودي الكناني الكثير من المتعة الحقيقية, لطالما اصغيت له وهو يحدثني ببعض هذه الحكايا، ففي سردياته هذه يحاول الدخول الى عوالم مختلفة من باب واحد ليلفت نظر القارئ الى ما يريد إيصاله من فكرة من خلال امساكه بالنص وإطاره العام مع تعدد أغراضه وشخوصه  حتى يبدو أنه في كل نص عالم جديد مختلف عن الآخر فهو يعمد الى تغيير الحبكة واجواء  القصة،حيث نجد ان الخيط الذي يمر من خلاله الى هذه النصوص واضح المعالم،تارة تجده حالماً يرغب في انجازات جبارة ولكنه يبقى حالماً،ففي قصتيّ (ايحاء وتوافق) تجد سمة التردد وعدم اتخاذ القرار تغلب على شخوص القصتين فهذا الحالم الذي يستظل بشجرة ليحلم بأعماله الجبارة التي بقيت مجرد احلام وكذلك التي واصلت السير حتى وصلت النهاية ومن ثم عادت ادراجها فهي لم تحسم امرها بالرغم من مسيرتها،فهذه الأنساق الفكرية المضمرة التي حاول الكناني ان يضمنها مجموعته القصصية تبدو هدفا رئيسيا لما يريد ايصاله الى المتلقي من خلال اعادة المشهد بأشكال متعددة،ففي (دوامة) يختلف المكان ويبقى بطل القصة مبتعدا عن المواجهة . فقد ادرك الكناني من خلال قراءته للواقع الحالي ما يعانيه الشارع من هذه الحالة فهو لم يحسم أمره بالرغم من الشكوى المريرة والدائمة فجاءت نصوصه لتوصيف هذه الاشكالية في الفكر الجمعي للمجتمع،فهو يتردد في الانتفاض بوجه الحاكم خوفا من أن يتهم وبنفس الوقت هو يحلم بالحرية وبقية استحقاقاته كشعب. 

ولم يكن حمودي الكناني بعيدا عن البعد الاجتماعي، وتصوير الدّلالات الإنسانيّة ففي قصص (لبوس  وجاذبية وعلى قمة موجة) صورة حيّة واضحة لما تخلّفه الحروب وما تسببه من دمار نفسي وانكسارات عاطفية بسبب الانظمة السياسية التي جاء بها الاحتلال، فكلّ الأسماء تُمحى ولا يبقى إلا النّقاء والصّفاء المتمثل بالطّبيعة، فما اسراب النمل في (جاذبية) ونهيق الحمارين في (قمم) إلّا إشارة إلى أعمال الإنسان وماديّاته التي أنتجها في الحياة، وما قصة (على المكشوف)  التي جعلت الفتاة تطلب من الحكيم علاجا في العناية المركزة الا دلالة على فطرة الحياة، وأيضًا على عاطفة الفتاة المحبّة الصّادقة. وتقدّم لنا صورة جميلة عن الصّراع الدّائم في الحياة بين الجسد والعقل، فالجسد قد هلك وتعب، بينما العقل يحث على البقاء والاستمرار. أمّا في قصة (مسلفنون)، فتصوير لمبدأ تربوي مهم وهو أنّ الانسان يتعلّم بالمحاكاة، فالخطيب كان واضحا ما يقصده بالفاكهة المستوردة والمحلية فهو يغوص في عمق الصراع القائم منذ سبعة عشر عاما بين الوافدين وبين المحليين، لكن التحذير بدا واضحا حين طلب منهم ان لا يبتئسوا ولا يتحرقوا، ولعلّ ذلك ينطبق على الكثير من مبادئ الحياة، فما نعلّمه قد لا نطبقه، فحالة البؤس والاحتراق تشع بها كتابات الكناني في هذه المجموعة .

وكما عاد الكناني إلى الطّفولة في كثير من قصصه، نجد عودته إلى هذه المرحلة الأساسية التي تعد بحسب التحليل النّفسي هي المكوّن الأساسيّ لشخصية الإنسان، فيقدّم لنا صورة إنسانيّة مؤلمة، وفيها تصوير للعلاقات الإنسانية  المتشظية التي تجلت في أكثر من صورة أولها مع نفسه – الأنا  وهي ثيمة  نجدها عند معظم القاصّين، يحاولون فيها العودة إلى دواخلهم وسط الضجيج والحياة الصاخبة التي تدنو إلى الخراب، فينقل صورة المكان ففي قصة (بكاء المكان)  تحرك هذا الطّفل الذي يسكن داخل القاص ومروره على تلك الامكنة التي عاش فيها مع الخضرة والنهر الذي كان يشخب بالماء وشحيح الماء الذي لم يعد يلامس جذور الكالبتوس. أو يرسم صورة في محاكاة الذات في (مدية حادة)، وبالتّلميح يرسل رسالته التي تشير إلى أثر الوحدة السلبي في (أمكنة)، وهي قصة رائقة تستوقفنا من حيث نسيجها السّردي، و تقنيته الأسلوبي هذا النّص البديع، فنحسّ بروح التّشكيل الأدبي، وحساسية التّعبير الفنّي.

إنّ الإشارة إلى الأبعاد الدّلاليّة للقصص تطول وتطول، وتدفعنا إلى الإسهاب والتّفصيل ونحن نحتاج فيه إلى الإجمال لا التّفصيل، لهذا نجد ان القاص قد اعتمد في مجموعته على بعض أسس القصة القصيرة جدًا، ومنها أوّلًا الميل إلى توظيف الجمل القصيرة، وإلى المجاز الاستعاري ونسقية الحذف والاضمار الذي تحقّق بشكل بارز مع استخدام علامة الترقيم الحذف (…)، وهي من اسمها تدلّ على ما يحمله النّصّ الوجيز من تأويلات وتخيّلات، فهذه العلامة مكوّن أساسيّ يحقّق التّواصل مع القارئ أو المتلقي، قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله وذهنه لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله؛ لأن توضيح دلالات المضامين وقصدياتها لا يمكن توضيحها أكثر من اللازم.

لقد تحققت الكتابة وفق أسلوب التّناقض المفاهيمي عند  حمودي الكناني في قصة وظيفة شاغرة، والمفارقة بين موقف الغراب والإنسان ليشير الكاتب إلى الطّبيعة البشريّة، أو قصة (اللاّ مُفترق)  ففيها إشارة إلى الأثر الذي يبقى ولا يندثر وإن انتهى الموقف.

في قصته (خروج عن النص) التي كانت تمثل المواجهة المباشرة حيث تخلى حمودي الكناني عن رمزيته وإيحاءاته التي تمتاز به سردياته ففي هذا النص كان بروز القاص الى خانة المواجهة واضحا وقد تخلى عن كل حذره ويبدو واضحا ان النصوص التي سبقت هذا النص والذي كان يعيش داخل جلباب الانسان الحالم وهو مستظل بفيء شجرة تردد مخيلته احلاما عريضة لا سبيل الى تحقيقها وبهذا النص اراد ان يقول لنا انه عثر على السبيل الصحيح لتحقيق هذه الاحلام .

لقد استمر الكاتب في الهاب مشاعر القارئ من خلال توظيفه للمفاهيم الوطنية والعقائدية في نصوصه (تلوّن ورحى ومعصرة  ور... خص!) بالرغم من استحواذ خاصية المكان على المجموعة القصصية فالنصوص (امكنة، ومكان، وبكاء مكان، وزمكنة،تحت القبة، سفوح، قمم) وغيرها من النصوص التي هيمنت على البعد المكاني في سرديات الكناني حيث اخذت حيزا كبيرا في النص القصصي دلالة واضحة على تعلقه بالأمكنة التي عاش فيها فهو يرى العالم من خلالها وهي عنده معيار حقيقي للقياس على ما آلت الامور اليه في الوقت الحاضر .

مدية الحكايا اضافة جديدة للأدب القصصي والقصة القصيرة جدا في العراق ولا ابالغ ان اقول في الوطن العربي فأسلوب الكناني الاخاذ برسم صورة الحدث مؤطر بالمكان وتوصيفاته السردية تجعل من القارئ يعيش تلك اللحظات على قلتها وكأنها دهرا.

 

طارق الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم